خلال سنوات قليلة، نقلت جيورجيا ميلوني حزبها "إخوة إيطاليا" (فراتيلي ديتاليا)، المتهم بأنه فاشي الهوى، من حزب هامشي (حقق فقط 4 في المائة في انتخابات 2018) إلى صدارة المشهد السياسي في إيطاليا، مع توقعات بحصوله على أكثر من ربع أصوات الإيطاليين وفق استطلاعات تسبق الانتخابات البرلمانية المقررة في 25 سبتمبر/أيلول الحالي.
وبذلك، يتجاوز الحزب مكانة أحزاب عريقة في إيطاليا، ما يجعل الحدث غير اعتيادي أيضاً على المستوى الأوروبي، مع تقدّم حققه كذلك اليمين المتطرف السويدي (حزب "ديمقراطيي السويد" القومي)، في ظلّ قيادات شابة وغير تقليدية. وفي إيطاليا، تكمن الخصوصية في أن تقدم اليمين المتطرف يحصل تحت قيادة سيّدة شابة في عقدها الرابع، وفي جعبتها تاريخ مثير للجدل.
ولا يخفى أن ميلوني تسعى إلى ترجمة هذا الصعود التاريخي لحزبها بالوصول إلى رئاسة الحكومة الإيطالية، وبكثير من الانفعال والحيوية في حملاتها الانتخابية التي تجاوزت بلدها، بدعوة حزب "فوكس" الإسباني المتطرف لها، لإلقاء خطاب نهاية يوليو/تموز الماضي في ماربيلا.
يتوقع حصول "إخوة إيطاليا" على أكثر من ربع أصوات الإيطاليين وفق استطلاعات الرأي
وفي هذه الحملة، شنّت زعيمة حزب "إخوة إيطاليا" هجوماً لاذعاً على ما تعتبره أجندات تستهدف مجتمعات أوروبا لإبعادها عن قيم الأسرة المسيحية من خلال حركات "المثلية الجنسية ولوبياتها"، وفتح أبواب الهجرة إلى القارة.
ولم تنسَ ميلوني التذكير بأنها "ضد العنف الإسلامي". وداخل بلدها، تركز كثيراً على ضرورة المحافظة على "العائلة الطبيعية في وجه محاولات الأيديولوجية الجنسانية ولوبيات المثليين".
رياح الأزمة الإيطالية والحنين إلى الفاشية
تستغل ميلوني وضع إيطاليا المأزوم، لشنّ هجمات لاذعة على النخب والأحزاب ومؤسسات الحكم، وهي تدرك أن الناخبين في مجتمعها "بلا جذور حزبية"، وأنهم يصوتون لحزبها، وإن أثير حوله غبار الفاشية.
انتهازية التطرف اليميني في إيطاليا، شأن بقية المعسكر في أوروبا وخارجها، يحقق نقاطاً لا بأس فيها برفع الصوت النقدي ليطاول أسس حياة المواطنين، برمي تهمة سوء أوضاعهم على الطبقة السياسية التقليدية، بما يعود بمنفعة كبيرة على الخطاب الشعبوي المخاطب لمشاعر الإحباط الشعبي وسط الأزمات في البلد.
ووصفت أستاذة العلوم السياسية في "الجامعة الأميركية" في روما، سيسيليا إيما سوتيلوتا، في تصريحات لصحيفة "إنفورماسيون" الدنماركية، الناخبين الإيطاليين بأنهم "بلا جذور حزبية وغير موالين للأحزاب".
وأعادت ما يجري إلى "معاناة الناخبين من زعماء سياسيين متنافسين، ما يدفعهم باستمرار للبحث عن السياسي التالي، الذي يأملون أن يتمكن من حلّ مشاكل البلاد العديدة وعميقة الجذور والمتمثلة في النمو الصفري والبطالة المرتفعة والديون الضخمة والنظام العام المؤلم".
عملياً، أدى تصارع ديوك وثعالب السياسة الإيطالية إلى تخلي التكنوقراطي ماريو دراغي عن رئاسة حكومة "الوحدة الوطنية"، في يوليو/تموز الماضي، في أصعب الظروف الاقتصادية التي تمر بها البلاد. هذه الأزمة عمّقتها جائحة كورونا في ربيع 2020، والاختلاف على صرف نحو 200 مليار يورو من المنحة الأوروبية للتعافي، ليجد حزب "إخوة إيطاليا" مبتغاه، هو الذي بقي متفرجاً لوقت على تأزم الحكم في روما.
واللافت أنه خلال السنوات الأخيرة، ومع المدّ الشعبوي الغربي، لعبت ميلوني أوراق حزبها بالضرب تحت حزام كل مؤسسة الحكم ودغدغة مشاعر الإيطاليين، وباعتبارها تُقدّم لإيطاليا "ثورة حديثة" لتجديدها، وبوعود بالاستقرار المفقود.
وجه ميلوني ليس جديداً على الإيطاليين، فهي وزيرة سابقة في حكومة سيلفيو برلسكوني بين عامي 2008 و2011. تولت وزارة محببة إليها، "الشباب". كيف لا، وهي ذات المنبت الفاشي حين انخرطت وهي في الخامسة عشرة من عمرها في حركة شباب حزب الفاشيين، "الحركة الاجتماعية الإيطالية"، والذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية من قبل أنصار الزعيم الفاشي بينيتو موسوليني.
إذاً، شبح المنبت الفاشي الذي يطارد ميلوني، ليس من دون أسس. وهي ذهبت في الحملة الانتخابية لعام 2018 إلى اللعب على وتر جذورها الفاشية لجلب أصوات الذين يعيشون الحنين إلى "الماضي القوي لموسوليني".
وأخذتها حينها حملتها الانتخابية إلى مدينة لاتينا، في جنوب البلاد، والتي أسسها موسوليني في عام 1932، لتقف على مسرحها مستعرضة وعوداً تخاطب بشكل مبطن ذلك الحنين، برفقة حفيدة موسوليني، راشيل موسوليني.
وكان تأسيس ميلوني لحزب "إخوة إيطاليا" في 2012، بعد حلّ حزبها السابق "التحالف الوطني" (Alleanza Nazionale)، قد أثار مخاوف أحزاب تقليدية، تنتمي إلى اليسار ويسار الوسط على وجه الخصوص. فروابط الفاشية الجديدة يمكن حتى ملاحظتها في شعار "إخوة إيطاليا" من خلال شعلة ثلاثية الألوان، وتصريحات زملاء لها في الحزب يمجدون الحقبة الفاشية وحاجة إيطاليا إليها.
بل إن أحفاد وأقارب موسوليني يلعبون أدواراً متعددة في تقوية شعبية هذا الحزب بين الناخبين. والمقلق أن الطبقة العاملة وفقراء الجنوب أكثر ميلاً للتصويت لميلوني وحزبها، وهو تعبير عن أزمات اليسار ويسار الوسط أيضاً.
عزف على المشاعر القومية
لعل "إل دوتشي" (لقب موسوليني) يبتسم في قبره ببلدة بريدابيو الصغيرة، غير بعيد عن ساحل البحر الأدرياتيكي، وهو يرى هذا الصعود التاريخي المتجدد للفاشيين على يد ميلوني، التي بدأت تزور القبر مبكراً في شبابها.
أحفاد وأقارب موسوليني يلعبون أدواراً متعددة في تقوية شعبية حزب ميلوني
فالفاشيون الإيطاليون يؤمنون بنبوءة يتناقلونها منذ أن عُلّق "إل دوتشي" رأساً على عقب على خطاف لحم بعد إعدامه في 1945: "سوف نُولد من جديد". وبناء عليه، من غير المعقول أن يخذل سكان بريدابيو، وعشرات آلاف حجّاج موسوليني، "الزعيمة ميلوني".
وعلى الرغم من محاولة ميلوني الظهور "معتدلة"، متشبهة بزعيمة "التجمع الوطني" الفرنسي المتشدد، مارين لوبان، بل واعتبار حزبها ينتمي إلى أسرة "المحافظين البريطانيين والجمهوريين الأميركيين والليكود الإسرائيلي"، فإن ثقل الإرث الفاشي يلاحقها.
ويعتبر الحزب الديمقراطي محاولات ميلوني "تنظيفاً لوجهها الفاشي". كذلك يحذر معارضوها الناخبين من التصويت لـ"إخوة إيطاليا" ولها، لأنه يعني بنظرهم ضرب الديمقراطية ووصول البلاد إلى حالة صدام مع أوروبا، وهو ما عبّر عنه أخيراً "الحزب الديمقراطي" على لسان القيادية فيه لورا بولدريني.
اتهام ميلوني بالميول الفاشية ليس نظرياً، فخلال الصيف تناقل الإيطاليون شريطاً يظهر زعيمة "إخوة إيطاليا" حين كانت في التاسعة عشرة من عمرها، وهي تمجد موسوليني أثناء مقابلة لها مع قناة تلفزة فرنسية.
وعلى الرغم من محاولة إبعاد الشبهات عنها، وقولها إنه "لا مكان للحنين الفاشي" في حزبها، فثمة مؤشرات كثيرة تتقاطع فيها الأفكار والوعود مع ما تذهب إليه صراحة الفاشية الجديدة في إيطاليا وأوروبا.
وإلى جانب أن ميلوني تلعب لعبة "الغموض" بشأن توجهاتها الفاشية، لجذب أصوات الناخبين والمحتجين على النظام السياسي برمته، إلا أنها لا تبتعد عن سرديات جزء من المعسكر الغربي الذي يقدّم نفسه، من بين أمور أخرى، على أنه ضد "النخبة العالمية الفاسدة"، من دون تحديدها بشكل صريح.
بل إن خطابها يدغدغ مشاعر التطرف القومي حين تتحدث صراحة عن رؤيتها لإيطاليا المستقبل، المستعيدة لما تسميه "السيادة الشعبية في وجه البيروقراطيين في بروكسل" (أي الاتحاد الأوروبي).
ولا تنسى ميلوني الحديث المكثف عما تسمّيه "قيمنا"، في لعب واضح على مشاعر مجتمع أغلبيته كاثوليكية، في مواجهة "مخاطر المثلية الجنسية"، وضرورة تأمين الحدود في وجه الهجرة، بل وفرض حصار على المياه الليبية لمنع أمواج الهجرة السرية. ويأتي ذلك بعد سوق تعميم عنصري يطاول المهاجرين باعتبارهم "مغتصبين" ويساهمون في "تدمير الاقتصاد"، بل تظهر نفسها على أنها تحارب "استعبادهم في العمل في المزارع".
وكلّ ذلك يأتي بالطبع إلى جانب نظرة زعيمة "إخوة إيطاليا" النمطية إلى الإسلام باعتباره "مصدر العنف"، ورفعها مستوى خطر الاستقطاب القائم على تحريض ضد مواطنيها من أصول مسلمة. ذلك وغيره الكثير من التطرف يثير مخاوف اليسار ويسار الوسط في تشجيع العنف ضد المهاجرين واللاجئين، خصوصاً أن مؤيديها في الحركة الفاشية يؤمنون بالفعل بالعنف سبيلاً لطرد هؤلاء.
إجمالاً، وإذا صدقت الاستطلاعات بحصول "إخوة إيطاليا" على أكثر من 25 في المائة من الأصوات في الانتخابات، فإن الخريطة السياسية والحزبية في روما ستكون في أصعب مراحلها منذ نحو سبعة عقود.
ومن المتوقع أن يحصل حزب ميلوني، مع حزبي "ليغا" (ماتيو سالفيني) و"فورزا إيطاليا" (سيلفيو برلوسكوني) على أكثر من 40 في المائة من الأصوات، وهو ما دفع زعيم "الحزب الديمقراطي" إنريكو ليتا الأسبوع الماضي إلى اعتبار أن ما يجري يستدعي "دقّ أجراس الإنذار لكل الديمقراطية الإيطالية".