مرّت الذكرى 42 لتأسيس حركة "النهضة" التونسية، في 6 يونيو/ حزيران الحالي، مختلفة عن سنوات ما بعد الثورة من ناحية التنظيم والحشد والإقبال. وحلّت الذكرى هذا العام وسط حظر مفروض من قبل السلطة على مقرات الحركة ومحاصرة نشاطاتها واعتقال رموزها.
لكن على الرغم مما تتعرض له الحركة، الأكثر تنظيماً خلال السنوات الماضية، فإنها بدت أقل قدرة على التحشيد في الشارع، لتبرز تساؤلات عن أسباب انحسار شعبيتها وتأثيرها.
وإذا كانت آراء عدة تتفق على أن حركة "النهضة" اليوم تعيش أحلك فتراتها، في أجواء شبّهها متابعون بسنوات التأسيس الأولى، زمن الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، ومن بعدها نضالات التسعينيات في زمن زين العابدين بن علي، فإن الحركة تجد نفسها أمام دعوات لإجراء مراجعة شاملة لتجربتها، خصوصاً في مرحلة ما بعد الثورة وما تلاها من تحالفات وقرارات.
أجواء ملبّدة في ذكرى تأسيس "النهضة"
تأتي ذكرى التأسيس الـ42 لحركة "النهضة" وسط اعتقال ومحاكمة أبرز رموزها وقياداتها، وفي مقدمتهم رئيسها (ورئيس البرلمان المنحل من قبل الرئيس التونسي قيس سعيّد)، راشد الغنوشي، ونائبيه علي العريض ونور الدين البحيري، وأيضاً قيادات أخرى في الحركة من الصف الأول أحيوا ذكرى التأسيس من وراء القضبان.
وأحيت قيادة الحركة ذكرى تأسيسها بخروج إعلامي وبيان، في ظل تواصل غلق مقراتها منذ 18 إبريل/ نيسان الماضي، ليطالب رئيس الحزب بالإنابة منذر الونيسي بإطلاق سراح المعتقلين والتنديد بالوضع السياسي المتردي والدعوة إلى الوحدة واستعادة الديمقراطية.
وأصبحت حركة "النهضة"، بعد الثورة، من أبرز القوى السياسية في المشهد السياسي التونسي، وحصلت في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي (البرلمان الذي صادق على دستور الثورة) يوم 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2011، وهي أول انتخابات بعد الاعتراف بها قانونياً إثر سقوط نظام بن علي، على المرتبة الأولى بـ89 مقعداً من أصل 217.
شبّه متابعون ما تعيشه "النهضة" اليوم بسنوات التأسيس الأولى، زمن الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة
وتراجعت "النهضة" انتخابياً في انتخابات 2014 التشريعية، لتحوز على المركز الثاني في البرلمان، بعد حزب "نداء تونس"، بحصولها على 69 مقعداً من أصل 217 أي بخسارة نحو 20 مقعداً، وواصلت التقهقر في انتخابات 2019 التي ترشح فيها زعيمها راشد الغنوشي، لتحصل على 52 مقعداً فقط من أصل 217 مقعداً.
وتقهقر خزان "النهضة" الانتخابي بوضوح خلال العشرية الماضية، حيث تظهر أرقام ونتائج الانتخابات التشريعية لعام 2011، التي أفرزت المجلس الوطني التأسيسي، حصولها على مليون و498 ألفاً و905 أصوات، أي بنسبة تقارب 36.97 في المائة من مجمل الأصوات، لتتصدر حينها المشهد البرلماني ومنظومة الحكم السياسي.
ولكن في انتخابات 2014، تقلص حجم الأصوات، إذ حصلت الحركة على 947 ألفاً و14 صوتاً، أي نسبة 27.29 في المائة من مجموع المقترعين، ما جعلها تخسر المركز الأول لمصلحة "نداء تونس".
وفي 2019، تقهقر الخزّان الانتخابي لـ"النهضة" بوضوح أكثر، حيث حصلت على نحو 561 ألفاً و132 صوتاً، أي نسبة 19.55 في المائة من مجموع المقترعين، ما جعل المتابعين يتحدثون عن خسارة نحو مليون ناخب خلال عشرية الحكم.
ولكن على الرغم من تراجع شعبيتها، فقد بقيت "النهضة" متصدرة للمشهد الحزبي في تونس، كأكبر الأحزاب في هذا البلد وأكثرها تنظيماً وقدرة على التعبئة.
وأظهرت الحركة قوتها في آخر مسيراتها، وهي "مسيرة الثبات وحماية المؤسسات"، في فبراير/ شباط 2021 احتجاجاً على استمرار أزمة التعديل الوزاري بين حكومة هشام المشيشي وسعيّد، حيث نزلت "النهضة" بثقلها إلى الشارع وخطب زعيمها الغنوشي في أنصاره، ما دفع منافسيه ومعارضيه إلى اتهام الحركة باستعراض قوتها الشعبية والجماهيرية (حشدت المسيرة حينها بحسب منظميها حوالي 250 ألف مشارك).
وبعد انقلاب سعيّد في 25 يوليو/ يوليو 2021، لم تحشد "النهضة" ولا حتى "جبهة الخلاص الوطني" المعارضة التي تعد "النهضة" أبرز مكوناتها، بالزخم نفسه وبالعدد الذي كانت تجمعه الحركة قبل الانقلاب.
وأكد القيادي البارز في "النهضة" بدر الدين عبد الكافي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "وضع النهضة اليوم بالإمكان وضعه في كامل السياق السياسي باعتبارها حزباً ديمقراطياً يناضل من أجل عودة الديمقراطية والإنعاش الاقتصادي وتحقيق الاستقرار الاجتماعي". ولفت إلى أن "القيادة التنفيذية وشورى النهضة تواصلان النشاط والاجتماعات عن بعد في إطار الممكن والمتاح بعد غلق مقراتها، وغلق مقرات جبهة الخلاص من دون مبرر قانوني، رغم عدم العثور داخل مقراتها على ما يدين الحركة ويتعارض مع القانون". وشدّد على أنه "من المبالغ فيه القول إن النهضة حزب محظور، بل هو حزب محاصر ومضيّق عليه ويتم تعطيل نشاطه".
ووصف عبد الكافي الانسحابات والاستقالات من "النهضة" (آخرها للقيادي محمد القوماني)، بـ"الأمر الطبيعي الذي حدث سابقاً ويحدث داخل أي حزب سياسي، ولا يمكن الحديث عن هروب من الحركة أو خشية من الالتحاق بها، باعتبار أن النهضة ازدهرت في مناخات الحرية والديمقراطية بعد الثورة". واعتبر أنه "في مناخات الخوف والمرسوم 54 (أصدره سعيّد ويتعلّق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال) والمحاكمات والاعتقالات العشوائية، فمن الطبيعي أن يضعف الإقبال".
ولفت عبد الكافي إلى أن "المؤتمر العام لحركة النهضة كان مبرمجاً في شهر يونيو الحالي ولكن أمام تواصل غلق المقرات والملاحقات والتضييقات ووضع عدد من قيادات الحركة، لا يبدو ممكنا تنظيم مؤتمر الحركة ومن السليم تأجيل انعقاده". وأشار إلى أن "وضع النهضة التنظيمي الداخلي يعد أمراً ثانوياً أمام ما تعيشه البلاد من قضايا وطنية مستعجلة على جميع المستويات".
وبرأيه، فإنه "من الاعتباط الحديث عن تراجع شعبية النهضة، لأن الشعبية تقاس في الانتخابات وفي مناخات الديمقراطية والتنافسية، وفي هذا الوضع الذي تقاوم فيه النهضة وتناضل ضد استهداف الديمقراطية لا يمكن قياس ذلك". ووصف تراجع قدرة الحركة على التعبئة جماهيرياً وميدانياً "بأن هذا الضعف مرّده غلق المقرات الذي يمسّ بالإقبال والتعبئة، والمحاكمات العشوائية والتضييقات ومناخ الخوف الذي استهدف كل الطبقة السياسية والنخب من أحزاب ومنظمات وقضاة وإعلام، فهناك تقهقر في كامل المشهد". واستدرك عبد الكافي بأن "النهضة ليست مقرات فقط، بل هي تاريخ ونضالات وفكر متأصل في وجدان وضمائر جيل من المناضلين".
وحول تشبيه وضع "النهضة" اليوم بزمن السرية وحظر الحزب وتهجير قياداته ومحاكمتهم خلال التسعينيات، بيّن عبد الكافي أنه "لا يجوز الإسقاط التاريخي على واقع اليوم، فبعد الثورة وتجربة الحريات والتعددية لن يقبل هذا الجيل بالعودة إلى مربع الاستبداد"، بحسب توصيفه.
غياب المراجعات وأخطاء الحكم
من جهته، لفت القيادي المستقيل من "النهضة" محمد القوماني، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن "حركة النهضة كانت في الحقيقة في تراجع شعبي مستمر من انتخابات إلى أخرى، غير أنها لم تجر أي مراجعات"، مضيفاً أن "الحركة انتقلت من حزب قائم على موالين على أساس عقائدي إلى حزب سياسي يتعاقد مع الناخبين".
حلّت "النهضة" في المرتبة الأولى في انتخابات ما بعد الثورة لكن شعبيتها تراجعت تدريجياً
وفسّر العضو السابق في الحركة "أسباب التراجع الشعبي بأن حركة النهضة، وعلى الرغم من أنها حزب شعبي، إلا أنها لم تكن حزب الأغلبية في أي مرحلة من المراحل، بما في ذلك عام 2011 الذي حققت فيه فوزاً بنسبة (تقارب) 40 في المائة من الأصوات".
وأضاف القوماني أن "الناخب يتعاقد مع الحزب السياسي على أساس المنافع والوعود المحققة والمطالب التي تمت تلبيتها"، مشيراً إلى أن "حركة النهضة لم تنتبه إلى هذه النقطة وهو ما يفسّر خسارة جزء من جمهورها الانتخابي الجديد، نتيجة عدم القيام بالمراجعات اللازمة وارتكابها أخطاء أثناء فترة الحكم".
وتحدث القوماني "عن عدم قيام النهضة بتشبيب (إدخال عناصر شابة) قواعدها خلال السنوات الماضية"، معتبراً أن "أغلب الأحزاب السياسية لم تفهم الأجيال الجديدة ولم تستجب لمتطلباتها".
ورأى القيادي المستقيل من "النهضة" أن "الحزب لم ينجح في تجديد الأدوار بعد أكثر من 40 عاماً من تكوينه"، لافتاً إلى أن "متطلبات الجيل الجديد تختلف عن متطلبات الجماعة الإسلامية".
من جهة أخرى، أشار القوماني إلى أن "عموم الشعب تشفوا في حلّ المؤسسات ما بعد 25 يوليو، حتى وإن كان ذلك بطريقة غير دستورية، لأن الشعب لم يجد معاني الكرامة المنشودة في ثورته وعلى رأسها التشغيل والتنمية، حيث طغت على المرحلة المعارك السياسية والأيديولوجية".
وانتقد القوماني "تآكل الجسم النهضوي داخلياً بسبب عدم استجابة القيادة لمطالب القاعدة النهضوية التي لم تعد مستعدة للمغامرة دون وضوح لأجل قيادة الحركة".
من جهته، ذهب المؤرخ والمحلّل السياسي محمد ضيف الله، في حديث لـ"العربي الجديد"، لاعتبار أن "حركة النهضة غير موجودة في الوقت الحاضر ولا نكاد نسمع لها موقفاً ولا تأثيراً في الشارع، وكأنما رجعت إلى وضعية تسعينيات القرن الماضي، في وضع شبيه بما سمي بالعمل (السرّي) في تلك الفترة، ولكن في المطلق لا يمكن القول إنه قضي على النهضة، فالقمع لا يقضي على الأحزاب". وأكد ضيف الله أن "حركة النهضة بقيت حوالي 20 عاماً غير موجودة على الساحة التونسية ولا تذكر في وسائل الإعلام حتى سلباً، ولكنها في حقيقة الأمر ظهرت بعد الثورة".
وإذ أكد ضيف الله أنه "من باب التمني لدى البعض أن يقع القضاء على النهضة بالقمع والسجون وغيرها من الوسائل"، لكنه لفت إلى أن الحركة "شئنا أم أبينا، لديها حضور اجتماعي وتلتقي مع المناطق الداخلية ومع الأحياء الفقيرة في تونس العاصمة والمدن الكبرى، فهي ليست مجرد حزب كما حال بقية الأحزاب التي لديها نخب في العاصمة فقط وتأثيرها محدود، بل هي ممتدة اجتماعياً في العديد من المحافظات والجهات".
واعتبر ضيف الله أن "حركة النهضة التي فازت في الانتخابات السابقة بنسب كبيرة لا يمكن القضاء عليها بجرّة قلم، وبالتالي تاريخياً لا يقضي القمع على الحركات بهذه السهولة".
وبرأي المؤرخ والمحلّل السياسي، فإن "وجود النهضة في السلطة خلال العشرية الماضية أضرّ بها أكثر مما أضر بها القمع قبل الثورة، ففي فترة سلطتها، اهترأت حركة النهضة وتقهقرت وبيّنت أنها لا تتجاوب مع ناخبيها وقاعدتها الشعبية على مستوى برنامجها الانتخابي، فبرزت كحركة ليبرالية بعيدة عن القاعدة التي انتخبتها من الفقراء والمهمشين". وأضاف في هذا الصدد: "وكأن القاعدة انتخبت حينها برنامجاً ليس موجوداً إلا في مخيلتها، فظهرت لها قيادة ليبرالية لها حساباتها"، معرباً عن اعتقاده بأن ذلك "أضر بحركة النهضة وشعبيتها أكثر مما أضر بها استبداد بن علي سابقاً أو مما أضر بها القمع الحالي أو ما سيسلط عليها مستقبلاً"، بحسب تعبيره.
أظهرت الحركة قوتها في آخر مسيراتها، "مسيرة الثبات وحماية المؤسسات"، في فبراير 2021
أما المحلل السياسي والباحث سامي براهم، فاعتبر أن "حركة النهضة اليوم هي في حكم المنحلّة، بعدما تمّ غلق مقراتها ومنع نشاطها وسجن قياداتها بملفات خاوية وحملات الشحن والتحريض والشماتة والافتراء التي تلاحقها، وشهادات الوفاة وإعلان النهايات التي تصدر عن النخب الوظيفية البائسة المتخصصة في تزييف الوعي ونشر ثقافة الكراهية والضغينة"، بحسب تعبيره. وأضاف: "وكأنّ النهايات تحدّدها القرارات السياسية التعسفية لا الحاجات الاجتماعية وقوانين علم الاجتماع".
وبيّن براهم في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "النهضة هي اليوم جزء من مسار انتقال ديمقراطي أفناه أهله بمنطق "عليّ وعلى أعدائي" وساهمت هي نفسها في إفنائه بصمّ أذنيها عن أصوات الناصحين من داخلها وخارجها". واعتبر أن هناك مساراً "لا يمكن أن يستأنف إلا بالنقد الذاتي الجماعي وعودة الوعي".
وفي هذا السياق "الملتبس والمنتكس"، بحسب وصفه، اعتبر الباحث السياسي أن "أكبر المتضررين هم أولئك الذين دفعوا أعمارهم وضحّوا بالغالي والنفيس من أجل ما آمنوا به من قضايا عادلة، والذين ما فتئت ألسنة السوء تلاحقهم وسياسات الإقصاء تستهدفهم". وبرأيه، فإن "هؤلاء هم القيمة الثابتة التي لا يمكن كسر إرادتها وقتل حلمها وتبديد ذاكرتها".
ولفت إلى أنه في كل الأحوال "ومهما قلنا عن أخطائها وتجاوزاتها ومواطن قصورها، وأن أخطاءها مهما اعتبرت كبيرة، فهي ممّا يرتكب في سياق تحديات الحكم ولم ترتق لما يستحقّ التجريم القانوني الجزائي رغم كل محاولات تجريمها التي تنقلب كلّ مرّة إلى صكّ براءة من التهم التي يراد إلصاقها بها". وأوضح أن أخطاء "النهضة" هي "أخطاء الحكم التي ترتكب في كلّ الديمقراطيات العريقة فتحاسب عليها أحزاب الحكم إعلامياً وسياسياً ومعرفياً ويصدر الحكم النهائي في محكمة الديمقراطية العليا يوم الانتخابات"، بحسب تعبيره.
وخلص المحلّل السياسي إلى أن "أكبر أخطاء النهضة بحسب متابعتنا من موقع الباحث، هو ما اعترفت به هي نفسها في اللائحة التقييمية لمؤتمرها العاشر (2016) وصادقت عليه في مؤتمرها بما يقرب من 50 نقطة نقد ذاتي لم تتعظ منها"، بحسب تعبيره.
ومن النقاط التي طرحها مؤتمر النهضة العاشر، تقييم تجربة الحركة من السبعينيات إلى الآن، وطبيعة الحركة وتحولها من الدعوية إلى السياسية ومراجعة الرؤية الفكرية لـ"النهضة" والاستراتيجية السياسية المستقبلية لها إلى جانب الإصلاحات الهيكلية داخل الحركة.