استمع إلى الملخص
- توقعات بفوز اليمين المتطرف تثير مخاوف من توترات اجتماعية وشلل المؤسسات الدستورية، مع انقسام المراقبين بين اعتبار القرار قفزة في المجهول واللعب بالنار، بينما ترحب زعيمة اليمين المتطرف بالقرار.
- في حال فوز اليمين المتطرف، يواجه ماكرون تحدي إدارة أزمة التعايش ويدفع الوضع القوى السياسية لإعادة تقييم استراتيجياتها والتفكير في تحالفات جديدة لمواجهة التحديات المستقبلية.
استفاقت الطبقة السياسية الفرنسية صباح أمس الاثنين على حالة من الغليان نتيجة قرار الرئيس إيمانويل ماكرون المفاجئ حلّ الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) والدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة في 30 يونيو/حزيران الحالي، ثم في 7 يوليو/تموز المقبل. وتأتي الانتخابات الفرنسية المبكرة المرتقبة، على ضوء النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات الأوروبية في فرنسا وحلول اليمين المتطرف في المرتبة الأولى بنسبة أصوات مضاعفة لحزب الرئيس (النهضة)، بما نسبته 31.5% في مقابل 15%.
ومع أن النتيجة كانت متوقعة، فإن ماكرون أعلن أنه لم يعد بوسعه "أن يتصرف وكأن شيئاً لم يكن"، وقرّر "وضع خيار المستقبل" بين أيدي الفرنسيين عبر حلّ البرلمان والدعوة إلى انتخابات فرنسية تشريعية مبكرة فاجأت كل الطيف السياسي.
الانتخابات الفرنسية المبكرة تفاجئ الجميع
للوهلة الأولى، بدا من الصعب توصيف هذا قرار الانتخابات الفرنسية المبكرة الذي قلب الطاولة في وجه الجميع، بدءاً بالسياسيين وصولاً إلى الناخبين، واضعاً الكل أمام ضرورة الاختيار بين إعطاء حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف غالبية برلمانية، أو إصلاح الخلل الذي حكم الانتخابات النيابية في العام 2022، وحرم التحالف الرئاسي حينها من غالبية برلمانية تمكنه من إكمال ما تبقى من سنوات عهده (2027). حرمان من غالبية برلمانية أرغم حكومات ماكرون على الاستعانة ببند دستوري استثنائي يتيح تمرير القوانين في البرلمان دون أن يصوت عليها المجلس النيابي. هذا الرهان من خلال تنظيم الانتخابات الفرنسية المبكرة وما ينطوي عليه من مخاطر تحقيق اليمين المتطرف الغالبية البرلمانية، هو الذي أدى إلى الصدمة، خصوصاً أنها المرة الأولى التي يُجري فيها أي بلد أوروبي انتخابات مبكرة على خلفية نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي.
ستقتصر ولاية ماكرون على إدارة الأزمة إذا فاز اليمين
وحلّ في المرتبة الثالثة الحزب الاشتراكي، الذي تمكن من استعادة قسط من عافيته بحصوله على 14% من الأصوات، وتلاه حزب فرنسا الأبية اليساري الراديكالي بزعامة جان لوك ميلانشون والذي حصل على 9.1% من الأصوات. وفشل حزب "الجمهوريين" اليميني بزعامة إريك سيوتي في تحسين موقعه، واقتصرت نسبة الأصوات التي حصل عليها على 7%، فيما سجل حزب الاسترداد، على أقصى اليمين المتطرف ويتزعمه إريك زيمور، بعض التقدم وحاز 5.3% من الأصوات.
يتضح من هذه النسب أن اليمين المتطرف هو اليوم الأوفر حظاً بالفوز في الانتخابات الفرنسية المبكرة وأن ماكرون سيجد نفسه مضطراً لتسليمه زمام الحكومة الفرنسية المقبلة، في إطار ما قد يكون أول حكومة تعايش مع اليمين المتطرف في تاريخ الجمهورية الخامسة. وسيكون جوردان بارديلا مرشح اليمين المتطرف لرئاسة الحكومة. هذا أسوأ الاحتمالات، مع ما يعنيه ذلك من توترات اجتماعية وشلل حتمي لعمل المؤسسات الدستورية، نظراً للتضارب في المواقف والطروحات والخيارات بين ماكرون واليمين المتطرف الذي سيعزز شعبيته خلال الانتخابات النيابية، بانضمام ناخبي "الاسترداد" إليه في الجولة الثانية خصوصاً.
ومن هذا المنطلق، احتار مراقبون بين وصف قرار حلّ البرلمان بأنه قفزة في المجهول، أو تصرف عديم المسؤولية، أو لعب بالنار أو حتى انتحار سياسي، خصوصاً أن زعيمة حزب التجمع الوطني مارين لوبان سارعت للتعليق على قرار ماكرون بالترحيب فيه، قائلة "إننا في جهوزية تامة لتولي الحكم"، وإن "إرادتنا تقضي بالحصول على غالبية برلمانية قوية خدمة للفرنسيين".
وفي حال تحقق هذا الاحتمال، فإن ما تبقى من ولاية ماكرون الرئاسية الثانية حتى العام 2027 سيقتصر على مجرد إدارة لأزمة التعايش، من دون التمكن من إحراز أي تقدم في أي من المجالات، وهو ما يثير حالة من التوجس العام في البلاد وقلقاً كبيراً على المستقبل. لكن البعض يرى أن خوض تجربة التعايش المريرة هذه قد يكون مجدياً، لإظهار عدم جدارة اليمين المتطرف لتولي مقاليد السلطة وبالتالي الإحجام عن إيصاله إلى سدة الرئاسة عبر الانتخابات المقبلة، ما يعني أن ماكرون يضحي بما تبقى من حكمه لقطع الطريق على لوبان إلى القصر الرئاسي.
عكس ذلك، يعتبر آخرون أن ماكرون يراهن ربما على إحداث يقظة لدى الفرنسيين غير المؤيدين لليمين المتطرف تحملهم على التعبئة في الانتخابات المقبلة، والالتفاف مجدداً حول مرشحي حزبه بما يتيح له استعادة غالبيته البرلمانية، رغم أن كثيرين لا يعولون على مثل هذه اليقظة، ويؤكدون أن مثل هذا الأوان فات منذ إعادة انتخابه لولاية ثانية بعد منافسته للوبان. من هذا المنطلق، دعا وزير الخارجية الأمين العام المساعد لحزب النهضة ستيفان سيجورنيه مناصري الحزب إلى عدم الاستسلام للواقع بل السعي إلى تغييره عبر صناديق الاقتراع، مشيراً إلى أنه "أمامنا 20 يوماً فقط للإقناع والدفاع عن قناعاتنا والفوز".
يعتبر البعض أن ماكرون يراهن على إحداث يقظة لدى مؤيديه
الاحتمال الآخر الذي يمكن أن يعول عليه ماكرون هو أن تؤدي نتائج الانتخابات الأوروبية الى إعادة إحياء اليقظة الجمهورية التي سبق أن شهدتها البلاد تكراراً منذ 2002، أي منذ وصول اليمين المتطرف للمرة الأولى إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية (جان ماري لوبان في حينها في وجه جاك شيراك)، وأدت إلى وضع القوى السياسية التقليدية لصراعاتها جانباً، واعتماد "الاقتراع المجدي" الذي يجنب البلاد خطر تولي اليمين المتطرف السلطة. هذا الرهان بدوره بات يفتقر للواقعية على ضوء ردات الفعل التي تؤكد أن القوى السياسية التقليدية لم تعد بصدد مد اليد للرئيس وحمايته مجدداً من اليمين المتطرف، بعد فشله خلال ولايتيه في وقف صعوده، وهو ما أكده الجمهوريون على لسان إريك سيوتي بقوله إنه "من غير الوارد الدخول في صيغة تحالف أو ائتلاف مع حزب أوصل فرنسا إلى الحالة التي هي فيها". أضف إلى ذلك أن تصويت ناخبي اليسار لحزب النهضة ولماكرون في كل جولة انتخابية ثانية، أكانت رئاسية أم برلمانية، غير مشجع بالنسبة للرئيس في كل مرة يواجه فيها اليمين المتطرف.
مغزى هذا الكلام أن باب التقارب موصد من قبل اليمين، وهو موصد أيضاً من قبل اليسار الذي يشهد اتصالات حثيثة بين مكوناته، وخصوصاً الاشتراكيين وحزب فرنسا الأبية بهدف توحيد الجهود والسعي إلى تحقيق اختراق برلماني خلال الانتخابات المقبلة من خلال إنشاء "جبهة شعبية موحدة". ويعتبر هؤلاء أنه كان من الأجدر بماكرون أن يعيد النظر بما أقره في مجال التعويض عن العاطلين عن العمل وتمديد عدد سنوات العمل قبل التقاعد، وكذلك القانون المتعلق بالهجرة وغيرها، بدلاً من اللجوء إلى حلّ البرلمان والدعوة إلى انتخابات فرنسية تشريعية مبكرة واضعاً بلده أمام المجهول.