تنتقل الرئاسة الإيرانية، اليوم الثلاثاء، من "المعتدل" حسن روحاني إلى "المحافظ" إبراهيم رئيسي بعد مصادقة المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، اليوم، على "حكم رئاسة الجمهورية" للرئيس المنتخب قبل يومين من مباشرة أعماله رسمياً بعد أدائه اليمين الدستورية الخميس المقبل. ويرافق روحاني اليوم، بعد توقيع خامنئي، رئيسي إلى قصر الرئاسة في "باستور" لتسليمه السلطة، لتنتهي بذلك رئاسته المستمرة منذ ثماني سنوات منذ عام 2013 في دورتين متتاليتين. مغادرة روحاني الرئاسة تتجاوز انتهاء ولاية رئيس فحسب، إذ تشكل عملياً انتهاء عهد سياسي في حياة الجمهورية الإسلامية وبدء عهد آخر، فمن يخلف روحاني هو رئيس محافظ يعاكسه في الفكر والسياسة تماماً.
ثماني سنوات من رئاسة روحاني، حفلت بجملة تطورات كبيرة، تختلف طبيعتها ونتائجها في فترتي رئاسته، ما يستدعي حكماً مختلفاً على سجله وأدائه، لكن ما سيبقى في ذاكرة المواطن الإيراني هو آخر انطباع متشكل لديه عن الرئيس لحظة مغادرته السلطة.
روحاني "المعتدل" أبرز تلاميذ الرئيس الإيراني الراحل أكبر هاشمي رفسنجاني، بدأ رئاسته عام 2013 في ظروف مختلفة كانت تمر بها إيران داخلياً وخارجياً، نتيجة ثماني سنوات من حكم الرئيس المحافظ محمود أحمدي نجاد، الذي أحدث عهده استقطاباً حاداً في الداخل، كانت احتجاجات 2009 أقسى فصوله، والتي اندلعت على خلفية الانتخابات الرئاسية التي جاءت بنجاد المتموضع راهناً في مربع المعارضة بتصريحاته "النارية" ضد السلطات.
في ضوء هذا الوضع الداخلي واحتدام المواجهة مع الغرب على خلفية الملف النووي الإيراني، تعرّضت البلاد لعقوبات، هي الأولى من نوعها حينها، ليقدّم روحاني نفسه على أنه مخلص البلاد، مطلقاً وعوداً براقة، فوجد فيه الإصلاحيون ضالتهم، واصطفوا خلفه وأوصلوه إلى الرئاسة، قبل أن تنتهي ولايته وسط خيبة لديهم منه.
رأى الإصلاحيون ورفسنجاني أن روحاني بسبب خلفيته الأمنية، ومعرفته بتعقيدات الحكم، هو الأنسب لحل أزمات البلاد، خصوصاً مع الولايات المتحدة، باعتبارها الأزمة الأم. ومع بدء رئاسته، انكب روحاني، الملقب بـ"الشيخ الدبلوماسي"، على المفاوضات النووية مع الولايات المتحدة، والتي انطلقت سراً في سلطنة عمان عام 2012، في آخر سنة من رئاسة نجاد، وسط معارضته وموافقة خامنئي، فنقل الملف من مجلس الأمن القومي إلى الخارجية ليقود وزير الخارجية محمد جواد ظريف المفاوضات.
نجح روحاني في ولايته الأولى في تسجيل اختراقات هامة على صعيد العلاقة مع الولايات المتحدة
نجح روحاني في ولايته الأولى في تسجيل اختراقات هامة على صعيد العلاقة مع الولايات المتحدة، ظلت محظورة طيلة عقود في السياسة الإيرانية. وتحت مظلة المفاوضات النووية مع مجموعة 1+5، أجريت لأول مرة في تاريخ الجمهورية الإسلامية لقاءات مباشرة مع كبار المسؤولين الأميركيين، فأصبحت لقاءات ظريف مع نظيره الأميركي آنذاك جون كيري اعتيادية، فضلاً عن الاتصال الهاتفي الأول من نوعه الذي جرى بين روحاني والرئيس الأميركي حينها باراك أوباما عام 2013.
كانت نتيجة هذه الاختراقات انفراجة أزمة الملف النووي، وإبرام الاتفاق النووي في 14 يوليو/تموز 2015، بعد أن نجح روحاني في إقناع أركان الحكم وفي مقدمتهم خامنئي بالاتفاق والقيود الصارمة التي فرضت على برنامج إيران النووي مقابل رفع العقوبات الأممية والأميركية والأوروبية عنها، وإخراجها من تحت وطأة ستة قرارات صادرة عن مجلس الأمن الدولي، التي وضعتها تحت الفصل الأممي السابع الذي يجيز تنفيذ العمل العسكري. بالإضافة إلى نجاحه لاحقاً في عقد أول وأضخم صفقة لتبادل السجناء مع الولايات المتحدة عام 2016.
لكن تزامناً مع هذه الانفراجة مع الغرب، تدهورت أكثر العلاقات الإيرانية مع دول المنطقة، على وقع ثلاثة عوامل، الأول هو الموقف من الأزمة السورية، الثاني مهاجمة المقرات الدبلوماسية السعودية في إيران عام 2016، من قبل شباب محافظين غاضبين على إعدام الرياض رجل الدين الشيعي نمر باقر النمر، والتي أفضت إلى قطع الرياض علاقاتها مع طهران وخفض دول عربية أخرى علاقتها الدبلوماسية معها. أما العامل الثالث فهو القلق من التقارب الإيراني الغربي على حساب المنطقة بعد إبرام الاتفاق النووي. كما أن روحاني المؤمن بحل الخلافات أولاً مع الولايات المتحدة لتصطلح بعدها التوترات تلقائياً مع دول المنطقة، لم يبذل جهوداً مطلوبة لرأب الصدع مع المحيط العربي.
وجد روحاني أن الخطوات الأولى لترميم العلاقات مع الولايات المتحدة قد اتُخذت على أمل أن تستكمل في خطوات أخرى تؤدي إلى "انفراجة تاريخية" في الأزمة القديمة، فتحدث روحاني عن اتفاقيات ثانية وثالثة بعد النشوة بالاتفاق النووي، قبل أن تخبو سريعاً وسط معارضة داخلية قوية من التيار المحافظ للاتفاق الأول (النووي) وكيل اتهامات ضده بـ"الخيانة" و"تعطيل" البرنامج النووي الإيراني.
إلا أن رفع العقوبات عن إيران ضخ دماً جديداً في اقتصادها المترنح، وارتفعت سريعاً صادراتها النفطية إلى 2.5 مليون برميل يومياً، ما نفّس الأزمة الاقتصادية وترك آثاراً إيجابية في نفوس الإيرانيين الذين ردوا الجميل بالالتفاف خلف روحاني خلال انتخابات 2017 في مواجهة المحافظين ومرشحهم إبراهيم رئيسي، ومنحوه 24 مليون صوت، أي أكثر بـ6 ملايين صوت من عام 2013.
انتهت ولاية روحاني الأولى على وقع هذا الانطباع الإيجابي عنه وعن سياسته الخارجية، فيما سياسته الداخلية لم ترقَ إلى المستوى المطلوب لدى الناخبين المصوتين له والإصلاحيين لجهة عدم تنفيذ وعوده بشأن تحسين الحريات العامة واستمرار الإقامة الجبرية للزعيمين الإصلاحيين، برره البعض حينها بأولوية السياسة الخارجية والتركيز على رفع العقوبات وعدم رغبة الرئيس في إغضاب مؤسسات الحكم، لكي لا يرتد ذلك سلباً على جهوده في المفاوضات.
بدأ روحاني المنتشي بإنجازه "الأكبر" المتمثل في الاتفاق النووي ورفع العقوبات، دورته الرئاسية الثانية في مايو/أيار 2017 بوعود استكمال تحسين الوضع الاقتصادي وصون حقوق المواطنة والحريات العامة وإنهاء الإقامة الجبرية لمير حسين موسوي ومهدي كروبي، غير أن الرياح بدأت تجري بما لا تشتهي السفن، فجاءت ولايته الثانية بعد أشهر قليلة من تسلم دونالد ترامب، العدو اللدود للاتفاق النووي، الحكم في الولايات المتحدة.
أطاح ترامب مكسب روحاني الوحيد، وهو الاتفاق النووي
نفذ ترامب في 8 مايو 2018 وعده بالانسحاب من الاتفاق النووي، مدشناً استراتيجية "الضغوط القصوى" على إيران، والتي كانت لها ارتدادات كبيرة داخلها وغيّرت موازين القوة لصالح المحافظين على حساب الحكومة والإصلاحيين، فوجد التيار المحافظ في ترامب فرصة للنيل من المنافسين وإفشال تجربتهم في التقارب مع الغرب، فضلاً عن تطورات دراماتيكية كادت أن تشعل مواجهة عسكرية بين إيران والولايات المتحدة، خصوصاً بعد اغتيال قائد "فيلق القدس" الجنرال قاسم سليماني، مطلع 2020 في بغداد.
أطاح ترامب مكسب روحاني الوحيد، وزاد مصاعبه عبر شنّ حرب اقتصادية على إيران، لتستدير الحكومة شرقاً خصوصاً نحو دول الجوار اضطراراً بحثاً عن منافذ في مواجهة العقوبات التي أحدثت أزمة اقتصادية متفاقمة منذ ثلاث سنوات، ووضعت روحاني وحكومته في مواجهة الشارع والمحافظين. غير أن هذه الاستدارة المتأخرة لم تسد الفراغ الناجم عن الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي.
وما زاد الطين بلة، وفق مراقبين، مواجهة حكومة روحاني تداعيات العقوبات بسوء إدارة وقرارات مرتبكة ومتسرعة، مثل رفع أسعار البنزين ثلاثة أضعاف بشكل مفاجئ، في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، ما أشعل أكبر احتجاجات في إيران، خلّفت 230 قتيلاً وأكثر من ألفي جريح، وفق السلطات، فضلاً عن احتجاجات أخرى خلال السنوات الماضية، كانت آخرها خلال الشهر الماضي على أزمتي الكهرباء والمياه.
جلب هذا السلوك المرتبك في مواجهة الأزمة الاقتصادية وطريقة التعاطي مع الاحتجاجات وقتلاها ومعتقليها، وحادث إسقاط الطائرة الأوكرانية من قبل الدفاع الجوي الإيراني مطلع 2019، وتطورات أخرى، مزيداً من الغضب في الشارع الإيراني تجاه حكومة روحاني والسلطات، وتسبّب ذلك بابتعاد الإصلاحيين عنه تدريجياً وانضمامهم إلى الضفة المنتقدة. أما روحاني نفسه فألقى اللوم خلال السنوات الماضية على خصومه السياسيين، فتارة طالب بزيادة الصلاحيات لإدارة الحرب الاقتصادية، وتارة أخرى اتهم معارضي الاتفاق النووي بتدميره قبل ترامب، محمّلاً إياهم مسؤولية الوضع.
لم تفضِ جولات التفاوض في فيينا إلى تحقيق هدف روحاني بإحياء الاتفاق النووي
وأخيراً أحيا وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، وهو المؤيد للاتفاق النووي الآمال، أملاً لدى روحاني لإحياء الاتفاق ليغادر السلطة بعد رفع العقوبات، فخاضت طهران وواشنطن ست جولات تفاوض في فيينا منذ إبريل/نيسان الماضي، لكنها لم تفضِ إلى تحقيق هدف روحاني، الذي أخذ يحمّل البرلمان الإيراني الخاضع لهيمنة المحافظين مسؤولية عدم نجاح هذه المفاوضات ورفع العقوبات عبر اتخاذ خطوات نووية في قانون "الإجراء الاستراتيجي لرفع العقوبات" خلال ديسمبر/كانون الأول الماضي.
ودّع خامنئي، الأربعاء الماضي، الحكومة ورئيسها في آخر اجتماع، بعتاب وانتقاد، إذ دعا الأجيال المقبلة إلى استخلاص التجربة من "فشل" رهان الحكومة على الغرب والتفاوض مع واشنطن، مع رده بطريقة غير مباشرة على تحميل روحاني البرلمان مسؤولية فشل المفاوضات، موجّهاً أصابع الاتهام للولايات المتحدة، وقال إنها طرحت شروطاً و"لم ولن ترفع العقوبات".
يغادر روحاني السلطة، فيما أصبح مغضوباً عليه من الجميع، من الشارع والتيار الإصلاحي المؤيد له سابقاً، والمحافظين والمرشد الأعلى، مع تقديمه "الاعتذار" وطلبه "الصفح" من الشعب، الأحد الماضي، "إذا كانت هناك عيوب ونواقص"، حسب قوله، وسط طرح تساؤلات حوله مستقبله السياسي مشفوعة بدعوات محافظة لمحاكمته، غير أن التوقعات تذهب باتجاه اختياره من قبل خامنئي عضواً في مجمع تشخيص مصلحة النظام، فضلاً عن أنه حالياً عضو في مجلس خبراء القيادة.