طاردت صواريخ الكاتيوشا، أمس الإثنين، أقدام آخر الجنود الأميركيين المغادرين أفغانستان من مطار كابول الدولي، ولاحقت لعنة "القوات على الأرض"، الجنود حتى ساعاتهم الأخيرة في هذا البلد، ودفعت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) للتسبب بآخر مجازرها بحق المدنيين الأفغان، بعد 20 عاماً من غزو أميركا لهذا البلد، والذي بدأ رسمياً في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2001، حين نفّذ سلاح الجو الأميركي، بالتعاون مع نظيره البريطاني، أولى الضربات الجوية ضد أهداف لحركة "طالبان" وتنظيم "القاعدة"، مطلقاً عملية "الحرية الدائمة" لمحاربة الإرهاب. وينتهي إجلاء آخر أميركي على الأرض الأفغانية، عند الدقيقة الأخيرة قبل منتصف ليل الثلاثاء – الأربعاء، بتوقيت كابول، بحسب ما أعلن البنتاغون، أمس. وإذا كان من الممكن القول إن الانسحاب الأميركي من أفغانستان، سيترك آثاراً قاسية على واشنطن، وعلى إدارة جو بايدن، خصوصاً بعد فوضى الانسحاب وما تخللها من سقوط أكثر من 100 ضحية بينهم جنود أميركيون في مذبحة كابول التي تبناها تنظيم داعش قبل أيام، إلا أن الواقع الأفغاني المشّرع على كل الاحتمالات، بعد الانسحاب، هو الأكثر قسوة، مع استلام "طالبان" الحكم، في ظروف مختلفة عن عام 1996، داخلياً، حيث يحاصر الجفاف والفقر وإرهاب "داعش" والخوف والخلافات الإثنية، "الإمارة الإسلامية" المرتقبة، وأكثر من 39 مليون أفغاني، يعيشون اليوم القلق على مصيرهم، مع العودة للبناء من الصفر بعد الرحيل الأميركي، وإقليمياً، حيث تحاول دول عدة كبرى، الفوز بموطئ قدم في هذا البلد، اقتصادياً واستثمارياً وسياسياً، مع الحديث المتزايد عن بدء بعضها حواراً وتواصلاً مع "طالبان"، ولو لأهداف "إنسانية".
تبنى "داعش" الهجوم بالصواريخ على مطار كابول أمس
أميركياً، وعلى الرغم من تمكن الرئيس جو بايدن، أخيراً، من طيّ صفحة هذه الحرب المكلفة بشرياً ومالياً، وعدم تكليف جيلٍ جديد من الأميركيين للانخراط عسكرياً فيها، فإنه فتح مرحلة مختلفة، تسطّر المزيد من الانكفاء الأميركي المحتمل في بؤر كثيرة ملتهبة حول العالم، مقابل التفرغ لأولويات أميركية أخرى. وإذا كان الغرق الأميركي في المستنقع الأفغاني، قد بدأ فعلياً قبل الغزو بسنوات طويلة، لمقارعة السوفييت خلال الحرب الباردة، فإن الخروج الأميركي لم ينه سوى فصل واحد من مرحلة أطلقها جورج دبليو بوش لمحاربة الإرهاب، حيث فُتحت بعدها فصول أخرى في العراق وسورية، وفي الداخل الأميركي، الذي تبدل كثيراً بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001. وفيما يتحرك بايدن أيضاً بهدوء لإغلاق معتقل غوانتانامو، أحد تجليات هذه الحرب والغزو، لم يعد أمام الولايات المتحدة، سوى أن تسعى إلى محو أفغانستان من الذاكرة الجماعية للأميركيين، مع التصويب على الخصمين الروسي والصيني. وستكون المقاربة الأميركية للعلاقة مع "طالبان"، التي عادت لحكم البلاد، موقع بحث ومتابعة في دوائر القرار في واشنطن، التي تركت حلفاءها الأوروبيين في أزمة لجوء جديدة قد تتدفق عليهم من البوابة الأفغانية، فيما لم ينه الانسحاب خطر الإرهاب الذي قد يعود ليتفجر حول العالم من هذه البوابة تحديداً، مع صعوبة رصده من مناطق "خارج الأفق" بحسب التوصيف العسكري الأميركي. وحول ذلك، ستبقى الأنظار مشخصة على "طالبان"، وإدارتها للمرحلة المقبلة، وسعيها للحصول على اعتراف دولي، وعلاقتها بالجماعات المتشددة، على أن يكون اختبار محاربتها لـ"داعش"، الأول في إطار أي تعاون دولي محتمل.
ويسود القلق الشارع الأفغاني، المثقل بالتحديات، من الخطر الأمني، إذ انتشرت أمس على مواقع التواصل الاجتماعي، قائمة أماكن في كابول، نشرها صحافيون، قالوا إنها قد تتعرض لهجوم، منها مطار حامد كرزاي، ودوار تشهاراهي مسعود المجاور للسفارة الأميركية، ودوار تشهاراهي عبد الحق، القريب من السفارات الأجنبية ومن القصر الرئاسي ووزارات مهمة أخرى. وقالت الإعلامية الأفغانية مزده ولي زاده، لـ"العربي الجديد"، إن الوضع في كابول غير مستقر، مع وجود مخاوف من قيام "داعش" بعمليات كبيرة في العاصمة حتى بعد الخروج الأميركي النهائي، إذ تروّج خلاياه إلى أن "طالبان" جاء بها الأميركيون، ولا بد من مواصلة القتال ضدّها. وأشارت إلى أن الهجوم الصاروخي على مطار كابول أمس الإثنين، نفّذ من شارع رئيسي في العاصمة مع تمكن منفذيها من الفرار. من جهتها، أكدت "طالبان" مجدداً، أمس، قدرتها على إدارة مطار كابول، بعد مغادرة آخر الجنود الأميركيين. وأكد مسؤول في الحركة، في تصريح لقناة "الجزيرة" الإخبارية، أن الحركة "لا تحتاج لمساعدة أحد عسكرياً، وإذا كانت هناك حاجة لذلك في مكان آخر، فسننظر في الأمر".
وتبنى "داعش" – ولاية خاراسان، الهجوم بالصواريخ الذي تعرض له مطار كابول، أمس، والذي انطلق من منطقة خيرخانه القريبة من المطار، بالتزامن مع مغادرة الفريق الدبلوماسي الأميركي الأساسي كابول. وأكد البيت الأبيض والجيش الأميركي، حصول الهجوم بخمسة صواريخ، وكذلك "طالبان"، التي قالت إن الدفاعات الجوية الخاصة بالمطار اعترضت الصواريخ ودمرتها. وبحسب بيان للتنظيم، فقد "استهدف جنود الخلافة مطار كابول الدولي بـ6 صواريخ كاتيوشا، وكانت الإصابات محققة". وجاء الهجوم غداة ضربة جوية شنها البنتاغون في كابول، وقالت إنها استهدف آلية انتحارية، لكنها أدت إلى سقوط 10 ضحايا مدنيين على الأقل، بينهم أطفال. وأكد البنتاغون أمس، أنه يجري تحقيقاً في الحادثة.
حذّرت الأمم المتحدة من أزمة إنسانية "في بدايتها" في أفغانستان
وتنتهي اليوم الثلاثاء، المهلة التي حدّدها بايدن لسحب كل القوات الأميركية من أفغانستان، بعد إجلاء أكثر من 122 ألف شخص عبر مطار كابول، منذ منتصف شهر أغسطس/آب الحالي. وركّز الجيش الأميركي أمس، على سحب الجنود والدبلوماسيين الأميركيين خصوصاً، وهو ما سيتواصل اليوم، مع استمرار التحذير من هجمات إرهابية أخرى. وأكد مسؤول أميركي لوكالة "رويترز"، إجلاء معظم الدبلوماسيين أمس، بانتظار إجلاء آخر الجنود اليوم. وكان وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، قد شدّد أول من أمس، على أن "الوجود الدبلوماسي للولايات المتحدة في أفغانستان بعد 31 أغسطس/ آب الحالي، سيعتمد على سلوك "طالبان" خلال الأسابيع والأشهر المقبلة. بدورها، قالت السفارة الروسية في كابول أمس، إنها تسير رحلات طيران إضافية لإجلاء أشخاص من أفغانستان، في حين تجري القوات الروسية تدريبات عسكرية بالقرب من حدود أفغانستان. وأضافت السفارة أن مزيداً من رحلات الطيران ستتاح لإجلاء المواطنين الروس والمقيمين ومواطني دول منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تقودها روسيا.
وحطّت أمس، طائرة في مطار كابول، تحمل أدوية ومعدات صحية من منظمة الصحة العالمية، وهي أول شحنة خارجية تصل إلى البلاد في ظلّ سيطرة "طالبان". وناشدت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أمس، المجتمع الدولي، لتقديم مزيد من الدعم للعمليات في أفغانستان، محذرة من أن "أزمة كبرى في بدايتها" تحدق بهذا البلد. وكرّر المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فيليبو غراندي، دعوة لإبقاء الحدود مفتوحة ولمساهمة مزيد من الدول في "تلك المسؤولية الإنسانية" مع إيران وباكستان اللتين تستضيفان نحو 2.2 مليون لاجئ أفغاني. وقال غراندي إن "الإجلاء الجوي سينتهي من كابول في غضون أيام، والمأساة التي تكشفت لن تكون ملحوظة مثل السابق. لكنها ستكون واقعا معاشاً يومياً لملايين الأفغان. لا يجب أن ندير لهم ظهورنا". وأمس، ناقش مجلس الأمن الدولي، إمكانية إقامة "منطقة آمنة" في كابول، لاستمرار العمليات الإنسانية، وفق مقترح لفرنسا وبريطانيا.
تباحث وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن مع نظيره الصيني وانغ يي، في الشأن الأفغاني
سياسياً في الداخل الأفغاني، يسود الغموض أيضاً، شكل الحكم الذي ستفرضه "طالبان"، وكيفية إدارتها البلاد، بعد الخروج الأميركي. وفيما دخل كابول العديد من قادة "طالبان" ووجوهها العسكرية والسياسية، أكد المتحدث باسم الحركة، ذبيح الله مجاهد، أول من أمس، أن زعيم "طالبان"، هبة الله أخوند زاده، يقيم في مدينة قندهار، جنوبي البلاد، مضيفاً أن الأخير "يعيش هناك منذ البداية"، بينما أكد مساعده أن أخوند زاده "سيظهر علناً في وقت قريب". وتواصل الحركة، إظهار إشارات متناقضة حول "سلوكها"، مبدية الانفتاح والعفو عن الموظفين والمسؤولين الحكوميين، مقابل التشدد الذي ظهر من خلال تحركات عدة، آخرها اعتقالها أمس، رئيس شورى علماء الدين، المولوي سردار محمد زدران، في إقليم خوست الجنوبي، بعد اعتقالها زعيم التيار السلفي، وأحد علماء الدين البارزين في أفغانستان، المولوي متوكل، في كابول. واعتقل متوكل قبل أشهر من قبل الاستخبارات الأفغانية بتهمة التنسيق مع "داعش"، لكن جرى الإفراج عنه مع سيطرة "طالبان" على العاصمة في 15 أغسطس الحالي.
دولياً، نظمت واشنطن أمس، اجتماعاً افتراضياً لـ"الشركاء الرئيسيين" عشية مغادرتها أفغانستان، شارك فيه ممثلون عن فرنسا وكندا وألمانيا وإيطاليا واليابان وبريطانيا وتركيا وقطر والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. من جهتهم، يعتزم وزراء داخلية الاتحاد الأوروبي، التأكيد اليوم، في اجتماع طارئ لهم في بروكسل، على عزمهم التحرك لمنع حصول موجات هجرة على نطاق واسع من أفغانستان، بحسب مسودة لبيانهم. كما سيتعهد الوزراء العمل لمنع أخطار إرهابية من هذا البلد على المواطنين الأوروبيين. من جهته، قال الممثل الخاص للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أفغانستان، زامير كابولوف، إن سفارة بلاده في كابول، تعمل على إقامة علاقات مع "طالبان"، مضيفاً أن بلاده أن مستعدة للمساعدة في إعادة بناء اقتصاد أفغانستان، وحث الدول الغربية على عدم تجميد الأصول المالية لحكومة هذا البلد المقبلة. كما تباحث وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، مع نظيره الصيني وانغ يي، الأحد، هاتفياً، في الشأن الأفغاني.