يدفع الرئيس التونسي قيس سعيّد، بقراره مساء أمس الأول الأربعاء حل البرلمان، البلاد إلى مأزق أصعب، يهدد بتعميق الانقسام بين مختلف الأطراف، والأزمة الاقتصادية التي تواجهها تونس، مع توسعه في خرق الدستور والقوانين لفرض نفسه متحكماً وحيداً بتوجهات البلاد وسياساتها وكل شؤون الناس.
وفيما يبرر سعيّد قراره بـ"الحفاظ على الشعب ومؤسسات الدولة"، فإن المعطيات تؤكد أن الواقع مختلف تماماً. وتُطرح تساؤلات عن كيف يمكن لتونس الحصول على قروض من الهيئات الدولية من دون وجود برلمان يصادق عليها، وكيف ستكون صورة البلاد عموماً بينما ليست فيها أي سلطة إلا سلطة الرئيس؟
كما تشير توقعات إلى أن الرئيس التونسي سيكون تحت ضغط مجتمع دولي يصر على ضرورة العودة سريعاً إلى المسار الدستوري، كما سيواجه معارضة داخلية اتسعت كثيراً وبدأت تقنع الأعداء والمتنافسين بضرورة التوحد لمواجهة مشروع يعصف بالجميع.
وللمفارقة، فإن سعيّد نفسه كان قد أكد في 29 مارس/آذار الماضي، أنه لا يمكن حل البرلمان لأن الدستور لا يسمح بذلك. ولكنه غيّر رأيه بعد يوم واحد، ووجد في الفصل 72 من الدستور الذي ينص على أن "رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة، ورمز وحدتها، يضمن استقلالها واستمراريتها، ويسهر على احترام الدستور"، ما يعتبره مبرراً يسمح له بحله، ما يعني أنه يفسر الدستور كما يريد ووقت ما يريد، وأنه أيضاً قد يكون دُفع سياسياً لهذا القرار، وهذه قراءة أخرى للأحداث.
قيس سعيّد يتهرب من الانتخابات البرلمانية
وبينما هلل البعض مساء الأربعاء لقرار حل البرلمان، استفاقوا أمس الخميس على نشر الأمر الرئاسي المتعلق بحل مجلس النواب، في الجريدة الرسمية، من دون أي إشارة لإجراء انتخابات تشريعية مبكرة لتفادي الفراغ التشريعي والمؤسسي في البلاد، علماً أن الدستور ينص على ضرورة الدعوة لانتخابات خلال 90 يوماً من حل البرلمان.
وبهذا سيظل سعيّد الممسك الوحيد بكل السلطات في البلاد، والمفسر الوحيد والحصري للدستور في غياب المحكمة الدستورية وفي غياب أي هيئة تعديلية.
ويبدو أن الرئيس يريد أن يأخذ كل وقته لإعداد مشروعه الخاص، وتهيئة كل الظروف لانتخابات على أسس جديدة يرى أنها الأصلح للنظام السياسي في البلاد، قبل أن يتمكن في الأثناء من إزاحة معارضيه وتنقية الساحة السياسية كما يريد. وكان قد أشار الأربعاء بوضوح إلى أن الأطراف التي خانت ثقة الشعب لن تشارك في الانتخابات، ما يعني إمكانية فتح مرحلة جديدة من الملاحقات والتضييق على الأحزاب.
نُشر قرار حل البرلمان من دون أي إشارة لإجراء انتخابات تشريعية مبكرة
كذلك يبرز تساؤل عن أسباب انتظار سعيّد 8 أشهر، منذ قراره تجميد عمل البرلمان في 25 يوليو/تموز الماضي، قبل الإعلان عن حل مجلس النواب. ويرى بعض المتابعين أن سعيّد كان يرى أن الأمر استتب له نهائياً، عدا بعض الأصوات المعارضة التي تجوب الشوارع أحياناً، وأنه سيمضي في مشروعه بلا مطبات كبيرة، حتى ولو وقعت أزمة اقتصادية أو تعرّض لضغوط دولية.
غير أن نجاح البرلمان في عقد اجتماع الأربعاء بمشاركة كبيرة (123 نائباً)، وبمبادرة من أحزاب من خارج "النهضة" و"ائتلاف الكرامة" و"قلب تونس"، أثار مخاوف سعيّد بشكل واضح، ودفعه إلى أن يُسكِت نهائياً هذا المارد الذي استفاق بعد سبات طويل، والذي بيّن أنه قد يعيد توزيع الأوراق بقوة.
ولذلك لم يكتف سعيّد بحل البرلمان، بل يريد أن يسلّط سوط الملاحقة القضائية على كل النواب الذين شاركوا في هذا الاجتماع. إذ كانت وزيرة العدل، ليلى جفّال، قد وجّهت مساء الأربعاء، طلباً للوكيل العام لدى محكمة الاستئناف بتونس للإذن لوكيل الجمهورية بفتح تتبعات قضائية ضد عدد من نواب البرلمان من أجل "جرائم تكوين وفاق بقصد التآمر على أمن الدولة الداخلي"، وهي اتهامات خطيرة وعقوباتها كبيرة.
وفي كل الحالات، فإن الخطوات المقبلة ستظهر قريباً، بعد استقراء ردود الفعل من الأحزاب والمنظمات الوطنية، وأيضاً المؤسسات والدول المعنية بالشأن التونسي، وسيتضح إن كانت هناك إشارات خضراء لسعيّد بالذهاب في برنامجه بتعديلات ما، أو أن هناك توافقاً عاماً حول ترتيبات جديدة.
سعيّد يحل البرلمان التونسي
وبعد ساعات من عقد البرلمان جلسة له الأربعاء ومصادقته على "قانون يلغي جميع الأوامر الرئاسية والمراسيم" الصادرة عن الرئيس التونسي، منذ 25 يوليو الماضي، أعلن سعيّد خلال اجتماع لمجلس الأمن القومي مساء الأربعاء، حل مجلس النواب، المجمّدة أعماله منذ 25 يوليو، "حفاظاً على الدولة وعلى مؤسساتها"، وبناء على الفصل 72 من الدستور، واصفاً الجلسة العامة التي عقدها البرلمان بـ"محاولة انقلابية فاشلة"، وبأنها "تآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي".
والملاحظ أن سعيّد، استند في قرار حل البرلمان إلى الفصل 72 من الدستور، الذي ينص على أن "رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة، ورمز وحدتها، يضمن استقلالها واستمراريتها، ويسهر على احترام الدستور". وللتذكير أيضاً، فقد كان اعتمد في القرار السابق بتجميد البرلمان، في 25 يوليو، على الفصل 80 الذي يؤكد أن البرلمان يبقى في حالة انعقاد دائم.
وبحسب الدستور، فإنه يمكن لسعيّد حل البرلمان في حالة واحدة، مرتبطة بعدم حصول الحكومة على ثقة مجلس النواب، وهو وضع غير متوفر حالياً، على اعتبار أن عمل البرلمان معلّق أو مجمد، وليست هناك حكومة لعرضها أمامه للمصادقة عليها.
يمكن لسعيّد حل البرلمان في حالة واحدة، مرتبطة بعدم حصول الحكومة على ثقة مجلس النواب
وقال أستاذ القانون العام خالد الدبابي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنه "بخصوص السند الذي اعتمده الرئيس في حل البرلمان فهو البند 80، ولكنه استند في خطابه إلى البند 72"، مشددا على "تناقض الرئيس، فهذا البند يندرج في الباب الرابع المتعلق بالسلطة التنفيذية، فيما الأمر الرئاسي 117 الصادر في 22 سبتمبر/أيلول 2021 علّق العمل بالدستور وأبقى فقط على التوطئة والبابين الأول والثاني، أي المبادئ العامة والحقوق والحريات".
وتابع: "لا نفهم تعامل الرئيس مع البند 80 من الدستور، فقد صرح في مجلس الأمن أن الذين يدعون إلى حل البرلمان يجهلون أن هذا الفصل لا يتيح حل البرلمان وهنا يكمن التناقض"، مشدداً على أن "العديد من الإجراءات التي اتخذها الرئيس لا يتيحها الفصل 80 بما في ذلك تجميد أعمال البرلمان منذ البداية، في وقت ينص هذا البند على بقاء البرلمان في حالة انعقاد".
وعن التبعات القانونية لقرار حل البرلمان، أوضح الدبابي أن "أعمال البرلمان المستقبلية تصبح مخالفة للقانون إذا تواصلت، ولا يمكن للمجلس أن يجتمع ويشتغل فلم يعد له وجود على المستوى القانوني والدستوري". ورأى أنه بعد "الخروج عن دستور 2014 يتواصل الوضع الضبابي، وقد أصبحت المسألة تقاس بعد 25 يوليو بمنطق القوة وليس اعتمادا على الدستور، والموازين اليوم لصالح رئيس الجمهورية الذي يتحكم في المشهد وقد أساء إدارة الأمور لأنه تم التمطيط في المسار الانتقالي بشكل كبير".
ملاحقة نواب تونسيين
ولا يتعلق الأمر فقط بحل البرلمان، بل تم توجيه دعوات لنحو 30 نائباً من الذين شاركوا في جلسة الأربعاء، للتحقيق أمام فرقة مكافحة الإجرام والبحث في قضايا الإرهاب بالعاصمة تونس، كما أكدت النائبة عن "النهضة" المحامية لطيفة الحباشي لـ"العربي الجديد". وأضافت: "وجهت الدعوات لكل من النائب الأول لرئيس البرلمان طارق الفتيتي ورئيس كتلة النهضة عماد الخميري والصافي سعيد ووليد جلاد وآخرين".
ووصف رئيس البرلمان المنحل راشد الغنوشي استدعاء أكثر من 30 نائباً من قبل فرقة مكافحة الإرهاب بأنه "أمر خطير"، رافضاً أي إقصاء ومطالباً بحوار يضم كل الأطراف. واعتبر الغنوشي في حديث لقناة "الجزيرة" أن "قرار حل البرلمان يمثل تهديداً لتونس وأمنها، وسنقاومه بالوسائل الشعبية والقانونية".
الغنوشي: استدعاء أكثر من 30 نائباً من قبل فرقة مكافحة الإرهاب أمر خطير
رفض قرار حل البرلمان التونسي
وأجمعت معظم الجهات الحزبية على رفض قرار حل البرلمان، بسبب مخالفته للدستور ولتواصل انفراد سعيّد بالسلطات من دون أفق واضح لإجراء انتخابات مبكرة تنهي حالة الاستثناء التي تتواصل منذ 8 أشهر.
واعتبر الرئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي، في بيان، أن "لا شيء سيتغير بحل البرلمان باستثناء سقوط آخر ورقة توت عن الانقلاب". ودعا البرلمان إلى مواصلة أعماله و"السعي لجمع النصاب لعزل" سعيّد. وشدد على ضرورة "عودة السيادة للشعب عبر انتخابات رئاسية وتشريعية سريعة".
من جهته، قال عضو مجلس شورى "النهضة"، النائب محسن السوداني، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "ما أقدم عليه الرئيس من حلّ البرلمان يبيّن الاضطراب السياسي والارتباك الذي يعيشه الانقلاب"، مضيفاً "هذا الأداء يثبت التذبذب والارتباك". وتابع: "من الغريب أن الرئيس يتهم نواباً شرعيين بالانقلاب، والحال أنه هو من انتهك الدستور الذي ينص صراحة، في الفصل الذي اعتمده، على أن يبقى المجلس في حالة انعقاد دائم".
ورأى أن سعيّد "هو من اعتدى على الشرعية وانقلب على الدستور". وأضاف السوداني أن "الانقلاب الآن يعيش في عزلة على أكثر من مستوى: أولاً الشعب الذي يتحدث باسمه انفض من حوله، فالرئيس غير قادر على تعبئة الشارع. ثانياً، أن أكثر من نصف عدد البرلمانيين، بمن فيهم الذين ساندوه في الأول، هم الآن ضد سياسته ويعلنون صراحة أنه انقلاب وحكم فردي".
من جهته، بيّن النائب عن "ائتلاف الكرامة"، زياد الهاشمي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "ما أقدم عليه سعيّد تمادٍ صارخ في الدوس على الدستور ومخالفته"، مشيراً إلى أنه "لم يبق خرق جسيم إلا وذهب إليه". وتابع الهاشمي أن "سعيّد ضحك على ذقون التونسيين بإيهامهم باحترامه للدستور، فمرة يلغي الدستور ومرة يستنجد به حسب هواه وعلى مقاس ما يشتهيه".
واعتبر أن "لا أفق لسعيّد ولا أمل في انتخابات قريبة، بل إنه يقود البلاد نحو السقوط والانهيار بسبب خلطه بين الدولة والرئيس واختزاله كل السلطات في شخصه".
أما القيادي في حراك "مواطنون ضد الانقلاب"، أحمد الغيلوفي، فقال لـ"العربي الجديد"، إن ما أقدم عليه سعيّد "سيعمّق الأزمة والانقسام ويدفع نحو استقطاب ثنائي حاد بين المدافعين عن الديمقراطية وبين المساندين للانقلاب"، مشيراً إلى أن سعيّد "يتحمّل وضع الانقسام والفتنة وحالة الاحتراب التي يدفع لها".
كما أكد حزب التيار الديمقراطي رفضه لحل البرلمان، واعتبر أن قرار سعيّد يعدّ "خرقاً" آخر للدستور، و"تأكيداً قاطعاً للنوايا الانقلابية لسعيّد ولنزعته نحو الاستبداد". وجدد الحزب في بيان صادر عنه عقب اجتماع مكتبه السياسي، رفضه لاستعمال القضاء والقوات المسلحة لترهيب النواب المشاركين في الجلسة العامة، معرباً عن تضامنه المطلق معهم وشروعه في تشكيل لجنة دفاع تتبنى قضيتهم بكل الوسائل.
من جهته، أعرب الحزب الجمهوري عن "قلقه ورفضه اتخاذ هذا القرار في اجتماع لمجلس الأمن القومي"، داعياً إلى "عدم إقحام المؤسستين الأمنية والعسكرية في الصراع السياسي لما ينطوي عليه من مخاطر حقيقية على أمن واستقرار البلاد".
وطالب الحزب في بيان كل "القوى التقدمية والديمقراطية بتوحيد جهودها وتكثيف الضغط لحمل رئيس الجمهورية على التراجع عن قراراته والعودة إلى المسار الدستوري والدفع باتجاه الخروج من الأزمة التي تعصف بالبلاد عبر تنظيم حوار جامع يحدد ملامح المرحلة الجديدة بعيداً عن الاستفراد بالرأي والقرار".
سامي الطاهري: قرار حل البرلمان جاء متأخراً، لكنه كان ضرورياً
في المقابل، برز موقف الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل سامي الطاهري، الذي اعتبر أن "قرار حل البرلمان جاء متأخراً، لكنه كان ضرورياً". وأضاف الطاهري، في حديث لإذاعة "شمس إف إم": أن "البرلمان كان مجمداً وهو في عداد الأموات وإكرام الميت دفنه".
كما وصف أمين حركة الشعب (المساند لسعيّد) زهير المغزاوي "قرار رئيس الجمهورية بحلّ مجلس النواب بالقرار السليم"، معتبرا أنّه جاء متأخراً، مبينا أنه "كان مطلباً شعبياً ومطلب الأحزاب والمنظمات الوطنية". لكن المغزاوي تساءل في تصريحات صحافية: "هل سيتم تنظيم انتخابات بعد حل البرلمان بـ3 أشهر أم أنه سيتم اتّباع الروزنامة التي كان قد أعلن عنها الرئيس في السابق؟ هذا يتطلب توضيحاً".