شبّهت وزارة الخارجية الأميركية، أول من أمس الثلاثاء، التدخل الروسي في انتخابات عدد كبير من الدول، بأنه اعتداء على سيادة هذه الدول، تماماً كالاعتداء الروسي على سيادة أوكرانيا، بعد غزو الجيش الروسي لهذا البلد، في فبراير/ شباط الماضي. وجاء كلام المتحدث باسم الخارجية الأميركية، نيد برايس، بمناسبة كشف الوزارة عن تقرير جديد لوكالات الاستخبارات الأميركية، يؤكد إنفاق روسيا أكثر من 300 مليون دولار، منذ عام 2014، وهو تاريخ ضمّها لشبه جزيرة القرم، لدعم مسؤولين أو مرشحين سياسيين في دول عدة، متعاطفين معها أو مؤيدين لها. وتقول الخارجية الأميركية إن روسيا ربمّا أنفقت أكثر من هذا المبلغ، الذي تمّ رصده بجهد استخباري، ستقوم واشنطن بإطلاع الدول المستهدفة على المعلومات التي توصلت إليها، والتي لا تزال مصنفة سرّية.
وشكّل التدخل الروسي في انتخابات الولايات المتحدة الرئاسية عام 2016، والتي أوصلت دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، منعطفاً، من حيث تسليط الضوء على محاولة موسكو التأثير في العمليات الانتخابية حول العالم، لا سيما في أوروبا وأميركا.
تُتهم موسكو بدعم اليمين المتطرف، لاسيما في القارة الأوروبية
وتُتهم موسكو بدعم اليمين المتطرف، لا سيما في القارة الأوروبية، وبنسج علاقات قوية معه، لزعزعة الأحزاب التقليدية في القارة العجوز. وأمس الأربعاء، سارع مرشحون كثر للانتخابات الإيطالية التشريعية المقررة في 25 سبتمبر/ أيلول الحالي، والتي يتوقع فيها أن يحصد تحالف اليمين واليمين المتطرف العدد الأكبر من المقاعد فيها، إلى النأي بأنفسهم عن تلقيهم أي دعم مالي من روسيا. ومن بين هؤلاء، زعيم حزب "الرابطة" ماتيو سالفيني، الذي لم يخف في السابق إعجابه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي اعتبره يوماً "أفضل زعيم في الكون".
حرب استخبارية على نظام بوتين
وفي العموم، فإن التقرير الجديد للاستخبارات الأميركية يسلّط الضوء أيضاً على الحرب الاستخبارية التي تشنّها واشنطن على نظام بوتين، وهي حرب تتكاتف مع الجهود لدعم أوكرانيا، عسكرياً وإعلامياً.
وتتهم الاستخبارات الأميركية، في تقريرها الجديد، روسيا، بتحويل ما لا يقل عن 300 مليون دولار سرّاً لأحزاب سياسية أجنبية ومرشحين في أكثر من 20 دولة (لم تسمّها) منذ 2014. وبحسب ملخص للخارجية الأميركية حول المراجعة الجديدة للاستخبارات، فإن "الكرملين ووكلاءه قد حوّلوا هذه الأموال في محاولة لتشكيل الأحداث السياسية خارج حدود روسيا"، مضيفة أن "الولايات المتحدة ستستخدم قنوات الاتصال الرسمية مع الدول المستهدفة لمشاركتها المعلومات المصنفة سرّية حول الأنشطة الروسية التي تستهدف أجواءها السياسية".
وأرسلت الوزارة إلى السفارات الأميركية في عدد من الدول برقيات تتضمن النقاط التي سيقوم الدبلوماسيون الأميركيون المتمركزون في الخارج بطرحها مع الحكومات التي تستضيفهم. وبحسب وكالة "فرانس برس"، فإن الدبلوماسيين سيشاركون نتائجهم مع مسؤولين في أكثر من 100 دولة.
ولم يتحدث التقرير الاستخباري الأميركي الجديد عن التدخل الروسي المفترض في الحياة السياسية الأميركية. وردّاً عمّا إذا كانت واشنطن قلقة من تدخل روسي قبل انتخابات الكونغرس النصفية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، قال برايس إن "أي محاولة للتدخل في نظامنا الديمقراطي ستقابل بعواقب وخيمة".
ونقلت "فرانس برس" عن مسؤول أميركي كبير قوله إن واشنطن "تعتبر أن هذه تقديرات (300 مليون دولار) تشكل الحد الأدنى"، وأن روسيا "حوّلت على الأرجح سراً مبالغ أكبر لم يتم رصدها". وأضاف: "نعتقد أن هذا مجرد الرأس الظاهر من جبل الجليد".
عقود وهمية وشركات وأموال نقدية
وتتحدث واحدة من أهم الحالات التي وردت في التحليل الجديد عن سفير روسي في دولة آسيوية قدّم ملايين الدولارات لمرشح للرئاسة. وبينما لم يسمّ التقرير أياً من الدول المستهدفة، ذكر مصدر قريب من الملف في إدارة الرئيس جو بايدن، بحسب "فرانس برس"، أن روسيا أنفقت حوالي 500 ألف دولار لدعم مرشح من الحزب الديمقراطي الألباني (يمين الوسط) في انتخابات 2017، مضيفاً أن موسكو موّلت أحزاباً أو مرشحين في مونتينيغرو والبوسنة ومدغشقر.
وقال المصدر إن موسكو تستخدم مدينة بروكسل مركزاً تقوم مؤسسات ومنشآت كثيرة انطلاقاً منه بدعم مرشحين من اليمين المتطرف. وأضاف أن السفارة الروسية في الإكوادور تلقت "مبالغ كبيرة" بين 2014 و2017 بهدف التأثير على نتيجة الانتخابات على ما يبدو.
وفي أوروبا، استخدمت موسكو عقوداً وهمية وشركات هي مجرد واجهة لتمويل أحزاب سياسية، بينما قامت الشركات الحكومية الروسية بتحويل أموال إلى أميركا الوسطى وآسيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بحسب واشنطن. وقالت الاستخبارات الأميركية أيضاً إن روسيا أرسلت مبالغ نقدية في بعض الأحيان، لكنها استخدمت أيضاً عملات مشفرة "وهدايا فاخرة".
شخصية روسية من مجال الأعمال حاولت استخدام مراكز الأبحاث في أوروبا المقربة من روسيا، لدعم أحزاب قومية ومن اليمين المتطرف في أوروبا
وأكدت برقية الخارجية الأميركية الموجهة إلى الممثليات الأميركية في الخارج أن روسيا قامت بحملة التمويل من أجل "زيادة تأثيرها على الأفراد والأحزاب" ثم التأكد من أن هؤلاء "سيحققون نتائج جيّدة في الانتخابات". وأضافت أن روسيا تتبع استراتيجية من شقيّن هما تعزيز فرص المرشحين المفضلين وكسب نفوذ داخل الأحزاب السياسية. وأكدت أن "العلاقات الخفية بين هذه الأحزاب والمتبرعين الروس تقوض سلامة المؤسسات الديمقراطية والثقة العامة بها".
وذكر التقرير الجديد أن وكالات روسية عدة، وأفراد، يقومون بالمهمة، بما فيها جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، ورجال أعمال. وسمّى التقرير كلاً من يفغيني بريغوزين (رجل الأعمال المعروف بطبّاخ بوتين)، وألكسندر باباكوف (نائب رئيس مجلس الدوما)، وهما مقربان من بوتين، وقال إنهما منخرطان في جهود التأثير أو التدخل في انتخابات دول.
وبحسب التقرير أيضاً، فإن شخصية روسية من مجال الأعمال حاولت استخدام مراكز الأبحاث في أوروبا المقربة من روسيا، لدعم أحزاب قومية ومن اليمين المتطرف في أوروبا. وحذّر التقرير من أن روسيا ستعمد خلال الأشهر المقبلة إلى استخدام أداة تأثيرها السرّية هذه، بما فيها التمويل السياسي، في دول عدة حول العالم، لإضعاف تأثير العقوبات الأميركية المفروضة عليها بسبب غزوها لأوكرانيا.
وكانت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن قد طلبت هذا التقييم في أعقاب غزو أوكرانيا في 24 فبراير الماضي، الذي دفع الولايات المتحدة إلى بذل كل ما في وسعها لعزل موسكو وتسليح كييف. ورأى المتحدث باسم الخارجية الأميركية، الثلاثاء، تعليقاً على التقرير، أن "هذه محاولة لتقويض قدرة الشعوب في جميع أنحاء العالم على اختيار الحكومات التي يرونها الأقدر على تمثيلهم".
ولا يأتي تقييم الاستخبارات الجديد على أي تحليل للتدخل الروسي بانتخابات أميركا، وهو ما كانت أكدته الاستخبارات الأميركية سابقاً. وقال المسؤول الأميركي الذي تحدث لـ"فرانس برس" إن الولايات المتحدة "تعمل جاهدة لمعالجة نقاط ضعفها" وتشجع "الدول الأخرى على القيام بالأمر نفسه والانضمام إليها في هذا الجهد المهم".
ورفض المسؤول في إدارة بايدن أي مقارنة بين جهود روسيا هذه والممارسات الأميركية التي تصفها موسكو أيضاً بالتدخل، مثل تمويل مراقبي الانتخابات والمنظمات غير الحكومية المؤيدة للديمقراطية. وقال المسؤول إن المساعدة الأميركية "شفافة، ونحن لا ندعم حزباً معيناً أو مرشحاً محدداً"، مشدداً على أن "الأمر يتعلق بالحكم الديمقراطي ومحاولة مساعدة الديمقراطيات الأخرى على تعزيز الحكم الديمقراطي".
وبحسب صحيفة "نيويورك تايمز"، فإن المسؤولين الأميركيين يقولون إن أحد أهداف الحملة الأميركية هذه للكشف عن التدخلات الروسية في انتخابات الدول هو تعزيز المقاومة الديمقراطية حول العالم، الذي يعدّ أحد أعمدة السياسة الخارجية للرئيس جو بايدن. وأضافوا أن المسؤولين الحكوميين يركّزون على ضمان أن الدول التي شارك في قمّة الديمقراطية التي دعا إليها بايدن العام الماضي، في واشنطن، بإمكانها تدعيم أنظمتها الديمقراطية. علماً أن إدارة بايدن تخطط للدعوة لقمّة ثانية من هذا النوع قريباً.
(العربي الجديد، فرانس برس، أسوشييتد برس، رويترز، الأناضول)