بعد مرور نحو عام على التصدعات والتشققات التي أحدثتها حفريات بلدية الاحتلال الإسرائيلي في القدس المحتلة وشركة المياه الإسرائيلية "جيحون" التابعة للبلدية، لا تزال أكثر من 20 عائلة مقدسية مشردة، ويتهدد الانهيار مساكنها في "حوش النيرسات". "النيرسات" هو واحد من أحواش القدس القديمة وسط حيّ السلسلة المفضي إلى المسجد الأقصى من الناحية الغربية. وعلى الرغم من هذا الخطر المحدق بالحوش، فإن سلطات الاحتلال لا تحرك ساكناً لمنع مزيد من الضرر، وتعويض العائلات عما لحق بها من أضرار، بعدما أرغمت العديد منها على إخلاء مساكنها بحجة أن البناء خطر وآيلٌ للسقوط. أما من تبقّى من عائلات، فوجّهوا نداء استغاثة طالبوا من خلاله بلدية الاحتلال في القدس، بضرورة التدخل العاجل لمنع انهيار مساكن الحوش على قاطنيها، بعدما اتسعت التصدعات والتشققات فيها أخيراً، علماً أن 20 عائلة تقطن الحوش راهناً.
الوضع داخل الحوش خطيرٌ للغاية وينذر بما هو أسوأ
وضع خطير
تصدعات وتشققات، بل وانهيارات، حدثت في الحوش قبل أكثر من عام، كانت "العربي الجديد" رصدتها، وأضاءت على واقع العائلات هناك. هذا الواقع لم يتغير طيلة هذا العام، إذ يمكن لمن يدخل الحوش أن يلاحظ التشققات في أرضياته وجدرانه وسقوفه. المواطن عمّار عابدين، أحد سُكّان الحوش المتضررين نتيجة حفريات شركة المياه الإسرائيلية "جيحون"، وصف الوضع داخل الحوش بأنه خطيرٌ للغاية وينذر بما هو أسوأ، إذ أدّت التصدعات والتشققات الناتجة عن الحفريات إلى تسرب المياه في أرضيات المساكن، بعدما تضررت جرّاء ما تقوم به الشركة الإسرائيلية من حفريات في شارع حيّ السلسلة. الشيء الوحيد الذي قامت به بلدية الاحتلال في القدس، من خلال مسؤولي لجنة المباني الخطرة وموظفي سلطة الآثار، هو تقديم وعود جديدة للعائلات بأنهم سيقيّمون الوضع ليتقرر لاحقاً إذا ما سيتم إخلاء جميع السُكّان بسبب خطورة تلك المباني، في حين أن تقارير المهندسين الذين عاينوا مساكن الحوش أكدت أنها ربما ستنهار في أيّ لحظة.
المُسنة أم عمر السلايمة، وفي حديثها لـ"العربي الجديد"، أكدت أن جميع الجهات الإسرائيلية، وحتى الفلسطينية، تتنصل من مسؤولياتها إزاء هذه العائلات، لافتة إلى أنها تواصل الإقامة في منزلها بالحوش منذ أن بدأت التصدعات والانهيارات تحدث فيه. وتحدثت أم عمر السلايمة عن "تشقق بلاط الأرضية وكذلك بلاط المطبخ والحمام"، مضيفة أنه "لا البلدية، ولا جيحون، ولا حتى السلطة، يقبلون مساعدتنا، واليوم نحن مشردون من بيت لبيت".
سامح أبو عصب، مواطن آخر من سُكّان الحوش، أكد لـ"العربي الجديد"، أن الجميع يتجاهل معاناة سكان الحوش. وقال أبو عصب في هذا الإطار إن "لا أحد يسأل عنا، نحن أكثر من 20 عائلة، وحوالي 120 نفراً مهددون اليوم بحياتهم إذا وقعت عليهم حجارة بيوتهم". وأضاف "حينما حدثت التصدعات قبل سنة، أخلت بلدية الاحتلال في القدس عدداً من العائلات وتعهدت في حينه بتوفير مساكن مستأجرة لهم، دفعت عن شهرين مساهمة في الإيجار حوالي 65 إلى 70 في المائة، ثم لم تفِ بالدفع".
حتى بعض المساكن التي كان أصحابها رمّموها على نفقتهم، كما هو الحال بالنسبة لأم أحمد سليمي، عادت التصدعات والتشققات إليها. وخوفاً من حدوث انهيار، قامت أم أحمد وأصحاب المنزل بإخلاء إحدى الغرف، وانتقلت مع أفراد عائلتها البالغ عددهم 10 أشخاص، للسكن في غرفة واحدة مما تبقى من غرف منزلها.
قبل عام، ولدى حدوث الانهيارات الأولى، رفض المهندسون الإسرائيليون أن تتحمّل بلدية الاحتلال نفقات الترميم، وهددوا أم أحمد سليمي في حينه بفرض غرامةٍ مالية عليها مقدارها ثلاثة آلاف و600 شيقل (نحو 1100 دولار) ما لم تخلِ مسكنها. وإن استنكفت عن الإخلاء، فستفرض عليها غرامة تأخير أخرى، بواقع 160 شيقلا (نحو 49 دولاراً) عن كل يوم إضافي تمتنع فيه عن الإخلاء.
الأمر ذاته ينطبق على منزلي الشقيقين وجدي وعدلي السلايمة، وهما من سُكّان الحوش. فالحفريات ضربت جدران منزل الأول، ما أصابه بأضرار جسيمة، على الرغم أيضاً من أن صاحبه كان قد أخضعه للترميم منذ فترة ليست ببعيدة. لكن عمق الحفريات وتشعبها في أكثر من اتجاه، أصاب العصب الرئيسي للعقار، ولعقارات أخرى تقطنها عائلات مقدسية مختلفة، منها عائلتا السلايمة وسليمي. هذا ما كانت "العربي الجديد" قد رصدته قبل عام في منزل الشقيقين، وظلّ على حاله في زيارة "العربي الجديد" له قبل يومين.
تتنصل جميع الجهات الإسرائيلية، وحتى الفلسطينية، من مسؤولياتها إزاء العائلات
كان عدلي، وهو الشقيق الأصغر لوجدي، لا زال مقيماً في غرفته الصغيرة الضيّقة التي بالكاد تتسع له ولفراشه. وبسبب ما لحق بها من الضرر، وما أصاب منزل الشقيق الأكبر، فقد تلقى الشقيقان مجدداً إخطاراً من بلدية الاحتلال في القدس ينذرهما بالإخلاء، تحت طائلة الغرامة المالية، فيما تنصلت بلدية الاحتلال من مسؤوليتها عن الضرر.
مصرون على البقاء
في جزء من المنزل، يقطن وجدي السلايمة مع زوجته ووالدته، فيما يتخذ بعض أبنائه مساكن لهم في الطابق العلوي الذي ازدحم بالأثاث والمقتنيات. يؤكد وجدي لـ"العربي الجديد"، رفض العائلة مغادرة المنزل مهما كلّف الأمر. ويضيف "لقد عرضوا علينا الانتقال للإقامة في أحد الفنادق، وحين طالبناهم بترميم ما تسببوا بتصدعه وتشققه رفضوا، قالوا رمموه أنتم، لكن بلدية الاحتلال وسلطة الآثار الإسرائيلية تمنعنا من الترميم. هم يريدون فقط أن نخلي ليمكنوا المستوطنين لاحقاً من الاستيلاء والسيطرة على منازلنا".
الشقيقان وجدي وعدلي السلايمة، لن يغادرا مسكن العائلة أبداً على الرغم من الأخطار الناجمة عن الحفريات، فمسكنهما لا يقايض بمال الدنيا كما يقولان. ولعل سحر موقع المطل على المسجد الأقصى مباشرة، يدفعهما إلى التمسك به أكثر، لكن مع ذلك يتساءل وجدي عن دور بلدية الاحتلال في القدس التي يجب أن تقوم به حيال "حوش النيرسات" كونها هي من تسببت بهذه الأضرار.
وكانت الحفريات في منطقة باب السلسلة قد بدأت عام 2004، وهي تتشعب شمالاً باتجاه باب العمود، وغرباً باتجاه باب الخليل، بينما التصدعات الجديدة في عقارات "حوش النيرسات" تعيد إلى الأذهان ما حلّ بعقارات مشابهة في حي القرمي القريب من حي باب السلسلة.
في عامي 2012 و2013، أصيبت عقارات حيّ القرمي بتصدعات تسببت في حينه بتضرر أكثر من 25 عائلة، أرغمت بعضها على إخلاء منازلها، والتي لم تعد إليها إلا بعدما تمّ ترميمها، وبصعوبة بالغة، بفعل قيود بلدية الاحتلال وسلطة آثاره المفروضة على هذا النوع من الأعمال.
وتمتد أضرار حفريات الاستيطان إلى مناطق أخرى من باب السلسلة لا تبعد سوى 20 متراً عن الأقصى، كما هي الحال في "حوش آل عسيلة". وفي صالون مسودة للحلاقة، شرح صاحبه لـ"العربي الجديد" الوضع المأساوي الناجم عن التصدعات في محله، قائلاً: "في الغالب نضطر إلى مواجهة هذه التصدعات بأعمال ترميم بسيطة، لكنها تعود مجدداً، لأن حفريات الاحتلال في أسفل عقاراتنا مستمرة".
وعن ذلك، يقول الباحث المتخصص في شؤون القدس جمال عمرو، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن الحفريات في منطقة باب السلسلة كانت قد بدأت في 2004، ومنذ ذلك الحين، توالى الكشف عن الأضرار التي لحقت بعقارات المقدسيين في المنطقة، إذ تتشعب تلك الحفريات شمالاً باتجاه باب العمود، وغرباً باتجاه باب الخليل، علماً أن الاحتلال أجرى أكثر من 104 حفريات في البلدة القديمة من القدس منذ احتلالها في العام 1967".
ولعّل أخطر تلك الحفريات ما يجري أسفل المسجد الأقصى، وعلى امتداد العقارات الواقعة في محيطه، ومنها مبانٍ تاريخية كبيرة سجلّت فيها تصدعات خطيرة، بالإضافة إلى الحفريات واسعة النطاق التي تمتد من داخل أسوار البلدة القديمة إلى خارجها جنوباً في بلدة سلوان، حيث تتركز هناك حفريات ضخمة، أشهرها في منطقة عين سلوان التاريخية التي يسيطر عليها المستوطنون وتديرها الآن جمعية "العاد" الاستيطانية.