أثار إعلان وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، الجمعة الماضي، عن خفض جديد لعديد القوات الأميركية العاملة في العراق، جدلاً جديداً في بغداد حول صحة تلك الإعلانات وما إذا كانت الحكومة العراقية تعرف أساساً العدد الحقيقي لهذه القوات وما إذا كانت هناك طريقة للتأكد من الخفض، خصوصاً أن القواعد الأميركية الرئيسة في البلاد، "عين الأسد" و"حرير"، إلى جانب "معسكر فيكتوريا"، قرب مطار بغداد، باتت أكثر إغلاقاً على الجانب العراقي ضمن الإجراءات الأخيرة للجيش الأميركي لمواجهة تهديدات الجماعات المسلحة المرتبطة بإيران.
وأعلن وزير الدفاع الأميركي بالوكالة كريستوفر ميلر، الجمعة الماضي، أن عدد القوات الأميركية في كلٍّ من العراق وأفغانستان أصبح حالياً 2500 جندي، بناء على رغبة الرئيس الخاسر دونالد ترامب. وقال ميلر إنّ "الولايات المتحدة اقتربت اليوم أكثر من أي وقت مضى من إنهاء حوالي عشرين عاماً من الحرب". وأضاف أن "خفض عدد القوات في العراق يعكس زيادة قدرات الجيش العراقي". إلا أن مراقبين أكدوا أن إعلانات واشنطن المتتالية حول الخفض التدريجي لعديد قواتها تأتي لاعتبارات تتعلّق بحكومة مصطفى الكاظمي الداعمة لها بالدرجة الأولى في مواجهة ضغوط الفصائل المسلحة والقوى الموالية لإيران، بما يتعلق بملف الوجود الأميركي.
وفي الوقت الذي يبدي فيه نواب من قوى سياسية عدة مخاوفهم من أنّ تخفيض عديد القوات الأميركية سيؤثر على عمليات فرض الاستقرار الأمني ومكافحة الإرهاب في العراق، إضافة إلى عدم ضبط ميزان القوى في المناطق المحررة تحديداً والعراق عامة من ناحية القوى الحليفة لإيران ونفوذها المتزايد في البلاد، أكد مسؤولون عراقيون لـ"العربي الجديد"، أن "الحكومة العراقية والبرلمان، وقيادة العمليات المشتركة في البلاد، لا تملك أي طريقة لمعرفة صدق هذا التخفيض من عدمه"، مضيفين أن القاعدتين الرئيستين عين الأسد، غرب الأنبار، وحرير، شمال أربيل، يمكن أن تتسعا لأكثر من 7 آلاف جندي نظراً لمساحتهما، لكن بغداد تعتمد بشكلٍ كامل على الإعلانات الأميركية، على الرغم من كونها غير مدعومة بصور أو مقاطع مصورة، أو أدلة واضحة.
بغداد تعتمد بشكلٍ كامل على الإعلانات الأميركية، على الرغم من كونها غير مدعومة بصور أو أدلة واضحة
وعن كيفية التأكد من تلك الإعلانات، قال أحد المسؤولين في مكتب القائد العام للقوات المسلحة، رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، لـ"العربي الجديد"، إنهم "لا يملكون طريقة معينة للتأكد إلا بالدخول إلى القواعد واحتساب الجنود، وهذا غير منطقي ومستحيل أساساً". وأضاف أن "الحكومة تتعامل مع تلك الإعلانات كما ترد لها بسبب وجود اتفاق وتفاهمات عدة جرت خلال زيارة الكاظمي الأخيرة إلى واشنطن، خصوصاً خلال الجولة الثانية من الحوار الاستراتيجي بين البلدين، والذي أقر جملة من التفاهمات، من بينها الخفض التدريجي لعديد القوات الأميركية في العراق". واعتبر أن "تشكيك القوى الحليفة لإيران بالإعلانات الأميركية أمر طبيعي، فهي لن ترحب أو تثني على خطوات رئيس الحكومة، فيما قد يصب بقاء الأميركيين في صالح خطاب هذه القوى القائم على فكرة المقاومة، لأن انسحابهم يسحب آخر الحجج لهذه القوى لحمل السلاح خارج الدولة، خصوصاً بعد اضمحلال تنظيم داعش بشكل شبه كامل".
وكان الكاظمي قد أعلن بعد زيارته واشنطن ولقائه ترامب، في يونيو/ حزيران الماضي، أن الطرفين اتفقا على الانسحاب الأميركي، وتسليم القواعد العسكرية التي تستضيف جنود التحالف الدولي إلى القوات العراقية، إلا أن معظم القوى السياسية الموالية لإيران، وأبرزها "تحالف الفتح" الذي يتزعمه هادي العامري، تُشكك بجدية الكاظمي بتنفيذ هذا الأمر، لذلك تواصل ممارسة سياسة "الحصار الأمني" على القوات الأميركية في العراق، كما تزعم، مع مواصلة استهدافها بالصواريخ والألغام.
وفي السياق، قال عضو البرلمان العراقي، القيادي في مليشيا "عصائب أهل الحق" عدي عواد، لـ"العربي الجديد"، إن "الحكومة العراقية بطيئة في التعامل مع القوات الأميركية التي تحتل العراق، ولا تحظى بأي تأييد شعبي، وهناك شكوك بأعداد المنسحبين، خصوصاً أن العراق يعتمد على ما يصدر عن أميركا، وليس على ما يتم احتسابه بصورة مباشرة عبر التنسيق العراقي الأميركي". وأوضح أن "القوات الأميركية غير مرغوب بها، وتمارس احتلالاً كاملاً لسماء العراق، وتتجاوز على السيادة الوطنية من خلال توجهاتها، وتلاعبها أحياناً بالقرار الأمني".
مسؤول عراقي: القوات الأجنبية الموجودة حالياً في العراق ليست قتالية، وبالتالي فإن انسحابها لا يحتاج إلى تغطيات إعلامية
من جهته، قال المتحدث باسم قيادة العمليات العراقية المشتركة اللواء تحسين الخفاجي، لـ"العربي الجديد"، إن "القوات الأجنبية الموجودة حالياً في العراق ليست قتالية، وبالتالي فإن انسحابها لا يحتاج إلى تغطيات إعلامية وصور ومقاطع مصورة أو فعاليات أخرى مشابهة، بل هو انسحاب اعتيادي لضباط برتب مختلفة، كانوا يقدمون الخدمات للعراقيين".
وأضاف الخفاجي أن "هناك جدولاً زمنياً تلتزم فيه بغداد وواشنطن بشأن سحب القوات الأميركية والمستشارين في التحالف الدولي ضد تنظيم داعش، وسبق أن تسلمت القوات العراقية عدداً من المعسكرات التي انسحبت منها القوات الأميركية، ولم يبقَ من هذه القوات غير القتالية إلا القليل، وهم مستشارون يقدمون خدمات الاستشارة في مجالات الضربات الجوية وبناء القدرات وغيرها"، لافتاً إلى أن "القوات العراقية باتت متمكنة من إمساك زمام السيطرة على الأراضي، بعد دحر تنظيم داعش، وهذا ليس بحسب الحكومة العراقية، بل وفقاً لتعليقات البنتاغون".
بدوره، أشار الخبير الأمني في العراق سرمد البياتي إلى أن "الحكومة العراقية تعتمد على تعليقات السفير والسفارة الأميركية، التي كانت قد أكدت في وقت سابق أن عديد قواتها في العراق حتى منتصف العام الماضي بلغ 5500، ولكن بعد إعلانات الانسحاب في أكثر من مرة، وصل العدد إلى 2500". ولفت في تصريح لـ"العربي الجديد"، إلى أن "الأميركيين لا يعطون للعراق موقفاً يومياً بشأن وجودهم في القواعد العراقية، والحكومة العراقية لا تعلم أي شيء عما يجري داخل القواعد، مع العلم أن مخاوف الأميركيين من عدم إعطاء بغداد أي موقف يومي هو حق مشروع، ولكن من المفترض أن تعلم قيادة العمليات المشتركة في العراق بما يجري في القواعد العسكرية. وبطبيعة الحال، هناك تخفيض بعدد القوات الأميركية، وهناك آليات انحسبت باتجاه شمال سورية خلال الفترة الماضية".
يُذكر أن البرلمان العراقي صوّت، مطلع العام الماضي، في جلسة استثنائية قاطعتها الكتل الكردية وغالبية القوى العربية السنّية، وكتل ونواب المكوّنَين التركماني والمسيحي، ونواب مستقلون آخرون، على قرار يُلزم الحكومة بإخراج القوات الأجنبية من البلاد، إثر عملية اغتيال قائد "فيلق القدس" الإيراني قاسم سليماني، ونائب رئيس "هيئة الحشد الشعبي" أبو مهدي المهندس، في ضربة جوية أميركية قرب مطار بغداد الدولي.