تأهل كلّ من وزير المالية السابق ريشي سوناك، ووزيرة الخارجية ليز (إليزابيث) تراس، إلى المواجهة النهائية، للفوز بتصويت أعضاء حزب المحافظين في بريطانيا، لاختيار خليفة لرئيس الوزراء المستقيل، بوريس جونسون. وسيكون أمام المرشحين النهائيين، بعدما استبعد نواب الحزب في مجلس العموم (البرلمان) 9 مرشحين آخرين، إثبات نفسيهما أمام الجمهور البريطاني، وأعضاء الحزب البالغ عددهم حوالي 160 ألفا، والذين سيصوتون بالبريد الإلكتروني حتى 2 سبتمبر/أيلول المقبل، على أن تعلن النتائج في 5 سبتمبر.
ويتنافس سوناك (42 عاماً) وتراس (46 عاماً) على المنصب، بعدما كانا اسمين مرشحين بقوة لخلافة جونسون، منذ خروج الفضيحة المتعلقة بحفلات مقر الرئاسة البريطانية (10 داونينغ ستريت) في فترة كورونا، إلى العلن، قبل أشهر. ويعيد تنافسهما لخلافة جونسون، تسليط الضوء على قصة صعودهما داخل الحزب، وتنافسهما الحقيقي في إطار هذا الصعود السياسي، علماً أن لكل منهما أوراق قوة وضعف، قد تخدمه أو تخذله، في طريق الوصول المحتمل إلى "دوانينغ ستريت".
نقطة ضعف سوناك ثروته ورفع الضرائب بشكل غير مسبوق
وتلعب في هذه المنافسة عوامل عدة، على رأسها البرنامج الاقتصادي لكلا المرشحين، في ظلّ الأزمة الاقتصادية التي تعيشها بريطانيا، لا سيما على وقع تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا. وإذا كان أعضاء الحزب سينظرون إلى ذلك على أنه من الأولويات، لا سيما مع استمرار صعود حزب العمّال في استطلاعات الرأي، وتمكّنه من التقدم في انتخابات محلية جرت خلال العام الحالي، إلا أن الحسابات الداخلية للحزب لاختيار رئيس جديد للحكومة، لن تكون بمنأى عن التأثيرات الأخرى، من بينها ما تحظى به تراس من اهتمام داخل الحزب، وكـ"تاتشيرية" جديدة (نسبة إلى رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة مارغريت تاتشر، 1979-1990) وابنة الحزب المدللة، فيما شنّ حلف جونسون داخل المحافظين حملة شرسة على سوناك، الذي كانت استقالته من الحكومة في 5 يوليو/تموز الحالي، قد أطلقت سلسلة استقالات وزارية أخرى، أفضت إلى الضغط على جونسون، الذي اضطر إلى الاستقالة.
خلافة جونسون... بين "أوباما بريطانيا" و"تاتشر الجديدة"
وأصبح أكيداً أنه سيكون لبريطانيا، في 5 سبتمبر، رئيس حكومة جديد، هو إما "أوباما بريطانيا"، أو أول رئيس وزراء بريطاني يعكس التعددية والتنوع العرقي الذي تتميز به البلاد، أي سوناك، المتحدر من الهند، والذي وصلت عائلته المهاجرة إلى بريطانيا من كينيا، أو ثالث رئيسة للحكومة في تاريخ البلاد، بعد تاتشر وتيريزا ماي.
وعقد نواب الحزب آخر جلسة تصويت، أول من أمس الأربعاء، في إطار عملية من عدة مراحل لاختيار رئيس جديد للحكومة من الحزب. وتصدر سوناك تصويت الأربعاء، بحصوله على 137 صوتاً، وتأهل للمنافسة النهائية مع تراس التي حلّت ثانية بـ113 صوتاً، فيما أقصيت وزيرة التجارة الخارجية بيني موردنت، التي حصلت على 105 أصوات فقط.
وسيتعين على سوناك وتراس الآن إقناع أعضاء المحافظين بجدارتهما لقيادة الحكومة، بعد سلسلة من التجمعات الانتخابية على مستوى البلاد والمناظرات التلفزيونية التي ستجري على مدى الأسابيع الستة المقبلة. وبعدما كان سوناك تصدر تصويت النواب، تشير استطلاعات أخيرة لآراء أعضاء الحزب، بأن تراس هي المفضلة لديهم.
وذكرت تقارير إعلامية أن جونسون، الذي يكمل مهامه بعد استقالته إلى حين اختيار خليفة له، سيدير حملة "أي شخص آخر ما عدا ريشي"، بعدما اختار الأخير النجاة من مركب جونسون الغارق، جرّاء كم الفضائح الموجعة التي حاصرت حكومة الأخير في الأشهر الأخيرة.
أما تراس، والتي لم تستقل من الحكومة، فإنها تدين بشكل أو بآخر لجونسون في صعودها الوزاري والسياسي داخل الحزب، وتلتزم بإبداء الدعم لرئيس الحكومة المستقيل في العلن، منذ الأيام الأولى لأزمته الحكومية. وفي مقابلة أخيرة لها أمس الخميس، مع شبكة "بي بي سي"، قالت تراس إنها كانت تود لو بقي جونسون في المنصب، وإنه أنجز عملاً رائعاً بإنهاء مسألة "بريكست"، وتأمين لقاحات فيروس كورونا للبريطانيين، لكنها قالت إنه لم يعد ممسكاً بدعم الحزب في البرلمان.
واتّهم الوزير البريطاني السابق ديفيد ديفيس، الذي كان مؤيداً لبيني موردنت، سوناك، بتجيير أصوات لليز تراس في تصويت الأربعاء، لمواجهتها في التصويت النهائي، مضيفاً في حديث إذاعي، أمس، أن وزير المالية المستقيل "يريد مقارعة ليز لأنها ستخسر المناظرة معه". لكن استطلاعاً أخيراً لمركز "يوغوف" كان نشر قبل تصويت الأربعاء، أشار إلى أن سوناك، وعلى الرغم من الشعبية التي يحظى بها لدى نواب الحزب، هو المرشح الأقل شعبية بين أعضائه، ما يفتح الباب أمام انتخاب رئيس الحكومة لم يكن الأكثر شعبية لدى نواب حزبه، في إشارة إلى تراس.
ويعكس ذلك، بالإضافة إلى التصويت المرتقب لأعضاء الحزب، صراعات الأجنحة داخل المحافظين، مع استمرار تمتع جونسون بشعبية داخل الحزب، ولدى قاعدة شعبية معتبرة منتمية إليه، بالإضافة إلى التنافس والخلاف الواضح المعروف داخل أروقة المحافظين بين تراس وسوناك، نفسيهما. وسيتواجه كل من المرشحين في مناظرة ستنقلها شبكة "بي بي سي" الإثنين المقبل، ومناظرة أخرى تعتزم شبكة "سكاي نيوز" استضافتها، علماً أنهما رفضا المشاركة سوية في مناظرة على "سكاي نيوز" خلال الأسبوع الحالي، ما أدى إلى إلغائها.
ويرجح معظم المتابعين أن تكون الحملة للفوز بالمنصب حامية، وألا يرحم كلا المرشحين الآخر، بالنظر خصوصاً إلى أن أياً منهما لا يتمتع بالكاريزما التي كان يحظى بها جونسون عند انتخابه خلفاً لتيريزا ماي في يوليو 2019.
وفي جلسة أخيرة له أمام مجلس العموم أول من أمس، ألمح جونسون إلى دعم خطة تراس لخفض الضرائب، وحثّ خليفته على "خفض الضرائب وتحرير الاقتصاد حيث أمكن، لجعل هذا المكان أروع مكان للعيش والاستثمار".
ليز تراس وريشي سوناك... والأزمة الاقتصادية ثالثهما
وتحتل الأزمة الاقتصادية في بريطانيا، وكيفية الخروج منها، صدارة المواضيع التي يعتزم المرشحان الخوض فيها خلال حملتهما للفوز بمنصب رئيس وزراء بريطانيا. ويأتي ذلك، مقارنة بسجال "بريكست"، الذي كان طاغياً في عام 2019، مع عدم قدرة تيريزا ماي على إنجاز الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي. وترتبط الأزمة الاقتصادية أيضاً، بالحرب الروسية على أوكرانيا، التي اتخذت فيها تراس موقفاً صارماً تجاه موسكو، ورسمت مع جونسون، سياسة قاسية للعقوبات فرضتها بريطانيا على روسيا.
يدعم كلا المرشحين خطط ترحيل المهاجرين إلى رواندا
وتضع المنافسة ريشي سوناك، وهو مصرفي سابق في "غولدمان ساكس"، قام برفع الضرائب إلى أعلى مستوى له في بريطانيا منذ خمسينيات القرن الماضي، بمواجهة تراس، التي صوّتت لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، ثم تحولت إلى داعمة لـ"بريكست"، بعدما أدركت "فوائده" الكثيرة ومردوده على "بريطانيا العالمية"، والتي تتعهد في حملتها بخفض الضرائب.
وكتبت تراس في صحيفة "ديلي تلغراف"، في مقال نشر أول من أمس، أن خطتها لإنعاش الاقتصاد ستكون "قائمة على التخفيضات الضريبية وتخفيف القيود والإصلاحات الصارمة". وعلى حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي، تقول تراس إن لديها "برنامجاً اقتصادياً واضحاً لإدارة الحزب والاستفادة إلى الحدود القصوى من قدرات بلدنا الكبير". وفي فيديو حملتها، تشدد وزيرة الخارجية البريطانية على قدرتها على "القيادة، والوفاء بالتزاماتها، واتخاذ قرارات صعبة"، كما تشدد على أن لديها "رؤية واضحة للأهداف، والخبرة، والتصميم على الوصول". وتعهدت تراس بخفض الضرائب "اعتباراً من اليوم الأول" لها في السلطة.
من جهته، وفي معرض إعلانه عن توجهاته السياسية، تعهد سوناك بوضع "خطة طموحة جديدة لضمان استقلالية المملكة المتحدة على صعيد الطاقة"، بحلول عام 2045، لتجنب أي تسارع للتضخم في المستقبل على صلة بملف الطاقة، بعدما أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى ارتفاع أسعار الوقود.
وبرز سوناك خصوصاً بقدرته على إدارة الاقتصاد البريطاني، في فترة كورونا، لكن شعبيته لدى أعضاء الحزب تراجعت منذ أن طُرحت تساؤلات حول ترتيبات ضريبية لعائلته. إذ فيما تواجه معظم الأسر البريطانية ضغوطاً مالية كبيرة بفعل ارتفاع تكاليف المعيشة في ظل الغلاء والأعباء الضريبية، خرجت إلى العلن قضايا مالية بسوناك وزوجته أكشاتا مورتي، ابنة الملياردير الهندي إن آر نارايانا، التي تحتفظ بثروتها في بلدها الأم، الهند، ما لم يكلفها أي ضرائب في المملكة المتحدة، كونها احتفظت لنفسها بصفة غير المقيم، وهو ما وصفته المعارضة البريطانية بـ"الفضائح الأخلاقية".
كما أن سوناك، تلقّى غرامة من الشرطة البريطانية، بسبب مخالفات ارتكبها في فترة الإغلاق المتعلقة بكورونا، وكشف أنه كان يحمل البطاقة الخضراء الأميركية (غرين كارد) حتى شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ما أثار تساؤلات حول ما إذا كانت لديه خطط بمغادرة بريطانيا.
وانتقدت تراس، أمس الخميس، السياسة الاقتصادية لسوناك، على اعتبار أنه "مرشح الاستمرارية للسياسة الاقتصادية ذاتها"، مضيفة أن الاقتصاد البريطاني "ذهب في الاتجاه الخطأ" عندما كان وزيراً للخزانة. وتقول تراس، إن خططها لخفض الضرائب، والتي يصفها منتقدوها بالمغامرة، لن تزيد نسبة التضخم في البلاد، والذي ارتفع أول من أمس، إلى أعلى مستوى له منذ 40 عاماً في البلاد، ليبلغ 9.4 في المائة. وتتهم تراس ما تصفه بـ"الأرثوذكسية الاقتصادية"، بالوقوف وراء الأزمة، معتبرة أن الأشخاص الذين يعملون في وزارة المالية، "كارهون للتغيير، الذي يريده الشعب".
من جهته، وفي محاولة منه للمزايدة على تراس، التي يصفها الإعلام بالمرأة الحديدية الجديدة، والمقلدة لتاتشر، قال سوناك لصحيفة "دايلي تلغراف": "أنا أيضاً أؤمن بخفض الضرائب وتقليص البيروقراطية، ولكن فقط حين يتم خفض التضخم. قيمي تاتشرية، أؤمن بالعمل الدؤوب، والعائلة والاندماج. أترشح كتاتشري، وسأقود كتاتشري". ويسعى سوناك للظهور بمظهر السياسي الواقعي والبراغماتي، رافضاً الحديث عن "خطط الأحلام"، أو "الاشتراكية" التي يبديها بعض المحافظين.
وتدير ليز تراس، الذي عيّنها جونسون وزيرة للخارجية خلفاً لدومينيك راب في سبتمبر 2021، حملتها، على أساس أنها محافظة شرسة، وهي تريد تجسيد المحافظة البريطانية، وتعتبر نفسها عرّابة التبادل التجاري الحرّ، وقد تمكنت بعد "بريكست" من إنجاز صفقات تجارية مهمة بين بلادها واليابان خصوصاً. وتتفاخر تراس، بعلاقة بلادها المتينة مع الولايات المتحدة، ولم تخف سعادتها بصفقة الغواصات الموقعة بين بلادها والولايات المتحدة وأستراليا مع بداية عهد الرئيس الأميركي جو بايدن، والتي أزاحت صفقة مماثلة كانت تنوي فرنسا توقيعها مع أستراليا.
ونقلت عنها الصحافة البريطانية قولها "إني أفضل النبيذ الأسترالي". وفي الشأن الروسي، قالت تراس أمس، إنها لا تدعم التدخل المباشر للقوات البريطانية في أوكرانيا، مضيفة في مقابلتها مع "بي بي سي": "نبذل قصارى جهدنا لدعم أوكرانيا. لقد قدنا التحالف الدولي بشأن إرسال أسلحة (لأوكرانيا)، ونفرض العقوبات، لكنني لا أؤيد التدخل المباشر للقوات البريطانية". وفي ما خصّ "بريكست"، أو العلاقة مع روسيا، يتوقع أن يبدي سوناك موقفاً أقل تشدداً من تراس، علماً أن كليهما يتوافقان على خطط ترحيل المهاجرين إلى رواندا.
(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز)