مع تزايد دور طائرات "بيرقدار" المسيّرة التركية في النزاع في منطقة دونباس الواقعة شرق أوكرانيا، والموالية لروسيا، وأول استخدام قتالي لها، بحسب فيديو نشره الجيش الأوكراني يوم الثلاثاء الماضي، تتبلور ملامح صراع جديد غير مباشر بين موسكو وأنقرة، في منطقة أخرى بعد سورية وليبيا وجنوبي القوقاز، ولكن هذه المرة بالقرب من الحدود الروسية، وفي محيط النفوذ الروسي المباشر. وما يزيد من مخاوف موسكو من أن تقلب الطائرات المسيّرة التركية موازين القوى لمصلحة الجيش الأوكراني، هو أداء هذا السلاح دوراً حيوياً في حرب إقليم ناغورنو كاراباخ المتنازع عليه بين أرمينيا وأذربيجان نهاية العام الماضي، والتي أسفرت عن هزيمة يريفان وتقديمها تنازلات لباكو. وزاد توريد الأسلحة التركية إلى أوكرانيا، من التساؤلات حول تأثيره على التعاون الروسي - التركي في المجالات الحيوية، مثل الطاقة والسياحة والتعاون العسكري التقني، والتنسيق في مختلف مناطق النزاعات حول العالم.
تعتزم أوكرانيا شراء نحو 50 طائرة مسيّرة من طراز "بيرقدار"
وكان الجيش الأوكراني قد أعلن الثلاثاء الماضي، عن أول استخدام قتالي للطائرات المسيّرة الضاربة التركية من طراز "بيرقدار تي بي 2" في دونباس، بعد استخدامها على مدى نحو نصف عام لأعمال الاستطلاع والرصد. ونشر الجيش الأوكراني فيديو يظهر ضربة جوية ضد هدف على الأرض، مؤكداً أن الضربة التي نفذت بالمسّيرة التركية، أدت إلى تدمير مدفع هاوتزر دي 30، للمقاتلين الموالين لروسيا، رداً على نيران من بطارية هذا المدفع أدت إلى مقتل جندي أوكراني وجرح آخر. وفي اليوم التالي، قال الجيش الأوكراني إن الانفصاليين استخدموا طائرة مسّيرة أيضاً خلال الموقعة، وهو ما لفتت إليه السفارة الأميركية في كييف، داعية إلى احترام وقف النار. ومع ذلك، لم يكشف قائد القوات الموحدة للقوات المسلحة الأوكرانية، الفريق سيرغي نايف، عن الاستراتيجية التكتيكية لاستخدام "بيرقدار"، مكتفياً بالقول إنه سيتم استخدامها في مواقع زيادة التهديدات العسكرية لأوكرانيا. وأول من أمس الجمعة، تجاهل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي انتقادات غربية صدرت من ألمانيا وفرنسا، لاستخدام بلاده هذه المسّيرة في نزاع شرقي أوكرانيا، قائلاً إن بلاده "تدافع عن أراضيها وسيادتها". وأضاف: "نحن لا نهاجم، بل نرد فقط".
من جهتها، أبدت موسكو قلقها من الخطوة، مؤكدة على لسان وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، الأربعاء الماضي، أنها تتحقق من صحتها، بما في ذلك مع الانفصاليين في دونباس. وقال لافروف إن "أي ضحية لم تُسجل على ارتباط باستخدام طائرة بيرقدار، لكن هذه القصة يجب أن تجعل أولئك الذين يصغون إلى رغبات كييف بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، يفكرون". ودعت المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، الدول الغربية إلى الكفّ عن عسكرة أوكرانيا، محذرة من محاولات كييف إعادة سيطرتها على دونباس باستخدام القوة، فيما اعتبر المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، أن تسليم مثل هذه الأسلحة لكييف قد يؤدي إلى "زعزعة استقرار الوضع" على الجبهة، مشيراً إلى أن موسكو تقيم "علاقات جيدة" مع أنقرة.
من جهته، قال وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو، أول من أمس السبت، إن أي سلاح تشتريه دولة ما من تركيا أو غيرها لا يمكن الحديث عنه على أنه سلاح تركي أو روسي أو أوكراني، وإنما يصبح ملكًا للبلد الذي اشتراه. وأضاف خلال رده على سؤال صحافي روسي عقب لقاء مع نظيره سيرغي لافروف، في العاصمة الإيطالية روما، على هامش قمة زعماء مجموعة العشرين، أن تركيا صادفتها أسلحة مختلفة من دول عدة، بما في ذلك روسيا، خلال حربها ضد الإرهاب في أراضي دول أخرى، قبل أن يستدرك بالقول "لكننا لا نتهم روسيا على الإطلاق، ويجب على أوكرانيا أيضاً التوقف عن استخدام اسمنا".
وطائرات "بيرقدار تي بي 2"، هي طراز رئيسي لشركة "بايكار" التركية، استُخدم في النزاعات في سورية وليبيا وناغورنو كاراباخ. وكانت تركيا قد سلّمت أوكرانيا طائرات مسّيرة عدة خلال السنوات الماضية، فيما أعلنت كييف مطلع شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي عن تشييد مصنع على أراضيها للطائرات المسّيرة التركية. وبحسب ما يورده الإعلام، فإن كييف تعتزم في المجمل شراء نحو 50 طائرة من هذا الطراز بالذات.
وحول التطور الأوكراني والدور التركي فيه، رأى مدير مركز تحليل الاستراتيجيات والتكنولوجيا في موسكو، رسلان بوخوف، أن روسيا لا يمكنها التأثير على التعاون العسكري التقني بين تركيا وأوكرانيا، أو الضغط على أنقرة للكف عن تسليح كييف، في ظل تحول تجارة السلاح خلال السنوات الماضية من مسألة تخصّ السياسة الخارجية، إلى التجارة الخارجية، وحرص الطرفين على تجنب الصدام بينهما. وأشار بوخوف، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن روسيا من جهتها "تورد أسلحة إلى البلدين المتناحرين أرمينيا وأذربيجان في آن معاً، لذا ليس لديها حق معنوي لأن تملي على أنقرة لمن تبيع أسلحتها، خصوصاً أن تركيا وأوكرانيا دولتان ذات سيادة". وبرأي مدير مركز تحليل الاستراتيجيات والتكنولوجيا في موسكو، فإنه "على الرغم من أن الولايات المتحدة ظلّت آخر قلعة للاسترشاد بالسياسة في مسألة تصدير الأسلحة، إلا أن مواقفها هي نفسها، ازدادت براغماتية في عهدي الرئيس السابق دونالد ترامب، والحالي جو بايدن". وعلى الرغم من أن روسيا وتركيا "ليستا حليفتين"، بحسب بوخوف، إلا أن "إدراكهما لحجم الخسائر في حال وقوع صدام بينهما، يدفعهما إلى تقديم تنازلات في القضايا الخلافية، مثل الوضع في محافظة إدلب في الشمال السوري، حيث إنه بعد تقديمها تنازلات في سورية، تمكنت تركيا من استرداد مواقعها في كاراباخ".
تحولت تجارة السلاح خلال السنوات الماضية من مسألة تخصّ السياسة الخارجية للدول، إلى التجارة الخارجية
وحول مزايا المسيّرات التركية وأسباب فاعليتها والإقبال عليها، أوضح بوخوف أن "طائرات بيرقدار ليست فريدة من نوعها، ولكنها مزودة بمنظومة بصرية كندية الصنع، تبلغ قيمتها نصف سعرها، وهي تتيح شنّ ضربات من دون الدخول في منطقة تغطية نظم الدفاع الجوي، وقد تراكمت خبرة استخدامها في سورية وليبيا وكاراباخ"، لافتاً إلى "وجود إقبال على شرائها من قبل دول عدة، مثل أوكرانيا وبولندا وقرغيزستان وغيرها، حيث إن الولايات المتحدة وإسرائيل ترفضان بيع طائراتهما المسيّرة للدول غير الحليفة".
من جهته، اعتبر الباحث الأكاديمي الأوكراني، إيغور سيميفولوس، أن توريد الطائرات المسّيرة التركية إلى أوكرانيا لا يعني انحياز أنقرة لكييف تلقائياً، بل يندرج ضمن "الحرب الباردة" بين روسيا وتركيا. وأضاف سيميفولوس في اتصال مع "العربي الجديد" من كييف، أن "تركيا ليست مع أوكرانيا، وليست مع روسيا، وإنما مع نفسها ولا تضع أبداً كل بيضها في سلة واحدة. لا تزال أنقرة خصماً جيوسياسياً لموسكو، والتنافس بينهما واضح في جميع مناطق النزاعات، ولكنهما تضطران للتوصل إلى اتفاقات تجنباً للصدام المباشر والحوادث، على غرار إسقاط مقاتلة سوخوي 24 من قبل سلاح الجو التركي على الحدود السورية في نهاية عام 2015، حين أصدرت تركيا رسالة مفادها أنه لا يمكن تجاهل مطالبها".
وحول تأثير استخدام الطائرات المسّيرة التركية على مجرى النزاع في دونباس، أوضح الباحث الأكاديمي أن "أوكرانيا تسلمت هذه الطائرات قبل نصف عام، ولكنها لم تستخدمها قتالياً سوى الآن عبر شنّ ضربة تحذيرية لم تسفر عن وقوع ضحايا، لإصدار رسالة واضحة بأنه لا يجوز قصف الأراضي الخاضعة لسيطرة كييف". واعتبر أنه "في حال استُخدمت هذه الطائرات على نطاق واسع، فيمكن حينها الحديث عن توازن جديد للقوى، ولكنني أعتقد أننا غير مستعدين لذلك، حيث إن هناك فرقاً كبيراً بين محاربة أرمينيا ومواجهة روسيا". ورجّح أن تبقى الطائرات المسيّرة في الحالة الأوكرانية "سلاحاً رادعاً".
وفي ما يتعلق بواقعية تجميد النزاع في دونباس على غرار الوضع في إقليم ترانسنيستريا في جمهورية مولدافيا السوفييتية السابقة، أعرب سيميفولوس عن اعتقاده بأن "هذا ليس أسوأ السيناريوهات مقارنة مع الحرب غير المكثفة الجارية حالياً، ولكن روسيا لا تريد تحقق ذلك، حتى لا تفقد أداتها للضغط على أوكرانيا وإضعافها".