من المؤكد أن نسخة الدستور التونسي الجديد ستدخل التاريخ، بسبب شكلها ومضمونها والطريق الذي خضعت له عند إعدادها. إنه دستور الرئيس قيس سعيّد بامتياز، وهو المسؤول عن كل كلمة فيه وكل فصل.
هو تجسيد لأفكاره ورؤيته للدولة والمجتمع ونظام الحكم والمرجعية التشريعية. ولا شك في أن جزءاً هاماً من المستقبل السياسي للرئيس سيكون مرهوناً بما ستؤول إليه الأوضاع في البلاد، عندما يتم تطبيق ما ورد في هذه الوثيقة التي لم تعد قابلة للمراجعة والتعديل، بعد أن تم نشرها بـ"الرائد الرسمي" (الجريدة الرسمية التونسية).
ومهما كانت نسبة الإقبال على الاستفتاء، المقرر في 25 يوليو/تموز الحالي، سواء كانت ضعيفة وهو الأرجح حسب عديد المؤشرات، أو كانت عالية كما يأمل الرئيس وأنصاره، فإن دستوره سيتم اعتماده في جميع الحالات، نظراً لعدم وجود ضوابط قانونية تسمح للحكم على نجاح الاستفتاء أو فشله.
لقد سلكت تونس بهذا الدستور طريقاً مختلفاً عن ذلك الذي اختارته بعد ثورتها المهدورة، طريق سيكون محفوفاً بالمخاطر، تشقه تناقضات كثيرة وتتسم الأوضاع بالانقسام والتنازع.
التخلص من دستور 2014
بعد قرار الرئيس التخلص من دستور 2014، فرح البعض من مثقفين وأحزاب صغيرة ظنّاً منهم بأن ذلك سيساعد كثيراً على التخلص من حركة "النهضة"، التي يعتقدون خطأ أن ذلك الدستور هو من صنيعها لوحدها، وتتخذ منه الدرع الذي تحتمي به وتحكم من ورائه.
وانطلاقاً من هذه السردية غير الوفية للوقائع التاريخية، قرر هؤلاء الوقوف إلى جانب سعيّد، والتطوع لمساندته في تبرير سياساته، ومساعدته على صياغة دستور بديل.
سيتم اعتماد دستور سعيد لغياب الضوابط القانونية التي تنظم الاستفتاء
هكذا انخرط العديد منهم في اللجنة الاستشارية من أجل جمهورية جديدة، وهي اللجنة التي كلّفها الرئيس بإعداد نسخة الدستور البديل، ووضع على رأسها عميد القانون الدستوري الصادق بلعيد.
وعلى الرغم من الانتقادات الواسعة التي تلقاها بلعيد من داخل الوسط الجامعي وخارجه، إلا أن الرجل له مكانته العلمية، وهو ما جعل جزءاً من النخبة تثق باللجنة، وتتوقع بأنها ستعمل على حماية الحقوق الأساسية، وتقطع الطريق أمام الإسلاميين والقوى المحافظة.
لكن بعد حماسة فيّاضة وجهود استثنائية تم تقديم المشروع إلى قيس سعيّد في 20 يونيو/حزيران الماضي، وعاد رئيس اللجنة إلى بيته مطمئناً وكله إيمان وثقة بأن المهمة تكللت بالنجاح.
لكن بعد الإطلاع على نسخة الرئيس، أصيب الرجل وزميله أمين محفوظ بصدمة عنيفة، وهما يقرآن نسخة مختلفة تماماً في ديباجتها وأبوابها، وبالخصوص في فلسفتها والروح التي تسكنها.
أحدهما بكى، أما رئيس اللجنة فقد رفض المشروع الرئاسي رفضاً قاطعاً، وندد به في الداخل والخارج، واعتبره "ينطوي على مخاطر ومطبات جسيمة"، وبلغ به الأمر درجة جعلته يصف الدستور الجديد بكونه "يمهد لنظام دكتاتوري مشين".
وبناءً عليه، طويت صفحة التقارب والتقاطع بين الطرفين، وحلت محلها أزمة ثقة عميقة جعلت جزءا من المؤيدين للرئيس يتحولون إلى معارضين شرسين بعد أصابهم شعور مؤلم بأنهم خُدعوا، وتم استخدامهم، بل والتضحية بسمعتهم العلمية والشخصية من أجل قيام نظام رئاسي وغير ديمقراطي. هل ستؤثر هذه اليقظة المتأخرة على مستقبل التحول الدستوري الفوقي الذي تعيش على وقعه البلاد؟
سعيد متمسك بالنظام القاعدي
يبدو جلياً أنه مهما كان حجم الاعتراضات فإن سعيّد نجح في فرض أجندته على الجميع. لن يتراجع مهما حصل. فالنظام القاعدي (نظام مكون من مجالس محلية ومجالس جهوية وبرلمان) الذي يؤمن به سيرى النور قريباً بعد إصدار منظومة انتخابية جديدة، وسيكون مجلس الأقاليم إحدى مؤسساته الرئيسية، وسيكون اعتماد طريقة الاقتراع على الأفراد الآلية التي ستعتمد للتحكم في موازين القوى وتحجيم الدور السابق للبرلمان.
وستكون الصلاحيات الواسعة التي سيتمتع بها رئيس الجمهورية الضمان الكبير لتنفيذ هذه التغييرات المتتالية، والتصدي في الآن نفسه لمختلف أشكال المعارضة التي اتسعت وصعدت في فعالياتها، لكنها لم تنجح في إيقاف سعيد وثنيه عن مواصلة السير في طريقه.
على المعارضات الاتحاد والتفكير بالمستقبل القريب
لم يعد الحديث عن العودة إلى ما قبل 25 يوليو 2021. حتى حركة "النهضة" من خلال أحد قادتها (علي لعريض) صرحت بأنه ليس من أهداف الحركة العودة إلى ما كانت عليه الأوضاع.
لقد بدأت تكتشف المعارضة أنه كلما عملت على إعادة العجلات إلى الخلف، عززت من شعبية سعيد. فالتونسيون يحملون ذكريات سيئة عن المحطات في المرحلة السابقة، ولا يريدون العودة إليها. لهذا تسير الأمور في اتجاه مغاير، وعلى الجميع بناء مواقفهم وخططهم في ضوء التحولات الجارية.
ولا يعني ذلك أن تنخرط المعارضات في دعم المسار الرئاسي لأنها لو فعلت ذلك لفقدت مبرر وجودها، لكنها في المقابل أصبحت مطالبة بتغيير خطابها السياسي، وتعديل خطتها ومنهج عملها. فمعركة الدستور ضرورية بالنسبة لها، لأنها قضية مصيرية.
وهي تعمل حالياً على إفشال الاستفتاء، لكن في الآن نفسه عليها أن تستخلص الدروس من النتائج التي ستترتب عن ذلك. وعلى المعارضات أن تفكر في مستقبلها القريب، وأن تستعد للموعد الانتخابي المقبل.
هل ستختار المقاطعة كما تفعل اليوم مع موعد 25 يوليو، أم أنها قد تفكر في الانخراط من أجل الحيلولة دون إخراجها كلياً من مختلف المؤسسات؟ إنه مأزق حقيقي للمعارضة التي وإن توحدت أهدافها إلا أن صفوفها لا تزال منقسمة وأوراقها مبعثرة. وهو ما جعل الدول الغربية تعيد ترتيب أوراقها من جديد مع سعيد اقتصادياً وسياسياً.