دستور قيس سعيّد يعيد جدل الهوية والدين في تونس

09 يوليو 2022
تصور التونسيون أنهم حسموا جدل الهوية والدين بدستور 2014 (Getty)
+ الخط -

أعاد مشروع الدستور الجديد الذي طرحه الرئيس قيس سعيّد على الاستفتاء الجدل في تونس مرة أخرى حول قضايا الهوية والدين، بعدما تصوّر التونسيون أنهم حسموا هذه القضية في دستور 2014، بعد نقاشات طويلة بين مختلف المكونات المدنية والسياسية.

وطغى هذا الجدل أخيراً على بقية المطبات والإشكاليات في مشروع دستور سعيّد، ما حجب نسبياً بقية المشاكل التي أثارها هذا الدستور. واعترضت جهات كثيرة حول ما شملته توطئة مشروع الدستور والفصل الخامس منه، من إشارات غامضة حول علاقة الدولة بالدين. 

وصدرت بيانات عديدة، وانعقدت ندوات، تركزت في جزء كبير منها على التحذير من تأسيس سعيّد دولة دينية، عبر مشروع الدستور المعروض على الاستفتاء في 25 يوليو/ تموز الحالي. في المقابل، حذر البعض من تركيز الجدل على مسألة الإسلام، وإهمال بقية الإشكالات في الدستور، والتي تؤسس لحكم فردي في البلاد.


سناء بن عاشور: دسترة مقاصد الإسلام تعني أنها تصبح بمثابة المبادئ العامة للقانون في كافة مجالاته

وذكرت أستاذة القانون الدستوري والحقوقي سناء بن عاشور، خلال ندوة نظّمتها جمعية القانون الدستوري، الأربعاء الماضي، أن كلمة "الإسلام موجودة في مشروع الدستور في أربعة مواضع، وهي التوطئة، وباب الأحكام العامة والتي فيها الفصل 5 الشهير، وفي شروط الترشح للرئاسة وباب الحقوق". 

وأضافت بن عاشور أنه "بالمقارنة مع دستور 1959 مررنا من إسلام الدولة في الفصل الأول، أي أن الدين تحت رقابة الدولة، إلى الدولة الإسلامية".

تفرُّد الدولة بتأويل الفصل الخامس في الدستور

وبيّنت بن عاشور أن "من أهم آثار الفصل الخامس في المشروع الجديد على القوانين هو تفرد الدولة بتأويله وتطبيقه، وإلزامها بالتالي تحقيق مقاصده، مما يتعين معه ملاءمة التشريعات الوضعية، يعني القوانين، مع مقاصد الدين وتطابقها مع مقتضيات أركان المقاصد".

ولفتت إلى أن "دسترة مقاصد الإسلام تعني أنها تصبح بمثابة المبادئ العامة للقانون في كافة مجالاته"، مضيفة أن "صلاحيات الرئيس وردت بشكل تجعله فوق كل محاسبة على اعتباره العارف والمسؤول والمعصوم، وهو بالتالي الإمام المرشد المعصوم الأمين، ذلك أن دخول مصطلح الأمة الإسلامية في دستور البلاد، واعتبار تونس جزءاً منها، يجعله يخاطب الأمة بصفته إماماً مرشداً أميناً، ولا يحتاج لشعب أو مواطنين ليراقبوه ويسائلوه، بل فقط عليهم مبايعته".

من جهتها، قالت رئيسة لجنة الحريات الفردية والمساواة، رئيسة لجنة الحقوق والحريات في البرلمان السابق بشرى بلحاج حميدة، إن "لا مقارنة بين دستور 2014 ومشروع الصادق بلعيد، ومشروع سعيّد، في العلاقة بالمرجعية الدينية".

وأوضحت، في تدوينة على "فيسبوك"، أنه "في توطئة دستور 2014 جاء: "تعبيراً عن تمسك شعبنا بتعاليم الإسلام ومقاصده المتّسمة بالتفتّح والاعتدال، وبالقيم الإنسانية ومبادئ حقوق الإنسان الكونية السامية، واستلهاماً من رصيدنا الحضاري على تعاقب أحقاب تاريخنا، ومن حركاتنا الإصلاحية المستنيرة المستندة إلى مقوّمات هويتنا العربية الإسلامية وإلى الكسب الحضاري الإنساني، وتمسّكاً بما حقّقه شعبنا من المكاسب الوطنية". 

وأضافت حميدة: "في دستور سيدنا (سعيّد)، الفصل الخامس من الباب الأول ينص على أن تونس جزء من الأمة الإسلامية، وعلى الدولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرية".

"النهضة" تحذر من ضرب مدنية الدولة

وفي السياق، حذر المتحدث الرسمي باسم حركة "النهضة" عماد الخميري من محاولات سعيّد "توظيف الدين سياسياً في مشروع الدستور الجديد"، والذي اعتبر أنه دستور "يضرب مدنية الدولة، ويصادر الحقوق والحريات ويجمّع السلطات، ويبني للحكم الفردي ويمهد للسلطة المطلقة"، بحسب تعبيره. 

وأضاف الخميري، خلال ندوة صحافية، الخميس الماضي، أن "النهضة" ترفض مشروع الدستور الذي طرحه سعيّد، والذي "يشرّع لبناء نظام تسلطي استبدادي في تونس"، داعياً إلى مقاطعة الاستفتاء.

وتعليقاً على هذا الجدل، شرح رئيس الجمعية العربية للعلوم السياسية والقانونية، أستاذ القانون الدستوري شاكر الحوكي، أن "من واجب الدستور تحديد الخط الأيديولوجي للدولة إن كانت علمانية (الفصل بين الدين والدولة)، أو دولة دينية أو غيرها. فمثلاً نجد في الدستور الفرنسي تنصيصاً على الدولة اللائكية (العلمانية)، والدستور الأميركي ينص على دولة علمانية". 

وبيّن الحوكي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "جدل الهوية في دستور 2014 أُجّل ولم يحسم نهائياً، فمشكلة الهوية والإسلام هي مشكلات متغيرة ومستمرة. ففي فرنسا لا تمر انتخابات إلا وتُطرح فيها قضية الهوية والعلاقة مع الإسلام والحجاب، ونحن لم نأخذ من فرنسا إلا أسوأ ما فيها"، مشيراً إلى أن "ما حدث هو قبول الفصول بشكل اختياري، أو على مضض على غرار مسألة حماية المقدسات".

وتابع الحوكي أن "هناك مشكلة حقيقية لدى جزء من النخبة في تونس مع الإسلام، ورغبة في التخلص من أي إشارة للإسلام في الدستور، ويريدون دستوراً علمانياً أو لائكياً صرفاً".

وقال إن "الفصل 5 من مشروع دستور سعيّد يثير مشاكل، وهو في غير محله، وخصوصاً التنصيص على مقاصد الإسلام، على أهميتها في الفكر الإسلامي المعاصر وحتى الكلاسيكي، فكل الإسلاميين يتبنون نظرية المقاصد، ويعتبرونها أهم النظريات التي تسمح لهم بالتأقلم والتناغم مع تحديات العصر، وأخذ التطور بعين الاعتبار. فليس محلها في الدستور، وخصوصاً بتلك الصيغة التي تنص على أن تعمل الدولة وحدها على تحقيق مقاصد الإسلام، وهو ليس دور الدولة، وإذا عملت لتحقيق ذلك فستمارس التعسف بالضرورة، وهو ما يمثل خطورة على الحقوق والحريات".

مشروعية التخوفات من التحول لدولة دينية

وبيّن أن "التخوفات من التحول إلى دولة دينية مشروعة ومعقولة، ولكن المشكلة ليست في مقاصد الإسلام، وأن تعمل الدولة على تحقيقها". وأشار الحوكي إلى أن "مقاصد الإسلام كانت موجودة في دستور 2014، ولكن بصيغة مرنة تعبّر عن تعلق الشعب التونسي بتعاليم الإسلام ومقاصده السمحة وبكونية حقوق الإنسان بتوليفة معينة". 

شاكر الحوكي: التخوفات من التحول إلى دولة دينية مشروعة ومعقولة

وأضاف الحوكي أنه "في قضية أن الدولة جزء من الأمة العربية الإسلامية، اقترب الدستور من الخطوط الحمراء، لأن هناك نخباً لديها مشكلة حقيقية مع مسألة الانتماء العربي والإسلامي، وهو موروث ويشبه المحرمات، موروث عن (الرئيس الراحل الحبيب) بورقيبة وفكره وتدخله شخصياً في دستور 1959 من أجل تعويض الأمة العربية بالأسرة العربية، فيما تجاهل ورفض الأمة الإسلامية جملة وتفصيلاً".

وتابع أنه لولا "تركيز الجدل على مسألة الإسلام، وإهمال بقية الإشكالات في الدستور، لوافق كثر على تمرير مشروع دستور يكرس الانفراد بالحكم، بدليل أنه طيلة سنة كان سعيّد يحتكر السلطة، ويتحدث عن ذلك، ويتحدث عن التنظيم القاعدي والدولة الواحدة واستبعاد رئيس الحكومة، بينما لم يتحدث أي من هذه النخب والأطراف أملاً بأن تتم تصفية المسألة الإسلامية على يد سعيّد".

ورأى أنه "بعدم إصدار سعيّد لدستور علماني، وتخوفهم من الدولة الدينية، تذكروا أن كل التنظيم غير ديمقراطي وقد ينحرف نحو الديكتاتورية والتسلط والتفرد بالحكم". 

وبيّن الحوكي أنه "خلال سنة كاملة كان جزء من النخبة متواطئاً مع سعيّد، فلم يعبّر عن رفضه للانقلاب ورفض لجنة صياغة الدستور بشكل أحادي، بل كان يأمل بأن يؤسس دستور الصادق بلعيد لدستور علماني".

وقالت نحو 30 منظمة وجمعية في بيان مشترك، الخميس الماضي، إن "مشروع الدستور لا يشكّل نقلة نوعية تتجاوز هنات ومطبّات دستور 2014، بل ارتد إلى نفي الطابع المدني للدولة، وإلى إلغاء الاستناد إلى منظومة حقوق الإنسان كمرجعية تأسيسية". 

وشدد البيان على أن المشروع يتجه "إلى تكريس التداخل بين الديني والسياسي، بما أوكله للدولة من أدوار ومهام دينية ليست مطلوبة من دولة مدنية تستمد شرعيتها من تعاقد مواطناتها ومواطنيها لا من شرعيات ما ورائية".