تدخل الاتهامات القضائية التي لا تزال توجّه إلى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب مرحلة أكثر جدية، فيما يواصل تصدره استطلاعات الرأي حول نوايا تصويت الناخبين الجمهوريين في الانتخابات الرئاسية المقررة في خريف العام المقبل. آخر هذه القضايا، تتمحور مجدداً حول محاولة ترامب قلب نتائج الانتخابات الرئاسية في عام 2020، والتي فاز فيها جو بايدن، وهي تعد الأكثر خطورة ضمن القضايا التي تلاحقه على أبواب عام انتخابي، يأمل فيه ترامب بالعودة إلى البيت الأبيض، وتأكيد هيمنته على الحزب الجمهوري. وتحمل هذه القضية، بخلاف قضايا أخرى، أدلّة ملموسة، منها تسريب صوتي لترامب، وتتميّز بأنه لا يمكن للرئيس السابق العفو عن نفسه إذا ما أدين بها وعاد رئيساً للولايات المتحدة.
وتعد هذه القضية الرابعة التي توجه إلى ترامب في أقل من 6 أشهر، وسط حملته لنيل ترشيح حزبه لولاية رئاسية جديدة. فبالإضافة إلى اتهامه في واشنطن وجورجيا بقضيتين ترتبطان بالانتخابات، وجّه مدعون عامون في مانهاتن (نيويورك) في إبريل/ نيسان الماضي اتهامات إلى ترامب بتزوير سجلاته المالية للتغطية على دفعه رشى إلى ممثلة إباحية. وفي يونيو/حزيران الماضي، اتهم ترامب في ولاية فلوريدا بالاحتفاظ بوثائق حكومية سرّية في منزله بعد مغادرته البيت الأبيض. ودفع ترامب ببراءته من كل التهم الموجهة إليه حتى الآن، علماً أن جلسة محاكمة تنتظره في 28 أغسطس الحالي، بقضية التدخل في الانتخابات والتحريض لاقتحام الكونغرس المرفوعة ضدّه في واشنطن.
13 تهمة لترامب
ووجّهت المدعية العامة في مقاطعة فولتون، بولاية جورجيا، فاني ويليس، مساء أول من أمس الإثنين، 13 تهمة إلى ترامب، من بينها "الابتزاز"، وذلك بعد عامين ونصف العام من التحقيق الذي كانت بدأته، إثر تسرّب مكالمة هاتفية في بداية شهر يناير/ كانون الثاني 2021، بين ترامب وكبير المسؤولين في الولاية براد رافنسبرغر، طلب فيها الأول أن يجد له رافنسبرغر، وهو سكرتير الولاية وأكبر مسؤول عن الانتخابات فيها، ما يكفي من الأصوات الانتخابية لقلب نتيجة الانتخابات الرئاسية في ولاية جورجيا، والتي فاز بها بايدن. وشدّد ترامب على ضرورة إيجاد هذه الأصوات، وهي بحدود 12 ألف صوت شكّلت الفارق بينه وبين بايدن، لا سيما في مدينة أتلانتا، عاصمة الولاية، والتي يغلب فيها الديمقراطيون.
تستند لائحة الاتهام إلى قانون يستخدم لاستهداف المافيات، هو قانون المنظمات الفاسدة والممارِسة للابتزاز، المعروف بـ"ريكو"
في ذلك الوقت، كان قد أُعلن في الولايات المتحدة عن فوز بايدن بالرئاسة، إثر الانتخابات الرئاسية التي أجريت في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، وتواجه فيها مع ترامب. لكن الرئيس الجمهوري السابق ظلّ رافضاً لهذه النتيجة، واصفاً الانتخابات بأنها "سرقت منه"، والعملية الانتخابية بالمزوّرة، ومطالباً بإعادة فرز أصوات في عدد من الولايات، وهو ما حصل، ومنها في جورجيا. وبعد أيام من المكالمة مع رافنسبرغر الذي رفض طلب ترامب، حصل اقتحام أنصار الرئيس السابق لمقر الكونغرس في واشنطن، لمنع أعضاء مجلس النواب والشيوخ مجتمعين من المصادقة على فوز بايدن بالرئاسة.
ووجهّت هيئة محلفين في جورجيا، الإثنين، إلى ترامب و18 شخصاً آخرين، مجموعة من التهم الجنائية، على علاقة بجهود هؤلاء لقلب نتائج انتخابات الرئاسة قبل 3 أعوام. ومن بين المتهمين الآخرين، محامي ترامب السابق رودي جولياني، ورئيس الموظفين السابق في البيت الأبيض مارك ميدوز، ومساعدين آخرين لترامب، من بينهم المحاميون جون إيستمان وسيدني باول وكينيث شيسيبرو.
ومن بين التهم الموجهة إلى ترامب والمتهمين الآخرين، تهمة الابتزاز. وتستند لائحة الاتهام إلى قانون يستخدم تحديداً لاستهداف العصابات والمافيات، هو "قانون المنظمات الفاسدة والممارِسة للابتزاز"، المعروف اختصاراً بقانون "ريكو"، وهو مطبّق في جورجيا وينص على عقوبات بالسجن من خمس سنوات إلى 20 سنة. وأمهلت ويليس، خلال مؤتمر صحافي عقدته في أتلانتا الإثنين، المتهمين وبينهم ميدوز وجولياني، حتى 25 أغسطس/آب الحالي "لتسليم أنفسهم طوعاً" للسلطات.
وأوضحت ويليس أنه "بدل الالتزام بالآلية القانونية في جورجيا للطعن في الانتخابات، انخرط المتهمون في مخطط ابتزاز إجرامي من أجل قلب نتائج الانتخابات الرئاسية في جورجيا". كما شدّدّت على رغبتها في أن تبدأ المحاكمة التي ستشمل جميع المتهمين "في غضون 6 أشهر"، مشيرة إلى أن تحديد الجدول الزمني يعود للقاضي.
وتتضمن لائحة الاتهام، التي تقع في 98 صفحة، بما فيها التي تشمل المتهمين الآخرين إلى جانب ترامب، 41 تهمة، من ضمنها "الإدلاء بتصريحات كاذبة وتقديم وثائق مزورة وانتحال صفة موظف عام والتزوير والضغط على شهود وارتكاب سلسلة من الجرائم المعلوماتية وتقديم شهادات زور".
ووافقت هيئة محلفين كبرى في أتلانتنا على اللائحة، بعد استماعها خلال نهار يوم الإثنين، إلى إفادات الشهود الذين استدعاهم الادعاء، وذلك وسط حماية أمنية مشدّدة.
عامان ونصف العام من التحقيق
وكانت ويليس قد بدأت تحقيقها قبل عامين ونصف العام، والذي تمحور حول المكالمة الهاتفية المسّربة، لكن سرعان ما توسّع إلى جهود أخرى يُتَهَم ترامب ومساعدوه ببذلها، لقلب نتيجة الانتخابات، بما فيها محاولة إفشال عملية عدّ أصوات المجمع الانتخابي في الولاية، والضغط على موظفي الانتخابات، ونشر معلومات كاذبة حول العملية الانتخابية في جورجيا.
وتقول لائحة الاتهام إن "ترامب ومتهمين آخرين مشمولين بالقضية رفضوا الاعتراف بهزيمة ترامب، وقد انضموا بدراية ورغبة منهم إلى مؤامرة لتغيير نتيجة الانتخابات لصالح ترامب بطريقة غير قانونية". كما تتضمن لائحة الاتهام ما تخطى حدود ولاية جورجيا، إذ ذكرت أن جولياني وميدوز وآخرين تواصلوا مع مسؤولين في ولايتي أريزونا وبنسلفانيا ومناطق أخرى لحثّهم أيضاً على تغيير النتيجة في تلك الولايات.
ويتهم ميدوز بهذه القضية بأنه ساعد على إطلاق المؤامرة من خلال الإدلاء بتصريحات كاذبة حول الانتخابات وتآمر مع ترامب لرسم مخطط لعرقلة وتأخير مصادقة الكونغرس على أصوات المجمع الانتخابي في 6 يناير 2021، كما حاول الضغط على المحقق في مكتب سكرتيرية ولاية جورجيا، فرانسيس واتسون، وشارك في اتصال ترامب ورافنسبرغر. من جهته، يتهم جولياني بالإدلاء بالعديد من التصريحات المغلوطة حول "تزوير انتخابي"، بما فيها لنواب عن ولاية جورجيا، ادعوا لهم بأن هناك أخطاء في ماكينات انتخابية (برنامج دومينيون).
أما جون إيستمان، فهو قيد المتابعة ليس فقط من المدعية العامة ويليس، بل أيضاً من المحقق الخاص (بقضية الوثائق والانتخابات) جاك سميث، ومتهم بكتابة عدد من التقارير زعم فيها أن نائب الرئيس السابق مايك بنس، بإمكانه رفض بعض أصوات الناخبين (الكبار، خلال جلسة المصادقة)، لتعطيل فوز بايدن.
وهناك أيضاً المتهمون بالقضية: جيفري بوسيرت كلارك، وهو مسؤول سابق رفيع في وزارة العدل، والمحامية جينا إليس، التي كانت "جزءاً من جهود بذلت لجلب ناخبين وهميين في ولايات أريزونا وجورجيا وميشيغين وبنسلفانيا"، بالإضافة إلى ديفيد شافر، الرئيس السابق للحزب الجمهوري في جورجيا، ومايكل رومان الذي كان يعمل في حملة ترامب، والمحاميين في جورجيا، راي أس سميث وروبرت شيلي، والمسؤولين في الحزب الجمهوري بالولاية، شاون ستيل، وكاثي لاثام.
كما يتهم كلّ من ميستي هامبتون (مسؤولة انتخابية)، وسكوت هول (رجل أعمال)، بمحاولة سرقة بيانات انتخابية من مقاطعة كوفي بالولاية. أما المتهمون ستيفن كليفغارد لي، وهاريسون فلويد، وتريفيان كوتي، فملاحقون بتهم أقل خطورة، وهي محاولة الضغط على موظف حكومي بمقاطعة فولتون، هو روبي فريمان.
ترامب: حملة شعواء
وبعد صدور لائحة الاتهام، هاجم ترامب المدعية العامة ويليس، وهي ديمقراطية، متسائلاً عن سبب تأخرها في توجيه الاتهامات بعد أكثر من عامين، ومشكّكاً في توقيت صدور لائحة الاتهام فيما يتحضر لحملة انتخابية جديدة. ويصف ترامب كل القضايا المرفوعة ضدّه، وكذلك المحاولات التي أجراها الديمقراطيون حين كان رئيساً لعزله، بـ"ملاحقة الساحرات"، وهو يوجه حالياً أصابع الاتهام إلى الرئيس بايدن، الذي يقول ترامب إنه يتفوق عليه في استطلاعات الرأي حول نوايا الناخبين العام المقبل.
لن يكون بإمكان دونالد ترامب العفو عن نفسه وإسقاط الملاحقة إذا ما أدين بالقضية وعاد رئيساً إلى البيت الأبيض
ووصف ترامب، على منصته للتواصل الاجتماعي "تروث سوشال"، الإثنين، الاتهامات التي أكد أنها "زائفة" بأنها "حملة شعواء". وكتب: "لماذا لم يوجهوا التهمة لي قبل سنتين ونصف السنة؟ لأنهم يريدون القيام بذلك وسط حملتي السياسية". وهاجم ترامب ويليس تحديداً، متهماً إياها بأنها تعمل لصالح بايدن. واعتبر أن "ويليس أبطأت بصورة استراتيجية تحقيقها بهدف التدخل إلى أقصى حدّ ممكن في السباق الرئاسي عام 2024 والإضرار بحملتي المهيمنة" في استطلاعات الرأي. وكان القائمون على حملة ترامب قد أصدروا بياناً قبيل صدور لائحة الاتهام، اتهموا فيه ويليس، بأن لها دوافع حزبية "مسعورة" تحاول من خلالها تقويض محاولة الرئيس السابق خوض الانتخابات. وقال البيان إن "هذا مسعى خطراً من الطبقة الحاكمة لكبت خيار الناس". وردت المدعية العامة على الفور مساء الإثنين، مؤكدة أنها تتخذ قرارات استناداً "إلى الوقائع والقوانين"، ومشدّدة على أن "القانون غير منحاز إطلاقاً".
وهذه هي المرة الأولى التي يتهم فيها رئيس أميركي سابق بالابتزاز، استناداً إلى قانون أميركي يستخدم خصوصاً لاستهداف العصابات والمافيات. وقانون "ريكو" يسمح للمدعين العامين إيجاد الروابط بين الجهات التي تنفذ خرقاً للقانون وتلك التي تعطيها الأوامر. وأوضح الإعلام الأميركي، أمس الثلاثاء، أن أكثر من 30 ولاية أميركية تطبّق نسختها الخاصة من قانون "ريكو" الفيدرالية، وأن تطبيقه في جورجيا، هو الأوسع، علماً أن نسخته الفيدرالية تعدّد 30 جريمة مصنفة في إطار "الابتزاز"، بينما تعدّد جورجيا 65 جريمة تضعها في هذه الخانة. لكن الإدانة قد توصل إلى السجن بين 5 و10 سنوات، أو دفع كفالة (بقيمة 250 ألف دولار)، كما يسمح القانون بالتوصل إلى اتفاقات بين المدانين والمحكمة. وأكدت ويليس أنها تريد محاكمة جميع المتهمين بالقضية معاً.
وكانت ويليس، التي وصفها ترامب بأنها "من اليسار الراديكالي في جورجيا"، ووصفتها صحيفة "وول ستريت جورنال" في شهر يوليو/تموز الماضي خلال مقابلة مطولة معها، بأنها "مدمنة على العمل"، قد استجوبت جولياني خلال تحقيقها بالقضية، وكذلك السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، وهو مقرب من ترامب، بين آخرين. وأكدت ويليس في المقابلة أنها لم تتطلع على قضايا أخرى ملاحق بها الرئيس السابق، ورفضت مراراً القول ما إذا كانت تواصلت مع المحقق الخاص جاك سميث، علماً أن من القضايا الأخرى الملاحق بها الرئيس السابق، ما يتعلق بالانتخابات.
وجرت المقابلة مع ويليس قبل أن توجه اتهامات في واشنطن إلى ترامب، في الأول من أغسطس الحالي، بقضية التدخل في انتخابات 2020 واقتحام الكونغرس. وتتناول القضية التي وجّهت ويليس التهم بشأنها الإثنين قسماً من الوقائع المستهدفة بلائحة الاتهام الموجهة إلى ترامب في واشنطن حول محاولات غير قانونية للتلاعب بنتيجة الانتخابات، وذلك في 7 ولايات بينها جورجيا، وتعد لائحة الاتهام التي أعدتها ويليس أوسع وأشمل من لائحة الاتهام التي صدرت في واشنطن. ولكن في حال إدانته بقضية انتخابات جورجيا، وحتى إن فاز في انتخابات الرئاسة المقبلة، لن يكون بإمكان ترامب العفو عن نفسه ولا إرغام مكتب ويليس على إسقاط الملاحقات، إذ إن القضية مرفوعة عليه على مستوى الولاية ولا سلطة للدولة الفيدرالية عليها.
(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز، أسوشييتد برس)