تحلّ، اليوم الجمعة، الذكرى السادسة لانطلاق احتجاجات "حراك الريف" في ظل تساؤلات حول مدى تحقق المصالحة السياسية والاقتصادية والحقوقية والاجتماعية بين الدولة المغربية ومنطقة عاشت، في كثير من المراحل التاريخية، توتراً و"سوء فهم كبيراً" في علاقتها مع الدولة لأسباب تاريخية وسياسية.
وشكّل مصرع بائع للسمك يدعى محسن فكري مسحوقاً داخل شاحنة للقمامة كان قد صعد إليها لاسترداد بضاعته المصادرة من طرف السلطات المحلية، في ليلة 28 أكتوبر/ تشرين الأول 2016، الشرارة الأولى لاندلاع "حراك الريف"، بعد أن نظم شباب غاضبون وقفة احتجاجية دفعت محافظ الإقليم ومسؤولاً قضائياً بارزاً على النزول للشارع من أجل التفاوض معهم.
ومنذ مصرع فكري، عمت الاحتجاجات مدينة الحسيمة شمال شرقي المغرب ومناطق مجاورة لها، لتتحول من مطلب محاكمة المتسببين الحقيقيين في مصرع بائع السمك، إلى مطالب أكبر وأشمل، تتضمّن رفع التهميش وما تسمى "العسكرة الأمنية" عن الحسيمة، وتنفيذ مشاريع تنموية في مجالات التعليم والصحة والتشغيل.
وعرفت الاحتجاجات، لا سيما في مدينة الحسيمة، زخماً بشرياً لشهور عدة، وشملت تظاهرات شهدت مواجهات بين المحتجين وقوات الأمن، انتهت باعتقال العشرات من الناشطين أبرزهم ناصر الزفزافي، قبل أن تخف حدة هذه الاحتجاجات، ويبقى التركيز على محاكمات المعتقلين.
وبعد احتجاجات الريف، أقال العاهل المغربي الملك محمد السادس، 3 وزراء وعدداً من المسؤولين، لعدم إحراز تقدّم في خطة التنمية. وفي إبريل/ نيسان 2019، قضت محكمة الاستئناف في الدار البيضاء بأحكام تتراوح ما بين عام واحد و20 سنة سجناً نافذاً في حق قادة "حراك الريف"، ضمن ما يعرف بمجموعة" الزفزافي ورفاقه"، في حين صدرت أحكام أخرى بالسجن في حق عشرات آخرين من نشطاء الحراك.
ويبقى إطلاق سراح ما تبقى من معتقلين، وعلى رأسهم الزفزافي، وتحقيق الملف المطلبي للحراك، من المطالب الرئيسة التي يرفعها حقوقيون وجمعية عائلات المعتقلين، من أجل تحقيق تقدم ملحوظ في مسار حلحلة الملف.
وقبل أسابيع على حلول الذكرى السادسة لانطلاق الحراك، برزت إشارة بإمكانية حدوث انفراجة وتجاوز "سوء الفهم الكبير" بين الدولة والريف، والذي يمتد إلى السنوات الأولى لخروج المغرب من نير الاستعمار، بعد أن دخل الحزب الاشتراكي الموحّد المعارض في المغرب على خط الملف.
وقدّم الحزب الاشتراكي الموحد مقترحاً برلمانياً لخلق انفراج سياسي، عبر التماس سبل نيل منْ تبقى من معتقلي الحراك وفي مقدمتهم الزفزافي، حريتهم عن طريق عفو عام "لتصحيح الوضع بالإفراج عنهم وردّ الاعتبار لمنطقة الريف من أجل خلق مناخ جديد يعيد الثقة لأهل المنطقة في مؤسسات الدولة ويعالج شروخ الذاكرة الوطنية الجماعية في هذا الجزء من الوطن".
وبينما لفتت المذكرة التقديمية لمقترح القانون، إلى أنّ الغاية من النص هي "معالجة التبعات الناتجة من محاكمات ناصر الزفزافي وباقي رفاقه للمساهمة في خلق مناخ سليم وانفتاح سياسي"، إلا أنّ المبادرة ظلّت حبيسة الرفوف، وأُضيفت إلى سلسلة من المبادرات التي لم تجد طريقها للتنفيذ، وكان من أبرزها فتح وزير العدل المغربي والأمين العام لحزب "الأصالة والمعاصرة" (المشارك في الائتلاف الحكومي الحالي) عبد اللطيف وهبي، الباب أمام إمكانية الطي النهائي لملف "حراك الريف".
وكان وهبي قد أعلن، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أنه يعمل على تحضير ملتمس للعفو عمّن تبقوا من معتقلي "حراك الريف" في السجون، لرفعه إلى العاهل المغربي، غير أنه سرعان ما أعلن أنّ الموضوع وصل إلى نهايته بالنسبة له، بعد أن اكتشف أن لا أحد من المعنيين بمقترح العفو الملكي قدّم طلباً بهذا الخصوص، لكي يتم الشروع في المسطرة القانونية لذلك.
وفي ظل ما انتهى إليه "حراك الريف"، بعد 6 سنوات على اندلاعه، يرى المستشار البرلماني السابق عن دائرة الحسيمة وعضو بلديتها حالياً، نبيل الأندلوسي، أنّ منطقة الريف تحتاج "مصالحة ثانية" عبر إطلاق سراح المعتقلين المتبقين في السجن من نشطاء الحراك، وفتح حوار وطني بشأن الخصوصيات المناطقية للمملكة المغربية، عبر إبراز التنوع الثقافي والهوياتي لهذه المناطق، ومنها منطقة الريف.
ويلفت الأندلوسي، في حديث لـ"العربي الجديد"، اليوم الجمعة، إلى أنّ "العلاقة بين الريف والمركز، اتسمت في كثير من اللحظات التاريخية، بالتوتر لأسباب تاريخية وسياسية، وقد استطاع الملك محمد السادس، تجسير الهوة وتحقيق المصالحة".
وأضاف: "هذا ما يجب أن يُستثمر في اتجاه تجديد بناء الثقة بين الريف والمركز، وهو ما لن يتم دون احتضان الدولة لمختلف الآراء، وتقبّلها بمنطق استيعابي، والقبول بفتح نقاش حقيقي حول عدد من الإشكاليات الهوياتية والتاريخية التي لازلت حاضرة في الوجدان الشعبي والذاكرة التاريخية المحلية".
ويوضح الأندلوسي أنه "بعد ست سنوات من الحادث الأليم الذي راح ضحيته محسن فكري، رحمه الله، وانطلاق حراك الريف، تحققت عدة مشاريع مهمة بإقليم (محافظة) الحسيمة، رغم الملاحظات التي يمكن تسجيلها في إطار التقييم، بحيث تضمن برنامج "الحسيمة منارة المتوسط"، الذي خصص لتأهيل الإقليم، بأمر من الملك محمد السادس، إنجاز 942 مشروعاً، موزّعة على 21 قطاعاً، بغلاف مالي تجاوز 7 مليارات درهم (نحو 700 مليون دولار)".
ويتابع: "من خلال المشاريع المنجزة، يتضح أنّ الدولة قامت بمجهودات مهمة لتنمية إقليم الحسيمة، الذي يحظى بعناية ملكية خاصة، وهذا ما نثمّنه، ونعتبره إنجازاً مهماً ومجهوداً استثنائياً رغم الملاحظات التي يمكن تسجيلها على مستوى تنفيذ بعض المشاريع".
من جهته، يرى الناشط الحقوقي خالد البكاري، أنّ مرور ست سنوات على مصرع محسن فكري، وانطلاق الحراك الشعبي بمنطقة الريف، فترة زمنية كافية لمساءلة المنجز في المنطقة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية، وارتباطاً طبعاً بما هو سياسي.
ويقول، في حديث لـ"العربي الجديد": "صحيح، أنه تمّت عملية تسريع مجموعة من الورش المرتبطة بالبنيات التحتية (طرق، مؤسسات استشفائية، بنيات جامعية...)، ولكن ليس إلى مستوى ما يتم التصريح به رسمياً من كون أننا نقترب من نسبة 80% فيما يخص مشروع "الحسيمة منارة المتوسط"، ولا إلى مستوى ما يمكن أن يجعل المنطقة تقترب من مستويات التنمية التي تعرفها مناطق أخرى، ولا إلى مستوى المؤهلات الجغرافية والطبيعية والبشرية التي تزخر بها، والتي يمكن أن تخلق منها قطباً جاذباً للاستثمارات في مجالات: الصيد البحري والسياحة والصناعة والفلاحة الجبلية".
لكن العطب الكبير، وفق البكاري، يكمن في الجانب الحقوقي، إذ إنّ "الاستمرار في اعتقال من تبقوا من نشطاء الحراك، والمحكومين بمدد سجنية طويلة، بعد محاكمات عرفت تجاوزات مسّت بشروط المحاكمة العادلة، وتأخر الدولة المغربية في طيّ هذا الملف، لا يؤدي سوى إلى تراكم الإحباطات وتوسّع دائرة سوء الفهم التاريخي بين منطقة الريف والمركز الذي يرمز للسلطة الحاكمة".
ويوضح: "لقد تحدّث الملك في أحد خطاباته الأخيرة عن ضرورة تمتين الوحدة الوطنية لمواجهة التحديات الخارجية في عالم يطبعه اللايقين، وأعتقد أنه لا يستقيم حديث عن أي أفق لوحدة وطنية صلبة، بدون إقرار مصالحة حقيقية مع الجهات التي تحمل ذاكرتها إحساساً بالظلم والإقصاء مثل الريف، وبدون جبر ضرر مجالي بين الجهات، وبدون القطع في التعامل مع المعارضات بمنطق التركيع، سواء كانت معارضات حزبية أو مجالية أو هوياتية أو فئوية".
وتبعاً لذلك، يرى البكاري أنه "بات من الضروري اليوم الانطلاق من الإفراج عن ناصر الزفزافي ورفاقه، وإعادة النظر في الهندسة الجهوية التي لم تراع الخصوصيات السوسيوتاريخية، والتي جعلت منطقة الريف موزّعة على ثلاث جهات، وفتح حوار حول ممكنات المصالحة الحقيقية بتعاقدات واضحة، عوض الاستمرار في سياسات الترقيع التي تعتمد المسكنات والتدبير بمنطق العصا والجزرة"، وفق قوله.
وينبّه إلى أنّ "تلك السياسات قد تنجح مؤقتاً في فرض تهدئة، ولكنها ستظل مؤقتة، وسيظل المستقبل مفتوحاً على احتمال انتفاضات أكثر راديكالية، إذا استمر التغاضي عن معالجة الداء والاكتفاء بالمسكنات. في حين أنّ أصل المشكل يوجد في ذاكرة جمعية بالمنطقة ما زالت تراكم الجروح والإحساس بالظلم"، يختم البكاري.