رغم انشغال أجهزة الدولة المصرية والمواطنين بجائحة كورونا، بدأ النظام استعداداته للذكرى العاشرة لثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011، ليبرهن على استمرار تشكيل هذه الثورة مصدر قلق له، حتى مع تغير الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلاد وغلق المجال العام. لكن وعلى عكس العام الماضي، الذي حلت فيه الذكرى التاسعة للثورة في أعقاب تظاهرات سبتمبر/أيلول 2019، التي كانت الأكبر في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، فإن النظام يبدو غير مهتم بالتظاهر بتحقيق انفراجة سياسية، ولا بتكرار فتح المجال في القنوات الموالية له لظهور عدد من الشخصيات السياسية المعروفة بمواقفها المعارضة، ونواب تكتل "25/30" المعارض، الذي انحل عملياً بفشل معظم رموزه في الانتخابات الأخيرة. كما أنه غير مهتم بتخفيف الضغوط نسبياً عن المواضيع الحساسة محل التناول في الصحف المحلية، التي لا تزال واقعة تحت الرقابة الكاملة لمحتواها قبل طباعتها، بواسطة إدارة خاصة داخل المخابرات العامة. بل على النقيض، أصدرت تلك الإدارة تعليماتها للصحف بعدم إبراز الذكرى العاشرة للثورة، أو تناولها بشكل تحليلي وسياسي عميق، والاهتمام أكثر، كالعادة، بعيد الشرطة وتكريم الضباط والمجندين ضحايا العمليات الإرهابية.
الاستعداد هذا العام بدأ على عدة مستويات، أولها كالمعتاد أطلقته وزارة الداخلية بشن حملة، وصفتها المصادر الأمنية لـ"العربي الجديد"، بأنها أهدأ من السنوات السابقة وأقل صخباً، بتفتيش المباحث على العقارات التي تحوي شققاً لإيجار الطلاب والشبان المصريين والأجانب وسط القاهرة، ومطالبة السكان بتقديم بطاقات هويتهم وعقود الإيجار، والأجانب بوثائق السفر والإقامة. وأسفرت هذه التحركات، حتى الآن، عن القبض على نحو عشرة شبان مصريين، أودعوا ثلاثة من أقسام وسط القاهرة، لشكوك في تحركاتهم وعلاقاتهم بمجموعات سياسية ومنظمات حقوقية. وقالت المصادر إن الشباب المعتقلين لم تُوجه لهم حتى الآن اتهامات، ولم يحالوا إلى نيابة أمن الدولة العليا، رغم القبض عليهم، نهاية الأسبوع الماضي. لكن تم التحفظ على هواتفهم المحمولة وأجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم، ومن المرجح ألا يُصرفوا من الأقسام المحتجزين فيها إلا بعد ذكرى الثورة.
وأوضحت المصادر أن الأمن سيعود خلال أيام لإقامة الكمائن (حواجز التفتيش) المتحركة لإيقاف المارة، والدراجات البخارية، وسيارات الأجرة، وفحص الهواتف المحمولة للمواطنين، والكشف السريع عن سجلاتهم الجنائية والسياسية. وكان هذا الأمر أدى العام الماضي إلى اعتقال عدد غير معروف حتى اللحظة من المواطنين، معظمهم بين 18 و40 عاماً، ولم يتم عرض معظمهم على نيابة أمن الدولة العليا إلا بعد ذكرى الثورة، الأمر الذي يجعل من المستحيل معرفة حصيلة المعتقلين أولاً بأول، نظراً لتوزيعهم على أقسام الشرطة ومعسكرات الأمن المركزي ومقار الأمن الوطني المختلفة.
مسألة صدور قرار عفو عن عدد من المتهمين في قضايا سياسية ما زالت تحت الدراسة
وعلى صعيد آخر، حرك الأمن الوطني، خلال الأسبوع الماضي، قضيتين جديدتين تتضمنان اتهامات "بالانضمام لجماعة محظورة وبث أخبار كاذبة على مواقع التواصل الاجتماعي". وبحسب المصادر فقد تم القبض على ثلاثة متهمين في القضيتين، صدرت قرارات بحبسهم من نيابة أمن الدولة العليا، السبت الماضي، وأن المتهمين لا تربط بينهم أي علاقات تنظيمية، وليسوا من الشخصيات المشهورة على أي مستوى، ما يرجح استخدام القضيتين لتجميع أكبر قدر من الشباب، الذين يرغب النظام في التنكيل بهم خلال الفترة الحالية على سبيل التخويف والإرهاب. وذكرت المصادر أن القضيتين لا تتعلق تفاصيلهما فقط بقرب الذكرى العاشرة للثورة، ولكن سيتم ضم متهمين آخرين، تم رصدهم على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب السخرية من النظام، وتوجيه انتقادات له، على خلفية المستجدات السياسية الأخيرة، مثل التوقيع على اتفاق إنهاء الأزمة الرباعية مع قطر، وتشكيل مجلس النواب، واختيارات رئيس الجمهورية للتعيين بالمجلس، وانتقاد أداء الدولة في التصدي لأزمة كورونا وغيرها. وأوضحت المصادر أن تحريك مثل هذه القضايا أمر لن تحيد عنه الأجهزة المصرية بين الحين والآخر، حتى إذا تغيرت بعض الأوضاع السياسية بالبلاد، لإشعار المواطنين بالقبضة الأمنية بشكل دائم وإبقاء التيارات السياسية تحت الضغط.
وعلى صعيد ثالث، علمت "العربي الجديد" من مصادر سياسية مطلعة، ولها اتصالات بالمخابرات العامة والأمن الوطني، أن الجهاز الأخير استدعى، الأسبوع الماضي، عدداً من قيادات الأحزاب اليسارية والأعضاء المسيسين في مجلسي النواب والشيوخ، بدعوى استطلاع رأيهم في "الإجراءات المطلوبة لإشعار المجتمع بحالة من الانفتاح السياسي والانفراجة في المجال العام". هذا الأمر، الذي وصفته المصادر بأنه "مجرد قشرة" للهدف الحقيقي من تلك اللقاءات، وهو تجميع اقتراحات ووجهات نظر بشأن تخفيف الضغوط الغربية على القاهرة في هذا الملف، خصوصاً بعد التطورات السلبية في قضية مقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني، وقضية المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، وصدور قرار البرلمان الأوروبي ضد النظام الشهر الماضي.
وأضافت المصادر أن تلك اللقاءات عُقدت بالتوازي مع الإعلان الأخير عن إنهاء الأزمة الرباعية مع قطر، وزيارات نظمتها وزارة الداخلية لشخصيات عامة إلى السجون بغية نشر تقارير وتصريحات إيجابية عن الأوضاع الإنسانية بها. وأوضحت أن أبرز المقترحات التي اتفق عليها معظم الحضور كانت وجوب الإفراج عن عدد كبير من الشخصيات السياسية الشهيرة، وعدم الاكتفاء بإخلاء سبيل العشرات من المواطنين على ذمة قضايا سياسية بسيطة، وإعادة القبض عليهم مرة أخرى، حيث تم التركيز على حالات المتهمين في قضية "خلية الأمل" ورئيس حزب "مصر القوية" عبدالمنعم أبو الفتوح ونائبه محمد القصاص، وعدد من المحامين الحقوقيين المحبوسين على ذمة القضية 855 لسنة 2020، والتي انضم ثلاثي المبادرة المصرية لها، وتتركز اتهاماتها على تسريب معلومات من داخل السجن لوسائل الإعلام وتقارير حقوقية.
رجحت مصادر عدم صدور اللائحة التنفيذية لقانون العمل الأهلي إلا بعد مرور الذكرى العاشرة للثورة
وبحسب مصادر أمنية، وأخرى حقوقية تتولى الدفاع عن بعض المتهمين في عدة قضايا صدرت فيها قرارات إخلاء سبيل على مدى الشهرين الأخيرين، فإنه قد تم تدوير أكثر من 200 معتقل ممن أخلي سبيلهم على ذمة قضية أحداث سبتمبر/أيلول 2019، حيث نقلوا إلى قضايا جديدة تدور أحداثها المزعومة في تحريات الأمن الوطني داخل السجون. وتدعي أن هؤلاء المعتقلين كانوا يعقدون اجتماعات تنظيمية داخل السجن، ويتفقون على أنشطة إجرامية ترمي إلى قلب نظام الحكم. وتمثل هذه الاتهامات، التي تدور وقائعها داخل السجن، ظاهرة جديدة متصاعدة في تحريات الأمن الوطني وتحقيقات نيابة أمن الدولة العليا. وفي البداية كانت محصورة بالسياسيين والنشطاء المعروفين، أو الذين يتخذ النظام موقفاً عدائياً وخاصاً منهم، مثل علاء عبدالفتاح وأحمد دومة وحتى شادي أبو زيد ومحمد عادل وشريف الروبي. وكان مفهوماً أن يتم افتعال قضايا بمثل تلك الاتهامات لهم ليضمن النظام بقاءهم في السجون لأطول فترة ممكنة. لكن تعميم تلك الاتهامات، بوقائع غير منطقية، على معظم المتهمين في القضايا ذات البعد السياسي، ينذر باستمرار حبس الآلاف من المواطنين غير المؤدلجين، والذين لا تساندهم منظمات حقوقية كبيرة داخل أو خارج مصر، إلى أجل غير مسمى. وذكرت المصادر السياسية أن القيادات الأمنية أبلغتهم أن مسألة صدور قرار عفو عن عدد من المتهمين في قضايا سياسية "ما زالت تحت الدراسة" دون التأكيد على إمكانية تضمينه شخصيات مشهورة، على أن يكون هذا بعد مرور الذكرى العاشرة للثورة. كما رجحت المصادر، بناء على محادثاتها مع القيادات، عدم صدور اللائحة التنفيذية لقانون العمل الأهلي إلا بعد التاريخ ذاته. وكشفت أن بعض الأصوات داخل دائرة السيسي تنصح بتأجيل اتخاذ مثل تلك الخطوات إلى ما بعد أول احتكاك بين الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن والقاهرة، لتكون الخطوة بمثابة "عربون تقارب".
وسبق أن قال مصدر سياسي مطلع قريب من أجهزة النظام، لـ"العربي الجديد" الشهر الماضي، إن المقترحات المتداولة حالياً داخل مكتب السيسي والمخابرات العامة والأمن الوطني، حول إمكانية العودة لإصدار قرارات عفو عن المعتقلين، لتحسين صورة النظام المتضررة بشدة من الأحداث الأخيرة، خصوصاً بعد قرار البرلمان الأوروبي، ما زالت قيد الدراسة، نظراً لاختلاف وجهات النظر حول إصدار عفو بالتزامن مع تولي بايدن الرئاسة. ويرى بعض المقربين من السيسي أن هذه الخطوة ستكون إيجابية وموجهة للخارج، فيما يعتبر البعض الآخر أنها ستكون متاجرة مكشوفة، وتسيء لصورة النظام في الداخل.
يذكر أن بايدن كان قد انتقد أوضاع المعتقلين في مصر، فوجه إدانة لوفاة المواطن الأميركي من أصل مصري مصطفى قاسم في سجنه المصري مطلع العام الماضي. وانتقد تخاذل إدارة الرئيس الخاسر دونالد ترامب في التعامل مع تلك القضية. وعاد، في تغريدة في يوليو/تموز الماضي، لشن هجوم مزدوج على ترامب والسيسي، فحمل الأول مسؤولية اعتقال الشاب محمد عماشة لمدة 468 يوماً في السجون قبل الإفراج عنه بضغط أميركي، ومن جهة ثانية هدد بالتعامل بشكل مختلف مع السيسي حال فوزه بالرئاسة، بقوله "لا مزيد من الشيكات على بياض لديكتاتور ترامب المفضل".
وشهدت السجون المصرية، العام الماضي، أوضاعاً صعبة، في ظل جائحة كورونا، وتوترات أخرى بسبب سوء المعاملة والإهمال الطبي وزيادة حالات الوفاة، ومنع الزيارات لنحو خمسة أشهر، ووضع آلية جديدة تقوم على التسجيل المسبق لراغبي الزيارة. وقد سمح هذا الأمر بالتمادي في منعها بالنسبة لمعظم المعتقلين في القضايا ذات الطابع السياسي، والمتهمين بالانضمام لتنظيمات وجماعات معارضة لنظام الحكم، استمراراً للتمييز السلبي ضد الفئة ذاتها منذ بدء الجائحة. وكان المعتقلون في تلك القضايا هم الأقل استفادة من قرارات العفو المتتالية، التي صدرت بين مارس/آذار ويوليو/تموز الماضيين، والتي شملت أكثر من عشرة آلاف سجين، غالبيتهم الكاسحة من المحكومين في قضايا جنائية عادية، ومنهم المئات من الحاصلين على أحكام بالمؤبد في قضايا تُصنف بأنها خطيرة على الأمن العام.