بعد انتظار لم يدم طويلاً منذ الانتخابات النصفية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، والتي حقّق فيها فوزاً كبيراً لإعادة التجديد لنفسه حاكماً لولاية فلوريدا الأميركية، أعلن الجمهوري رون ديسانتيس، أمس الأربعاء، ترشحه رسمياً للرئاسة الأميركية، ما سيجعله في مواجهة مباشرة مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، في تمهيديات الحزب المقررة بداية العام المقبل.
وظلّ اسم ديسانتيس، منذ عام ونصف العام تقريباً، يتردد كالأكثر قدرة على هزيمة ترامب في التمهيديات، وإخراجه من المشهد، لاسيما مع تصاعد الخلاف وصولاً إلى حدّ القطيعة بين ترامب وعددٍ كبير من قادة الجمهوريين، الذين أبدوا رغبة في التخلص منه ونفض اليد من دعمه بعد الدعاوى والقضايا القانونية التي لا تزال تلاحق الرئيس السابق، والتي يراها البعض في حزبه عائقاً لاستمرار زعامته بحكم الأمر الواقع للحزب. كما أن سطوع نجم ديسانتيس، الذي كان حظي بدعم ترامب سابقاً على سلّم الصعود، جاء فيما حقّق الحاكم انتصاراً كبيراً في انتخابات فلوريدا النصفية، بينما كان ترامب يمنى بهزيمة معنوية في هذا الاستحقاق.
تكمن نقطة ضعف ديسانتيس الأساسية، في أن نجمه لم يتجاوز فلوريدا، ولم يبرز بعد على الصعيد الوطني
لكن بينما يسلّط ديسانتيس الضوء على مزاج "ثقافي" يهمّ شرائح معينة من الجمهوريين، مطلقاً معركته السياسية من بوابة "الصراع الثقافي" بين المحافظين والليبراليين في الولايات المتحدة، ما يكسبه دعماً من متبرعين ومتشدّدين وإنجيليين، إلا أن الإشكالية تكمن في قدرته على تخطي هذه العتبة للولوج إلى دينامية العمل السياسي والاستعداد لمواجهة المشاكل الحقيقية التي تهدد "الحزب القديم العظيم"، أو تهدد البلاد.
وتكمن نقطة ضعف ديسانتيس الأساسية، في أن نجمه لم يتجاوز فلوريدا، ولم يبرز بعد على الصعيد الوطني، فيما ترعب أفكاره عدداً من الجمهوريين يرون فيه ديكتاتورياً صغيراً، بعدما فرض تشريعات تحمل إشكاليات في فلوريدا، من خلال هيمنته على الولاية والتشبيك مع جميع الخيوط اللازمة ليصبح الرجل الأقوى فيها. كما أن عدداً من الجمهوريين، كارهين لترامب، يعتبرون أن التخلص من الأخير، لا ينبغي أن يكون بالإبقاء على الترامبية في وجه آخر. ويُنظر إلى ديسانتيس على نطاق واسع أنه وجه آخر للشعبوية الترامبية، علماً أن هناك من يجادل بأن حتى ترامب، بعد 4 سنوات في البيت الأبيض، قد يكون أصبح أكثر اعتدالاً من ديسانتيس نفسه.
منافسة حامية في تمهيديات الحزب الجمهوري
وباءت كل محاولات ترامب بالفشل لقطع الطريق أمام حاكم فلوريدا، للترشح للرئاسة، سواء باستباق إعلانه الترشح للرئاسة الخريف الماضي، أو بالضغط على ديسانتيس وتهديده بـ"ملفات" أو ممارسة التنمّر عليه. وأعلن الحاكم الشاب (44 عاماً)، أمس، أنه سيكون منافساً في تمهيديات الجمهوريين، بداية العام المقبل، بعدما ظلّ اسمه متداولاً على أنه الأكثر قدرة على إزاحة ترامب.
هكذا، يتطلع الجمهوريون إلى منافسة حامية الربيع المقبل، في التمهيديات الرئاسية، مع دخول ديسانتيس حلبة السباق، واختياره أمس "فضاءات تويتر" لإعلان الترشح، ما اعتُبر إعلاناً للترشح للرئاسة غير مألوف، فيما علّق فريق ترامب متهكماً، ومشيراً إلى ضعف قدرات ديسانتيس على التواصل المباشر مع الجمهور.
ترامب وديسانتيس في استطلاعات الرأي
وكانت سبقت إعلان ديسانتيس الترشح، فترة تراجع متسارع له في استطلاعات الرأي المتعلقة بنوايا الناخبين الجمهوريين، أمام ترامب، بعدما ظلّا متقاربين، وحتى تمكن حاكم فلوريدا من تخطي الرئيس السابق في بعضها، لاسيما إثر الانتخابات النصفية للكونغرس. لكن ديسانتيس لا يزال الأول خلف ترامب في كل استطلاعات الرأي مقارنة بمرشحين آخرين، لم يتخط أي منهم بعد عتبة الـ5 في المائة بنوايا التصويت. لكن حاكم فلوريدا تهاوى سريعاً في الاستطلاعات أخيراً، ما يبدو أنه دفعه إلى حزم موقفه وإعلان ترشحه أمس، ما قد يعطي زخماً لحملته.
وفي أحدث استطلاع رأي، تقدّم ترامب على حاكم فلوريدا بـ42 نقطة، بحسب استطلاع مشترك لجامعة هارفارد وشركة "هاريس"، نشر نتائجه موقع "ذا هيل" في 19 مايو/أيار الحالي. وحصل ترامب على 58 في المائة من نوايا التصويت، مقابل 16 لديسانتيس، لكن المرشحين الآخرين، ومن بينهم السفيرة الأميركية السابقة بالأمم المتحدة نيكي هايلي، ورجل الأعمال فيفيك راماسوامي، وحتى المرشحون المحتملون كنائب ترامب السابق مايك بنس (يرتقب أن يعلن ترشحه خلال الأسابيع القليلة المقبلة)، لم يتخط أي منهم 4 في المائة.
ويعدّ الفرق شاسعاً بين ترامب وحاكم فلوريدا، وهو ما أشار إليه الأول، الثلاثاء، علماً أن الرئيس السابق، الذي يشير إلى ديسانتيس بـ"ديسانكتيمونيوس"، أي المقدّس، لطالما أبدى غضبه من إمكانية ترشح الرجل على اعتبار أن دعمه له كان ما أوصله إلى حاكمية فلوريدا في 2018.
نجومية في فلوريدا
لكن ديسانتيس لم يصل إلى منصبه من خارج الشأن العام أو العمل السياسي، والذي التصق فيه مبكراً، منذ أن تخرج من كلية الحقوق في جامعة هارفارد ثم عمل كضابط في البحرية الأميركية وأشرف على طريقة معاملة المعتقلين في غوانتانامو، ثم أرسل إلى العراق لتدريب فريق من القوات الأميركية الخاصة. وفاز ديسانتيس في 2012 بعضوية الكونغرس، قبل أن يتقدم للترشح لحاكمية ولايته في 2018، ويطلب دعم ترامب الذي أشاد بجدارته مراراً.
وكان سباق 2018 للحاكمية حامياً بين ديسانتيس والديمقراطي أندرو غيوم (49.6 و49.2 في المائة على التوالي)، ما جعل الأول يحكم فلوريدا "بالتراضي" أو "التوافق" كما قال مراراً، إلى أن اكتسح نتائج الانتخابات النصفية الماضية، ما كرّس نجوميته، ومعها إحكام قبضته على الولاية التي يتخذها ترامب نفسه مقراً له منذ مغادرته البيت الأبيض.
أطلق ديسانتيس حرباً على الإجهاض والمثليين ووادي السيليكون
وتتلخص آراء ديسانتيس، المعروفة عنه حتى الآن، على الصعيد الداخلي، بالنزعة المحافظة الشديدة، فيما قام قبل إعلان ترشحه بجولة خارجية تعدّ تقليدية لأي راغب بالوصول إلى البيت الأبيض، لاسيما لجهة التودد لإسرائيل.
وعلى الصعيد الخارجي، قام ديسانتيس في إبريل/نيسان الماضي، بجولة خارجية حمل اختيار وجهاتها دلالات كبيرة، سواء لجهة الجذب الانتخابي أو القضايا التي تعد محورية اليوم في السياسة الأميركية الخارجية. وزار حاكم فلوريدا، بريطانيا، كالدولة الحليفة الأولى لبلاده، وإسرائيل، حيث يعد التصويت اليهودي ودعم اللوبيات اليهودية، أداة سياسية أساسية، ورافعة مهمة للطامحين السياسيين في الولايات المتحدة. كما زار ديسانتيس طوكيو وسيول، للتأكيد على أهمية التحالفات في آسيا، لمقارعة الصين.
وفي تل أبيب، تجنب حاكم فلوريدا إبداء أي موقف من أزمة التعيينات القضائية التي كانت في أوجها بين حكومة بنيامين نتنياهو والمعارضة، للتمايز عن إدارة الرئيس جو بايدن، فيما اعتبر في تصريحات خلال جولته أنه ينبغي على أوكرانيا وروسيا العمل للوصول إلى وقف لإطلاق النار. وبشكل عام، لم تتضمن جولة ديسانتيس أي هفوات، لكنها لم تجعله بارزاً دولياً، بغض النظر عن الحفاوة التي حظي بها في إسرائيل، وخصوصاً في الإعلام الإسرائيلي.
وفي مواجهة الصين، من المعروف أن حاكم فلوريدا يواصل التشدد داخل الولاية، وإصدار تشريعات يقول إنها "لمحاربة أفعال الصين الخبيثة"، ومنها منع المواطنين الصينيين من شراء أراض في فلوريدا.
لكن جولة ديسانتيس الخارجية، لم تتمكن الشهر الماضي، من التعتيم على الإشكالية التي يظلّ يتركها في الداخل، وجاءت في وقت كان زعماء كبار داخل الحزب الجمهوري يعلنون دعمهم لترامب، ومنهم رئيس لجنة الحملات الجمهورية في الكونغرس، السيناتور ستيف دينز. كما جاءت الجولة، في عزّ الحرب المستعرة بين ديسانتيس وشركة "والت ديزني" العملاقة (بشأن إعلان الشركة تأمينات صحية للمثليين) وهو ما رأى فيه جمهوريون حرباً عبثية للشركة اليد الطولى فيها، بعد رفعها دعاوى لمحاكمة ديسانتيس. وجعل ذلك مانحين كبارا في الحزب يتأنون في التفكير بدعمه.
وتعطي معركة ديسانتيس مع "والت ديزني"، صورة عن الإشكالية التي خلقها، إذ يرى متابعون كثر لمعارك الرئاسة الأميركية، أن البرنامج السياسي الذي يروج له هذا المرشح يعزّز الاستقطاب السياسي الحاد في البلاد، بين محافظين وليبراليين، فيما يرى آخرون أن أفكاره لا تصلح لأن تكون رافعة لمرشح رئاسي.
وأطلق ديسانتيس حرباً على ما يسمى الـ"ووك" (woke)، وهو ما يعتبره متابعون نكسة كبيرة للحريات وللتعديل الأول من الدستور، إذا ما تحقق في فلوريدا. وكانت فلوريدا قد مرّرت تشريعاً في 2021، لتنظيم إدارة منصات التواصل الاجتماعي للمرشحين السياسيين، وقال ديسانتيس حينها إنه لمحاربة "إسكات حرية رأي المحافظين من قبل شركات التكنولوجيا وأوليغارشية وادي السيليكون ". وفي 2022، مرّرت فلوريدا قانوناً يحظر تعليم "نظرية العرق النقدية" في جامعات الولاية، وهو أمر يحارب به الحاكم ما يقول إنها أفكار تعزّز النظرة السائدة بأن أميركا عنصرية. وكانت معارك المناهج الدراسية لافتة لهذا الحاكم الشاب، الذي يبدو انتخابياً، السبّاق لسلب عقول الإنجيليين، وكذلك معركته ضد الإجهاض بعدما تمّ منعه في الولاية بعد 6 أسابيع من الحمل.