بعد نحو ثلاثة أشهر على وصوله إلى "10 داونينغ ستريت" (في 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي)، يبدو أن البقاء في منصب رئيس الوزراء البريطاني هو الإنجاز الوحيد الأبرز الذي حقّقه حتى الآن الزعيم الجديد لحزب المحافظين ريشي سوناك.
ولا تشير الأرقام إلى أي تحسّن ملموس في أزمة غلاء المعيشة، ولا في قدرة ملايين البريطانيين على تغطية فواتير الطاقة والضرائب والإيجارات وأقساط الرهن العقاري، بل إن حزمة الحلول والخطط التي حملها سوناك معه منذ لحظة خوضه السباق إلى الزعامة، بعد تنحّي بوريس جونسون الصيف الماضي، زادت من تردّي الأوضاع وفاقمت أزمات البريطانيين العاجزين عن تلبية احتياجاتهم اليومية للمرة الأولى منذ عقود.
وإن بدا سوناك هو الزعيم الأفضل لـ"المحافظين" في هذه المرحلة، إلا أنه قد يكون الأسوأ على الإطلاق بالنسبة للبريطانيين في هذه المرحلة أيضاً. فلا يمكن لأي ظهور علني لرئيس الحكومة ببذلاته الرسمية باهظة الثمن وأحذية "برادا" التي اشتهر بها، إلا أن تذكّر من جديد بحجم الفجوة بين حكومة المحافظين وبين الشارع البريطاني، وبانفصال المسؤولين عن الواقع وعيشهم على كوكب آخر لجهة عدم شعورهم بالبرد ولا زيادة ميزانياتهم بضع مئات من الجنيهات التي زادت على الفواتير والضرائب والأقساط والمواد الغذائية.
ثروة سوناك بلغت ضعف ثروة الملك تشارلز الثالث
ولم يكد يخفت الضجيج الذي أثاره مقطع فيديو قديم مجتزأ من لقاء مع سوناك، حين كان طالباً جامعياً، عندما قال للمحاور إنه لا يمتلك أي صديق من الطبقة العاملة، حتى انتشر قبل أيام قليلة مقطع مصور لحوار بينه وبين أحد المشرّدين يسأل فيه سوناك: "هل تعمل في مجال الأعمال؟ هل تريد الخوض في الخدمات المصرفية الاستثمارية؟".
هذا عدا عن مقاطع مصورة أخرى يتهرّب فيها سوناك من الإجابة على أسئلة الصحافيين عما إذا كان مسجّلاً هو وعائلته في عيادة طبية خاصة، إلى أن أجاب أخيراً بنعم، فكان الاعتراف بمثابة "فضيحة" وسط ما يعيشه القطاع الصحي من مأساة "قاتلة". فكيف سيذكر التاريخ سوناك، الزعيم ورئيس الحكومة البريطانية في أحلك الأوقات التي شهدتها المملكة؟
قيادة اقتصاد بريطانيا
هو أول رئيس حكومة من أصول مهاجرة، بتحدّره من عائلة هندية، والأصغر سناً في "10 داونينغ ستريت"، وهو الذي قاد اقتصاد بريطانيا خلال تفشي وباء كورونا، من موقعه وزيراً للمالية، بخطة طارئة بلغت 330 مليار جنيه إسترليني، ما سمح للموظفين بالمطالبة بـ80 في المائة من رواتبهم بعد أن منعهم الوباء من العمل.
وهو الذي "اخترع" الخطة ذائعة الصيت "Eat Out to Help Out" (تناول الطعام خارج المنزل من أجل تقديم المساعدة). وبلغت قيمة الدعم الذي قدّمته الحكومة على شكل وجبات طعام في جميع مطاعم وحانات المملكة 849 مليون جنيه إسترليني.
هو ابن الطبقة العاملة التي ضحّت في سبيل أقساط المدارس الخاصة التي تقصدها النخبة. لكنه أيضاً أغنى مسؤول بريطاني في بلد يعاني فيه الملايين من الفقر، حتى إن ثروته التي تقدر بـ730 مليون جنيه إسترليني بلغت ضعف ثروة الملك تشارلز الثالث والتي تتراوح بين 300 و350 مليون جنيه إسترليني.
وحتى وإن لم يكن الزعيم المحافظ هو الوحيد الذي يقصد عيادة خاصة، إلا أن وقع هذه المعلومة اليوم يشبه وقع "الاغتيال السياسي" وسط أزمة القطاع الصحي غير المسبوقة، إذ تُعتبر الإضرابات التي تخوضها الممرضات منذ ديسمبر الماضي جنباً إلى جنب مع المسعفين هي الأوسع على الإطلاق منذ تأسيس خدمة الصحة الوطنية "إن أتش إس" قبل أكثر من مائة عام.
وساهمت قوائم الانتظار، التي يواجهها المرضى قبل أن يتمكّنوا من الحصول على الرعاية الصحية العاجلة، بوفاة 500 شخص أسبوعياً بحسب إحصاءات الكلية الملكية لطب الطوارئ.
وتغصّ الصفحات الأولى لكبريات الصحف بعناوين "مخزية" عن اضطرار بعض المرضى من الكهول للذهاب إلى المستشفيات في شاحنات مخصصة لنقل البضائع، لمعالجة الكسور التي تعرّضوا لها.
وعلى الرغم من أن أزمة القطاع الصحي تبدو هي الأبرز اليوم مع ازدياد لافت في عدد الإصابات الخطيرة بفيروسات الشتاء، ومع نقص هائل بالموارد البشرية والمعدّات، إلا أن حكومة سوناك تصرّ حتى اللحظة على عدم الاستجابة لمطالب رفع الأجور التي تخوضها النقابات منذ العام الماضي.
وليس القطاع الصحي وحده المعني بحركة الإضرابات التي تشلّ الحياة وتزيد من غضب الناخبين، بل قطاع النقل العام أيضاً والقطارات والمطارات ووحدات الإطفاء وخدمات التوصيل.
شتاء السخط في السبعينيات
تعيد حركة الإضرابات الواسعة التي تشهدها المملكة اليوم إلى الأذهان شتاء السخط الذي عاشته بريطانيا في سبعينيات القرن الماضي، والذي أدّى إلى إسقاط حكومة حزب العمال بزعامة جيمس كالاهان، حين رفض أي زيادة في الأجور تحت عنوان مكافحة التضخّم. وشملت الإضرابات ذلك الحين موظّفي شركة "فورد" للسيارات وسائقي نقل البضائع والعاملين في مجال الرعاية الصحية.
كما ضربت المملكة آنذاك موجة صقيع مماثلة لما تشهده البلاد حالياً، مع فارق أن وباء كورونا لم يكن موجوداً ولا الحرب الروسية على أوكرانيا وما نتج عنها من ارتفاع لأسعار الطاقة والغاز والمواد الغذائية.
ويُذكر أن الحملة الانتخابية لسوناك أيضاً دافعت ولا تزال عن رفض رفع الأجور لمكافحة التضخّم. وإن كانت عبارة "هل تريد شتاء آخر من السخط؟" هي ما استخدمه البريطانيون شعاراً ضد حزب العمال والنقابات في السبعينيات، إلا أن حكومة المحافظين قد تُغيّر التاريخ وتعبث بالذاكرة، وتصبح هي مثار السخط وليس أي حزب معارض آخر.
يضطر بعض المرضى للذهاب إلى المستشفيات بشاحنات نقل البضائع
يُذكر أن كل استطلاعات الرأي الحديثة تشير إلى أن الناخبين يدعمون الممرضات وموظّفي النقل العام في إضرابهم، ويلقون باللائمة على الحكومة التي ترفض خوض المفاوضات بشكل فعّال والاستجابة للمطالب المحقّة.
يُذكر أيضاً أن "الإنجاز" الوحيد الذي حقّقه سوناك في مواجهة الشلل الذي تسبّبت به الإضرابات كان تمرير قانون يقيّد صلاحيات المضربين ويحدّ من قدرتهم على المضي قدماً في إضرابات واسعة.
ولا تبدو بريطانيا على الساحة الدولية أفضل منها حالاً على الساحة الداخلية، إذ لا يمكن للأزمات الداخلية العالقة إلا أن تعيق خطوات سوناك كزعيم سياسي لبلد، هو الأفقر اليوم بين مجموعة الدول السبع، ويجمع خبراؤه الاقتصاديون على أن "الصدمة التضخّمية، الناجمة عن الوباء وعن الغزو الروسي لأوكرانيا، ستستمرّ فيه لفترة أطول من أي رقعة أخرى"، وأن هذا العام هو "الأقسى والأكثر قتامة وبؤساً" على الإطلاق. أي أن الوقت لن يمهل ربما ولن يسعف حزب المحافظين حتى الانتخابات العامة المقبلة المقررة في سنة 2025 على أبعد تقدير.
في هذا السياق، يصعب الحديث عن "إنجازات" سياسية حقّقها سوناك داخلياً وخارجياً على حد سواء، كما أن الأخبار الواردة من "10 داونينغ ستريت" عن اجتماعات ثنائية أو اتصالات هاتفية تجمع رئيس الحكومة بنظرائه، أو بغيره من الزعماء، تبدو باهتة وفارغة من أي معنى سياسي واستراتيجي نظراً لحجم المأساة التي تطغى أخبارها على الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي.
فملايين الناخبين لا تعنيهم اتفاقية التعاون عبر الدفاع والأمن التي وقّعها الجانبان البريطاني والياباني قبل أسبوع، لكن مستجدّات إضراب الممرضات والمسعفين وقطاع النقل العام، وعدد الوفيات التي تحصدها قوائم الانتظار، تعنيهم وتمسّهم وترسم مصيرهم للأشهر المقبلة. كما أن أخبار القوارب الصغيرة التي تصل إلى شواطئ المملكة محمّلة بطالبي اللجوء لم تعد تعني البريطانيين بقدر ما تعنيهم قدرتهم على تغطية الحدّ الأدنى من الاحتياجات.
تخييب آمال الناخبين
إلا أن سوناك، الذي خيّب آمال ملايين الناخبين، لم يخيّب حتى اللحظة آمال المتشدّدين في حزبه، وقد تمسّك منذ اليوم الأول بسياسته المعادية للاجئين متوعداً كل من يصل إلى بريطانيا بالاحتجاز والترحيل.
كما التزم بوعوده المتعلقة بـ"بريكست" والعراقيل التي تتسبّب بها حكومته عبر "نسفها" أجزاء مهمة من بروتوكول أيرلندا الشمالية (اتفاقية تنصّ على أن تظل جزيرة أيرلندا بأكملها في السوق الأوروبية الموحدة مع حدود جمركية في البحر الأيرلندي. وهذا النظام يتطلب إجراء فحوصات جمركية على البضائع التي تنتقل من بريطانيا إلى أيرلندا الشمالية).
تمسّك سوناك بسياسته المعادية للاجئين متوعداً كل من يصل إلى بريطانيا بالترحيل
ومن المفترض أن يشارك سوناك في قمة فرنسية بريطانية ستعقد في باريس بينه وبين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 10 مارس/آذار المقبل، وستكون قضية البروتوكول أساسية على جدول أعمالها، بحسب "10 داونينغ ستريت".
كما سيناقش الطرفان مسائل الهجرة والصيد والحدود المشتركة. وحتى إن اكتسبت هذه القمة أهمية رمزية على اعتبارها الأولى بين البلدين منذ خمس سنوات، إلا أنه يصعب على المراقب أن يتخيّل نقلة نوعية في العلاقة المتوترة بين البلدين منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وما تلاها من برود في الخطاب الرسمي لكل من الزعيم الأسبق بوريس جونسون ووزيرة الخارجية آنذاك ليز تراس، قبل أن تصل إلى "داونينغ ستريت" وتطلق تصريحها الشهير: "لا أعرف ما إذا كان ماكرون صديقاً أم خصماً".
أما في ما يتعلق بالغزو الروسي على أوكرانيا، فلا تزال بريطانيا سبّاقة في تقديم المساعدات لكييف، إلا أنها سبّاقة أيضاً في دفع أثمان دعمها غير المحدود هذا داخلياً أكثر من دول مجموعة العشرين الأخرى. إضافة إلى أن سوناك يفتقر إلى العلاقة الشخصية التي جمعت جونسون بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ما يصعّب عليه مهمة انتهاز الأزمة للبروز على الساحتين المحلية والدولية.
كما أنه أكمل ما بدأ به جونسون من "حماية" بعض المتنفّذين الروس واستبقائهم في مجلس اللوردات على الرغم من الانتقادات الصاخبة عقب الغزو الروسي، مثل يفغيني ليبيديف وغيره.
شتاء "ساخط" بانتظار سوناك، حتى وإن لم يكن مصيره هو مصير الزعيم العمالي كالاهان، إلا أن ذاكرة الوجع والبؤس التي يعيشها ملايين البريطانيين اليوم لن تخبو في وقت قريب، وسيحتفظون بها على الأرجح حتى موعد الانتخابات العامة المقبلة.