مرّت تجربة الحياة النيابية في الكويت، والتي اعتُبرت نموذجاً متفرداً عن جاراتها في منطقة الخليج العربي والمنطقة العربية، بعدة منعرجات طوال الـ60 عاماً من مسيرتها.
وافتتح أمير دولة الكويت الأسبق الشيخ عبد الله السالم الصباح، والذي يلقّبه الكويتيون بـ"أبو الدستور"، في مثل هذا اليوم، 29 يناير/ كانون الثاني عام 1963، أولى جلسات مجلس الأمة (البرلمان)، ودشّن بذلك مرحلة الحياة الدستورية في الكويت، بعد استقلال البلاد وإلغاء معاهدة الحماية البريطانية عام 1961.
واجهت العقود الأولى من الحياة النيابية في الكويت مخاضاً عسيراً، حيث حُلّ البرلمان حلاً غير دستوري وعُلّق العمل بالدستور، مرتين؛ الأولى من عام 1976 وحتى عام 1981، والأخرى من عام 1986 إلى بعد تحرير الكويت من غزو العراق عام 1992.
كما جرى تزوير نتائج الانتخابات الثانية في تاريخ البلاد عام 1967، بعدما سيطرت الحركة الوطنية بقيادة "حركة القوميين العرب" على تركيبة البرلمان الأول المُنتخب، وظهرت النتائج "صادمة" بخسارة رموز من المعارضة، أبرزهم النائبان السابقان أحمد الخطيب وجاسم القطامي.
كما جرت محاولتان لتنقيح الدستور، لكن دون أن يُكتب لهما النجاح؛ الأولى عام 1980 في ظلّ تعطيل العمل بالدستور الأول، حين شكّلت السلطة "لجنة النظر في تنقيح الدستور"، والثانية بعد استئناف الحياة البرلمانية بإجراء الانتخابات عام 1981 مباشرةً، عقب فشل الحكومة في تمرير تعديلاتها الدستورية، التي اشتملت على 17 مادة، في البرلمان.
وفي تعطيل العمل بالدستور الثاني، أعلنت السلطة عام 1990 عن "المجلس الوطني" بديلاً عن مجلس الأمة، ومدته أربع سنوات، على أن تكون مهمته صياغة دستور جديد، ويتكوّن عدد أعضائه من 75 عضواً، ثلثهم (25) بالتعيين، فيما الـ50 الباقي ينتخبهم الشعب، وصلاحيات المجلس طابعها استشاري غير مُلزم، والذي دعت المعارضة إلى مقاطعته، بعدما قادت حركة احتجاجية عُرفت باسم "دواوين الاثنين" (ملاحق متصلة بالبيت يتجمع بها الرجال)، ضد تعطيل الدستور.
تعدّ لحظة الاحتلال العراقي للكويت المحطة الفارقة في مسيرة البلاد السياسية
وتعدّ لحظة الاحتلال العراقي للكويت المحطة الفارقة في مسيرة البلاد السياسية، والتي على الرغم من كونها وقعت أثناء تعليق العمل بالدستور، إلا أنّ المعارضة في المؤتمر الشعبي الذي عُقد في مدينة جدة بالسعودية، تمسكت بشرعية أسرة الحكم "آل الصباح"، والتي تعهدت بدورها بإعادة العمل بالدستور والحياة النيابية بعد تحرير الكويت، ما ساهم في تحشيد الرأي العام الدولي للتضامن معها ضد العراق.
والتزمت السلطة في الكويت بعد التحرير، بالتعهدات التي قطعتها للمعارضة في "مؤتمر جدة"، وقامت بعد ذلك بمناورتها ضمن قواعد اللعبة الدستورية، حيث تم حلّ كافة المجالس النيابية بعد ذلك حلاً دستورياً؛ مجالس أعوام 1996 و2003 و2006 و2008 و2009 و2013 و2020، وأُبطل مجلسا فبراير/ شباط وديسمبر/ كانون الأول عام 2012 بأحكام من المحكمة الدستورية.
أما المحطة الأبرز في تاريخ الحياة النيابية في الكويت، فحين حسم مجلس الأمة "أزمة الحكم" في البلاد عام 2006، بعد وفاة الأمير الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح، وتمسّك ولي العهد الشيخ سعد العبد الله السالم الصباح بتنصيبه حاكماً، على الرغم من تعذر تأديته اليمين الدستورية أمام البرلمان، بسبب تدهور حالته الصحية، ما أدى إلى تصويت مجلس الأمة بالإجماع على عزله، وتنصيب أمير الكويت السابق الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح حاكماً للبلاد.
الشاهين: لا يجب أن نتأثر بالدعايات السلطوية، والتي تدفع ويُدفع لها من أنظمة غير مُحبّة للديمقراطية
وبمناسبة مرور 60 عاماً على ذكرى أولى جلسات البرلمان، قال أمين سر مجلس الأمة أسامة الشاهين، في حديث مع "العربي الجديد"، إنها "مناسبة هامة بذاتها كونها تدشينا للحياة البرلمانية المعاصرة، ولكنّها أيضاً تزداد أهمية في أعيننا عندما نُدرك بأنه اليوم الذي دخل به دستور 1962 حيز النفاذ والعمل به، حيث إن الدستور للدلالة على أهمية الحياة الديمقراطية النيابية، ربطَ سريان أحكامه وبدء العمل بها بانعقاد أول جلسة من جلسات مجلس الأمة، وهو ما يصادف هذا التاريخ".
ويرى الشاهين أن الأزمات السياسية التي عرفتها الكويت طوال هذه الفترة، من "خصائص ومظاهر الحياة الديمقراطية وليست بالضرورة مظهراً سلبياً، ولكنّها دلالة على سُنّة التدافع الطبيعية والتي ترتقي بها الأوطان والإنسان على حدٍ سواء".
ولفت إلى أنه "لا يجب أن نتأثر بالدعايات السلطوية، والتي تدفع ويُدفع لها من أنظمة غير مُحبّة للديمقراطية، ولا تريد أن تطمح شعوبها لنيل حقها الطبيعي بالنقد والكلام والتغيير والتأثير في الحياة العامة، فهم يحرصون على إظهار ما يعتبرونه من سلبيات الديمقراطية، وينسبون كل فشل مالي أو إداري أو سياسي لمثل هذه المظاهر، بينما يريدون انفراداً بالرأي وتكتيماً على الإعلام وحجراً على الأفواه، وهو ما لا ينطلي على الشعوب الحية والواعية، وهو ما لم ينطلِ على شعب الكويت".
وأوضح الشاهين أن الشعب الكويتي "ذاق مرارة كوارث عظيمة، من أبرزها الاحتلال العراقي للبلاد، وعدة كوارث اقتصادية أخرى حدثت في سنوات مختلفة، تزامنت كلها مع فترات انقطاع الحياة الديمقراطية"، وأضاف أنه "لاستمرار المجالس النيابية واستمرار الصوت والرأي والرأي الآخر، أهمية كبرى في ترشيد القرار العام في الدولة، وهي رغم ما قد يعتبره البعض سلبيات تظلّ بلا شك أفضل بكثير وأرقى بمراحل من القرارات الفردية والرأي الواحد واللون الواحد".
وشدد على أنه "إذا كانت هنالك أجواء من يأس وإحباط، فسرعان ما يبددها حرص الكويتيين على الديمقراطية، وإقبال الحشود الوطنية على صناديق الاقتراع في كل ممارسة نيابية، وذلك رغم كل الدعايات السلبية، التي لا تنجح في تغيير الوجدان والاطمئنان إلى أهمية هذه التجربة".
وأكّد الشاهين على كون "الإنسان الكويتي المُتعلّم والمُجرّب والواعي، والبنية الأساسية التحتية المتوافرة، وتأكيدات القيادة السياسية المتمثلة بسمو الأمير وسمو ولي العهد، والتجربة المحلية والدولية من حولنا، تأتي كلها باتجاه واحد وهو تعزيز التمسّك بهذه التجربة، وقدرتها على عبور مختلف التوترات السياسية، إلى مستقبل أفضل فيما يتعلق بالإنجاز التشريعي وما يتعلق بالإصلاح الحكومي على حدٍ سواء".
وأشار إلى أن "انتشار الممارسات الديمقراطية والنيابية في المحيط الإقليمي، يعزز ويحمي وينشئ بيئة حاضنة وراعية للتجربة الديمقراطية الكويتية، وتتكسر على ذلك موجات التحريض الخارجية، وأن ما حدث في قطر الشقيقة من الانتقال في مجلس الشورى إلى طوره الجديد، وأعني به الانتخاب لعدد كبير من مقاعده، هو تطور مُلفت في الحالة الإقليمية يُضاف إلى مجموعة من التطورات التي تصبّ كلها في اتجاه أن المستقبل للديمقراطية والمشاركة الشعبية في الإدارة العامة وتحمّل المسؤوليات".
السيف: أهمية الديمقراطية في الكويت تكمن في فتح المجال للرقابة الشعبية على أعمال السلطة التنفيذية والحد من فسادها
من جهته، يقول الناشط السياسي والمحامي عبد العزيز السيف، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "أهمية الديمقراطية في الكويت تكمن في فتح المجال للرقابة الشعبية على أعمال السلطة التنفيذية والحد من فسادها، ومحاسبتها إن استدعى الأمر ذلك، وما تمنحه للناس من حقوق وحريات عامة، التي لا سبيل للحديث عنها أو المطالبة بها إلا في ظل وجود نظام ديمقراطي قائم"، وأضاف: "الحكومات التي تعمل بلا حسيب أو رقيب، وبغيابهما يزداد الفساد ويتغلغل في المجتمع إلى حد إضعافه، ولذلك عند الاطلاع على مؤشرات التنمية والشفافية ومحاربة الفساد نجد أن الدول الديمقراطية هي من تتصدر المراكز الأولى".
وعن مكامن الخلل في التجربة الديمقراطية، التي تؤدي إلى استمرار الأزمات السياسية في الكويت، يُشير السيف إلى ثلاثة أسباب رئيسية، قائلاً: "الأول أن المشروع الديمقراطي لم يكتمل في البلاد، فبعد وفاة الشيخ عبد الله السالم اختل فوراً هذا المشروع".
وعن السبب الثاني أوضح: "السلطة بيدها كل زمام الأمور، فتُخضع المواطنين إلى ما يُسمى بـ"الصفقة السلطوية"، وهو بإعطاء بعض الناس بعض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بمقابل تخليهم عن حقوقهم السياسية، فالدولة في الاقتصاد الريعي تستعمل المال العام لكسب ولاء الناس، وكل شخص حسب موقعه في المجتمع، وأمثلة ذلك في كسب ولاء المواطنين عبر "ديوان الخدمة المدنية"، وكسب ولاء التجّار عبر الجهاز المركزي للمناقصات العامة، ومن هنا تنشأ لدينا طبقة تسمى رأسمالية المحاسيب، وهم التجّار الذين يبنون ثرواتهم بناءً على شبكة علاقاتهم مع السلطة السياسية، وليس بناءً على منافسة حقيقية في السوق".
أما حول السبب الرئيسي الثالث، فقال السيف إنه "يكمن في النخب، فعند نجاح أي ديمقراطية، يجب أن تقتنع النخب أولاً بالفكرة، وأقصد كلتا النخبتين؛ الحاكمة والنخبة المعارضة، وهذان الطرفان المتضادان مشغولان في القضايا اليومية، ويستبعدان الحديث عن الإصلاح السياسي الشامل، الذي ينتشل البلد مما هو عليه من تعطيل، فالسلطة وإن سمحت ببعض الممارسات الديمقراطية مثل التمثيل النيابي، فإنها تُغلق باقي الأبواب التي تساهم في بناء ديمقراطية حقيقية مثل إشهار الأحزاب السياسية، فيصبح الناس أمام واقع سيئ في هذه الممارسة، ونجدهم يلجؤون إلى القبليّة والطائفية حيث هذا ما تبقّى لهم".
ويخشى السيف من استمرار الوضع الحالي كما هو عليه، حيث يتوقع أن "يُصبح مجلس الأمة عبئاً على الناس قبل أن يكون عبئاً على السلطة، وأن تلعن الناس الديمقراطية، لأنه خلال هذه التجربة المتواضعة التي لها ما لها وعليها ما عليها، حصلت العديد من الحوادث التي تؤكد فساد المؤسسة التشريعية، فأصبح البرلمان باب ارتزاق للبعض، وانعكاساً لصراع الأقطاب في السلطة".