وضع تقرير صدر حديثاً انتهاكات "هيئة تحرير الشام" ("جبهة النصرة" سابقاً)، في الشمال الغربي من سورية، مجدداً، في واجهة المشهد، وأكّد احتكار "الهيئة" للقرار في مختلف المجالات السياسية والإعلامية والاقتصادية، حيث تضيّق الخناق على معارضيها عبر التهديد أو الاعتقال أو المحاكمات من خلال جهاز قضائي يطبق قوانينها.
"هيئة تحرير الشام" تضيّق الخناق على النشطاء
وأكدت شبكة "شام" الإخبارية المحلية أن "هيئة تحرير الشام" تضيّق الخناق على النشطاء الذين يعارضون توجهاتها في محافظة إدلب ومحيطها، مشيرة إلى أنها استطلعت آراء 70 ناشطاً من نشطاء الحراك الثوري، من أبناء المحافظة والمحافظات الأخرى، والعاملين في إدلب.
ووفق الشبكة التي أصدرت تقريرها أول من أمس الإثنين، فقد "أجمع قرابة 90 في المائة من النشطاء المشاركين في الاستطلاع على أن (المسؤول في الهيئة) خطاب الأردني، وهو أردني من أصل فلسطيني، يقود الحملات المتعاقبة ضد النشطاء بشكل مباشر أو عبر مكتب مديرية الإعلام في حكومة الإنقاذ التابعة للهيئة"، وأشارت إلى أن خطاب "يتبع أسلوب التهديد المباشر أو الاعتقال أو عبر تبليغات تصل إلى النشطاء لمراجعة مكتب العلاقات في حكومة الإنقاذ"، أو رفع دعاوى على النشطاء أمام الجهاز القضائي التابع لـ"الهيئة".
يقود المسؤول في الهيئة خطاب الأردني، وهو أردني من أصل فلسطيني، الحملات المتعاقبة ضد النشطاء
وكانت الشبكة السورية لحقوق الإنسان قد أصدرت تقريراً في مايو/ أيار الماضي، وثّقت فيه 17 حالة اعتقال وخطف بحق الصحافيين والعاملين في مجال الإعلام على يد عناصر "هيئة تحرير الشام".
"هيئة تحرير الشام" تحتكر قطاع المحروقات
ولا يتوقف تفرد "الهيئة" بالقرار عند الحدود الإعلامية، بل يشمل كل المجالات الاقتصادية أو السياسية، وحتى الإغاثية وقطاع التعليم.
وتحتكر "هيئة تحرير الشام" قطاع المحروقات في شمال غربي سورية، عن طريق شركة "وتد"، التي قرّرت منذ أيام بيع المشتقات النفطية في المنطقة بالدولار الأميركي بعد تراجع القيمة الشرائية لليرة التركية، وهي العملة المعتمدة في الشمال السوري.
وقالت الشركة، في نشرة أسعارها الجديدة، إن سعر ليتر البنزين المستورد أول بـ860 سنتاً من الدولار الأميركي، والمازوت المستورد أول بـ812 سنتاً، والمازوت المحسن بـ641 سنتاً، والمازوت المكرر بدائي بـ504 سنتات.
وفي هذا السياق، أشار الباحث الاقتصادي خالد تركاوي إلى أن "هيئة تحرير الشام تهيمن على كامل القطاع الاقتصادي أو معظمه في شمال غربي سورية"، موضحاً في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "الهيئة تموّل نفسها بشكل رئيسي من خلال هذه السيطرة على الاقتصاد". وبيّن تركاوي أن "الهيئة منعت التجارة بعدد كبير من السلع إلا عن طريق تجار معتمدين من قبلها"، مضيفاً أيضاً أنها "تدير محطات تزويد بالوقود ومولدات كهربائية ضخمة مقابل دفع اشتراكات محددة".
ويعيش 4 ملايين سوري في مناطق سيطرة "هيئة تحرير الشام" في ظروف إنسانية صعبة، في ظل ارتفاع مستوى البطالة. وذكرت مصادر محلية لـ"العربي الجديد"، أن "ظاهرة التسول انتشرت في الآونة الأخيرة في شمال غربي سورية بسبب الفقر، وقالت إن هناك فرص عمل محدودة في القطاع الزراعي، مشيرة إلى أن "أجرة العامل لا تتجاوز الدولار ونصف الدولار في أحسن الأحوال"، وهي "لا تسد الحاجات الأساسية للناس".
وبيّنت المصادر أن "الهيئة في طريقها إلى احتكار قطاع الصيرفة في الشمال الغربي من سورية"، مشيرة إلى أن "جلّ الصرافين إما تابعين للهيئة أو يعملون تحت حمايتها"، كما لفتت إلى سيطرة "الهيئة" على المعابر كلها في المنطقة، وأبرزها معبر باب الهوى مع الجانب التركي، ومعبر دير البلوط مع منطقة "غصن الزيتون" (التي أقامتها تركيا في شمال حلب/ عفرين ومحيطها)، ومعبر الغزاوية مع منطقة "درع الفرات" (في ريفي حلب الشمالي والشمالي الشرقي).
وإذ أوضحت المصادر أن المعابر مع مناطق النظام السوري "مغلقة"، أكدت حصول "عمليات تهريب بشر من مناطق النظام إلى الشمال، بالإضافة إلى عمليات تهريب بضائع، ولكن بشكل محدود".
وكانت "هيئة تحرير الشام" قد شكّلت في عام 2017 ما يسمّى بـ"حكومة الإنقاذ" لإدارة مناطق سيطرتها من نواح خدمية. لكن هذه الحكومة لم تستطع انتشال الشمال الغربي من سورية من أزماته الاقتصادية، على الرغم من الأموال التي تجنيها "الهيئة" من المعابر ومن الضرائب والإتاوات التي تفرضها على التجار والصناعيين في المنطقة.
وحيّدت "الهيئة" خلال السنوات الماضية كل فصائل المعارضة السورية إما بالقوة، حيث دخلت باحتراب مع هذه الفصائل، أو بالتضييق، ما اضطر فصائل عدة للانتقال إلى ريف حلب الشمالي، الذي يقع جزء كبير منه تحت سيطرة فصائل "الجيش الوطني" التابع للمعارضة السورية.
يشمل تفرد "الهيئة" بالقرار المجالات الاقتصادية والسياسية والإعلامية، وحتى الإغاثية وقطاع التعليم
ولا تسمح الهيئة بأي حراك سياسي يتعارض مع توجهها، لذا لا توجد في محافظة إدلب أحزاب أو تيارات سياسية يتصادم خطابها مع خطاب الهيئة، التي لا تسمح أيضاً بأي نشاط للائتلاف الوطني السوري الذي يشرف على مناطق المعارضة عن طريق الحكومة السورية المؤقتة.
وسعت "الهيئة"، وخصوصاً خلال العام الحالي، إلى تسويق نفسها على أنها مشروع يمكن التفاهم معه من قبل الأطراف الفاعلة في الملف السوري، من خلال تحييد تنظيمات أكثر تشدداً في الشمال الغربي من سورية، وشنّت لأجل ذلك أكثر من حملة اعتقالات بحق تنظيم "حراس الدين" المتطرف، كما نظمت في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، حملة أدت إلى تحييد فصيل "جنود الشام" بزعامة مسلم الشيشاني، في ريف اللاذقية الشمالي الشرقي.
أي دور لحكومة الإنقاذ؟
وتعليقاً على أدائها وتجاوزاتها، رأى الباحث في مركز "جسور" للدراسات عباس شريفة، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "العلاقة بين هيئة تحرير الشام وحكومة الإنقاذ لا تزال حتى اللحظة غير مُعرّفة". وأضاف: "لا نعرف من هي الجهة الحاكمة، ومن هي الأداة المنفذة في الشمال الغربي من سورية"، معتبراً أن "عدم تعريف هذه العلاقة يجعل من الصعوبة بمكان تحديد المسؤولية عن كثير من التجاوزات والانتهاكات في محافظة إدلب ومحيطها".
وأشار شريفة إلى أن "هيئة تحرير الشام لم تسمح بصحافة ناقدة، بحيث تصبح هناك رقابة شعبية على أدائها في مناطق سيطرتها"، مضيفاً أن "الهيئة تضيق ذرعاً بكل الأصوات المنتقدة لأبسط الأمور على المستويين المعيشي والخدمي".
كما بيّن الباحث أنه "لا يوجد نظام حوكمي واضح في مسألة إنتاج السلطة وانتخابها أو محاسبتها وعزلها" في المنطقة، وهو "ما يجعل فكرة التجاوزات والانتهاكات واردة بسبب عدم وجود آليات محاسبة أو مؤسسات حقيقية يمكن أن تلتزم بالقوانين".