سجل التاريخ السياسي للجزائر محطات تجاوزت فيها الخلافات السياسية بين السلطة وشخصيات معارضة حدود الخصومة، ووصلت إلى مستويات التخوين ومحاولة الإساءة إلى الماضي السياسي والنضالي لهذه الشخصيات بسبب مواقفها ورفضها لخيارات السلطة، لكن هذه الأخيرة تعود لاستدراك الموقف بشكل متأخر، من خلال تكريم الشخصيات نفسها في الجنائز.
وشكل حضور ممثلين عن القيادة العليا للجيش إلى مقبرة سيدي يحيى أمس الخميس، في جنازة المناضل الجزائري والقومي لخضر بورقعة (86 سنة)، لتسليم برقية تعزية رسمية من قائد أركان الجيش الفريق سعيد شنقريحة، يداً بيد إلى عائلته، عنواناً بارزاً لاستدراك الموقف بشأن بورقعة من قبل قيادة الجيش.
ولعب الجيش الدور الأبرز في اعتقال بورقعة في يونيو/ حزيران 2019، وحتى 2 يناير/ كانون الثاني 2020، بسبب مواقفه المعارضة لهيمنة المؤسسة العسكرية على الخيارات السياسية ودفاعه عن مبدأ استبعاد الجيش من صناعة القرار. وبدا أيضا أن التلفزيون الرسمي بصدد محاولة استدراك "خطاياه" الإعلامية بحق بورقعة، بعدما بث سابقاً تقريرا يوم اعتقال بورقعة، شكك في نضاله الثوري وضخ جملة من الافتراءات في حقه، ناهيك ببيانات التعازي الرسمية التي وردت من رئيس الحكومة، عبد العزيز جراد، وكبار المسؤولين في الدولة.
وقبل بورقعة، كان الزعيم السياسي ومؤسس أول حزب سياسي معارض في الجزائر، حسين آيت أحمد، أكثر الشخصيات السياسية التي تعرضت للملاحقة السياسية ومحاولات مستمرة من التشويه على مدار عقود، بسبب مواقفه المعارضة ونشاطه في الخارج ضد السلطة، قبل عهد التعددية السياسية عام 1989، ثم لاحقا بسبب مناوءته لتوقيف المسار الانتخابي من قبل الجيش في يناير/ كانون الثاني 1992، ووصفه لما جرى بالانقلاب.
لكن أكبر حملة تشويه طاولت آيت أحمد، كانت بعد مشاركته مع مجموعة من الشخصيات والقوى السياسية المعارضة، في مؤتمر عقد في روما، لبحث حلول سياسية للأزمة الأمنية، برفقة الرئيس الراحل أحمد بن بلة. وأطلقت حينها السلطات أذرعها السياسية والإعلامية في حملة تهجم تجاوزت كل حدود اللياقة، وألغت مسارا تاريخيا وثوريا لآيت أحمد، حيث وصف بـ"المرتزق" و"الخائن".
وفي ديسمبر 2015،
وقبل وفاته في ديسمبر/ كانون الأول 2015، رفض آيت أحمد أن يدفن في المقبرة الرسمية، لكن السلطات حاولت استدراك الموقف عبر المساعدة في تنظيم جنازته. وحضرت القيادات الحكومية والسياسية والأمنية مراسم إلقاء النظرة الأخيرة على جثمانه، وعاد التلفزيون الرسمي الذي كان جزءا من الحملة السابقة ضد آيت أحمدن لبث تقارير تمجد مسيرته النضالية، فيما أرسل الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة رسالة تعزية رسمية، وأطلق اسمه على منشآت تكريما له.
ولم يكن حظ المناضل الكبير عبد الحميد مهري الذي شارك في مؤتمر روما أيضا، أقل من آيت أحمد، منذ إعلانه رفض حزبه "جبهة التحرير الوطني" لانقلاب الجيش في يناير/ كانون الثاني 1992. حينها بدأت الملاحقات ضد مهري، ولم تجدد له وزارة الخارجية جواز سفره باعتبار دبلوماسيا ووزيرا في الحكومة المؤقتة لثورة التحرير، ولم تتمكن زوجته من السفر للعلاج في الخارج.
كما تم تنفيذ انقلاب ضده في رئاسة الحزب عام 1996، بعد رفضه إعلان دعم الحزب لمرشح العسكر للرئاسة ليامين زروال، لكن السلطة حاولت استدراك ذلك في وفاته، عبر تمجيد نضاله الثوري والقومي في التلفزيون، وإرسال بوتفليقة لرسالة تعزية حملت ثناء على خصال الرجل.
وإضافة إلى هؤلاء، يحفل رصيد السلطة في الجزائر، بعدد بالغ من الأمثلة التي أساءت فيها السلطة تقدير التعامل مع شخصيات أخرى كان لها باع نضالي طويل، بينها الرئيس أحمد بن بلة الذي سجن بعد انقلاب 19 يونيو/ حزيران 1965، ثم عاش منفيا في الخارج يتجول بوثيقة سفر باكستانية، إلى غاية عودته الى البلاد بعد التعددية السياسية.
وطاولته ضمن مجموعة المشاركين في مؤتمر روما الذي عقد عام 1995 لحل الأزمة الجزائرية، تهمتا الخيانة والاسترزاق من قبل السلطة وأذرعها الإعلامية والسياسية، قبل أن يعيد بوتفليقة له الاعتبار، ويلغي العيد السنوي الذي كان يقام بمناسبة الانقلاب عليه، ويقيم له احتفاء كبيرا في بلدته مغنية غربي الجزائر، ثم جنازة رئاسية عند وفاته في إبريل/ نيسان 2012.
وبين الشخصيات التي كانت ضحية التشويه السياسي، المناضل كريم بلقاسم، وهو قائد وفد مفاوضات الاستقلال عن فرنسا، عارض نظام الرئيسين أحمد بن بلة وهواري بومدين بعد الاستقلال، واتهمه النظام بالخيانة، وحكمت عليه محكمة أمن الثورة بالإعدام.
وجاء في القرار أن أي جزائري يمكن له أن يقوم بتنفيذ الحكم، قبل أن يعثر عليه مشنوقا في غرفة بفندق بفرانكفورت الألمانية. وفي عهد الرئيس السابق الشاذلي بن جديد، قام برد الاعتبار له، وتم جلب جثمانه لدفنه في المقبرة الرسمية، وتكريم عائلته وأطلق اسم مطار عليه في منطقة حاسي مسعود جنوبي الجزائر.
والمسار نفسه اتخذه تعامل السلطة مع المناضل ووزير خارجية الثورة الجزائرية محمد خيضر، والذي نفي بعد الاستقلال بسبب معارضته للسلطة، واتهمته بخيانة الأمانة وسرقة أموال الثورة، قبل أن يتم اغتياله في مدريد في 1967، لكن الرئيس بن جديد أعاد له الاعتبار بعد تسوية مشكلات مع عائلته، وتم تكريمه وإطلاق مطار باسمه في منطقة بسكرة جنوبي الجزائر.