فتحت الأحداث الدامية التي عصفت في الشمال الشرقي من سورية منذ أيام، الباب أمام كلّ الاحتمالات، لجهة العلاقة غير المستقرة أساساً بين النظام والأكراد السوريين، الذين باتت لهم شوكة عسكرية لا يُستهان بها في منطقة شرقي الفرات، التي تشكّل نحو ثلث مساحة البلاد، والتي كان خروجها عن سيطرة النظام سبباً مباشراً في تهالك اقتصاده. وشهدت مدينة القامشلي التابعة إدارياً لمحافظة الحسكة، في أقصى الشمال الشرقي من البلاد، خلال الأيام الماضية، اشتباكات دامية بين مليشيا "الدفاع الوطني" التابعة للنظام، وبين قوى الأمن الداخلي التابعة لـ"الإدارة الذاتية"، والمعروفة بـ"الأسايش"، والتي حقّقت مكاسب على الأرض، أبرزها انتزاع حيّ طي من مليشيا "الدفاع الوطني"، التي فرّ عناصرها بعد أيام قليلة من الصراع.
لم يبدُ النظام متمسكاً بمليشيا الدفاع الوطني، كما أن قواته لم تساندها
وذكرت مصادر مطلعة لـ"العربي الجديد"، أن الجانب الروسي يبذل مع قيادة "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) ذات الطابع الكردي، جهوداً لتطويق الأحداث، كي لا تخرج عن نطاق السيطرة وتكون لها تداعيات سلبية في عموم منطقة شرقي نهر الفرات. وأوضحت المصادر أن الجانب الروسي قدّم مقترحاً بدخول قوات النظام والشرطة التابعة له إلى حي طي الذي فقدته "الدفاع الوطني" لصالح "الأسايش"، لكن الأخيرة رفضت هذا المقترح. كما جرى، وفق المصادر، تداول مقترح بحلّ "الدفاع الوطني" برضى النظام، مقابل حلول قوات الأخير مكان هذه المليشيا.
وبيّنت مصادر مقربة من "الأسايش" لـ"العربي الجديد"، أن المفاوضات مع الجانب الروسي والنظام استمرت أمس السبت، متحدثة عن تمدد الهدنة على هذا الأساس. وأوضحت المصادر أن مندوبين من كلّ الأطراف "شاركوا في المفاوضات"، مشيرة إلى أن قائد "قوات سورية الديمقراطية" مظلوم عبدي أرسل مندوباً عنه لحضور هذه المفاوضات التي يشرف عليها الجانب الروسي، للتوصل إلى اتفاق ينهي حالة التوتر في عموم محافظة الحسكة.
من جهته، أوضح الصحافي عبد العزيز الخليفة (وهو من أبناء محافظة الحسكة)، أن حي طي الذي سيطرت عليه "الأسايش" قريب من مطار القامشلي، معتبراً أنه "من الواضح أن النظام حريص على بقاء هذا الحي تحت سيطرته لأهميته الجغرافية". وأعرب الخليفة عن اعتقاده بأن النظام "غير متمسك بمليشيا الدفاع الوطني، والدليل أن قواته لم تساندها"، مضيفاً أن النظام "ربما يقبل بحلّ هذه المليشيا مقابل نشر قوات له وشرطة في حي طي". ولفت الخليفة إلى أن النزاع الحالي "ليس صراعاً يتعلق بالوجود في محافظة الحسكة، ولهذا السبب لم تتدخل قوات النظام أو قسد، وبقي محصوراً بين الدفاع الوطني والأسايش". وبيّن أن "مليشيا الدفاع الوطني في القامشلي تضم عناصر من عشائر عربية عدة، ولكن العدد الأكبر من قبيلة طي".
وتسيطر القوى الكردية على جلّ محافظة الحسكة باستثناء مربعين أمنيين للنظام في مدينتي القامشلي والحسكة وبعض القرى، إضافة إلى مطار القامشلي، وفوجين عسكريين هما: "الفوج 123" (فوج كوكب) قرب الحسكة، و"الفوج 154" (فوج طرطب) قرب مدينة القامشلي. كذلك تنتشر قوات النظام في مناطق عدة على الشريط الحدودي مع الجانب التركي، وفق اتفاق تركي ـ روسي أبرم أواخر العام 2019 إبان العملية العسكرية التركية في منطقة شرقي نهر الفرات. وتعد محافظة الحسكة من أهم المحافظات السورية، كونها تضم ثروة نفطية تقع كلّها تحت سيطرة الجانب الكردي والمدعوم بقوة من "التحالف الدولي" بقيادة الولايات المتحدة. كما تضم ثروة زراعية مهمة، حيث شكلّت الحسكة أهم سلّة غذائية سورية حتى العام 2011. ومنذ خروجها عن سيطرة النظام منذ سنوات عدة، تأثر اقتصاد الأخير ووصل إلى مستويات غير مسبوقة من التراجع.
ويحاول النظام نقل التوتر من محافظة الحسكة إلى مناطق أخرى تتمتع بتداخل سكاني عربي وكردي، خصوصاً في حيي الشيخ مقصود والأشرفية في مدينة حلب، كبرى مدن الشمال السوري. ويعد حي الشيخ مقصود أكبر تجمّع سكاني في حلب، إضافة إلى وجود كردي كبير في بلدة رفعت ومحيطها والواقعة على بعد 50 كيلومتراً شمال مدينة حلب.
يحاول النظام نقل التوتر من الحسكة إلى مناطق أخرى تتمتع بتداخل سكاني عربي وكردي
وفي هذا الصدد، أكد "المرصد السوري لحقوق الإنسان" أن قوات النظام تضيّق على سكان الحيَّين المذكوريَن للضغط على الجانب الكردي في القامشلي ولفرض شروطها هناك، حيث انتشرت دوريات في حي الأشرفية للتدقيق في الهويات وتفتيش المواطنين والتضييق عليهم. وأشار "المرصد" إلى أن قوات النظام قطعت الطريق الواصل ما بين مدينة حلب ومنطقة تل رفعت في ريف حلب الشمالي، ومنعت وصول المواد الغذائية والمحروقات إليها، تزامناً مع الأحداث التي شهدتها مدينة القامشلي.
ومن الملاحظ أن الصراع الدموي تجدد بين النظام والجانب الكردي مع بدء الاستعدادات لإجراء انتخابات رئاسية لتثبيت بشار الأسد في السلطة لدورة جديدة مدتها سبع سنوات. وكانت "الإدارة الذاتية" الكردية أعلنت منذ أيام أنها لن تسمح بوضع صناديق الانتخابات الرئاسية في المناطق التي تسيطر عليها "قسد"، كون هذه الانتخابات "مغامرة من جانب الروس والنظام والإيرانيين لفرض الأمر الواقع، وتفتقر إلى دعم المجتمع الدولي، ودعم الشعب السوري الذي لا يرى في هذه الانتخابات منقذاً للوضع"، وفق قيادي في أحد الأحزاب المشكِّلة لهذه الإدارة.
وأشار المحلل السياسي المقرب من "قسد" آزاد حسو، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن مليشيا "الدفاع الوطني" هي "الخاسر الأكبر مما جرى في القامشلي"، معرباً عن اعتقاده بأن انشغال النظام بالانتخابات حال دون تدخله المباشر في الصراع إلى جانب هذه المليشيا. ورأى حسو أن "الأسايش" التابعة لـ"الإدارة الذاتية" ذات الطابع الكردي "قوة منظمة، بينما الدفاع الوطني تضم مرتزقة يقاتلون من أجل المال"، مشيراً إلى أن القوة الكردية "فتحت ممرات آمنة لإجلاء المدنيين من حي طي، ووفرت سلالاً غذائية لهم".
وتقع مدينة القامشلي على الحدود السورية التركية، وتعد امتداداً لمدينة نصيبين التركية، ويتبع لها عدد من النواحي الإدارية، منها تل حميس والقحطانية وعامودا. وتعد القامشلي بمثابة "سورية مصغرة"، إذ تضم عرباً وكرداً وسرياناً آشوريين ينتشرون في أحياء المدينة المختلفة والمختلطة بكلّ سكان المدينة. وأهم أحياء القامشلي: حي طي، الوسطى، قدور بيك، البشيرية، والغربية، إضافة إلى أحياء أخرى، خصوصاً أن المدينة توسعت في العقود الأخيرة وباتت قرى عدة محيطة بها جزءاً منها.