يكرر بعض قادة الساحة السياسية الفلسطينية الجمل المتطابقة ذاتها عن أن "القرار الوطني" عائد لشعبهم وحده، وذلك رداً على الأطروحات الأميركية وغيرها عن "تجديد" السلطة الفلسطينية، أو "اليوم التالي" في غزة.
مع ذلك، فإن تواصل الأداء السياسي ـ الدبلوماسي (وحتى الإعلامي) المرتبك يعيد إنتاج تجربة نتائج اجتياح الضفة الغربية في عام 2002، والتي حولت المسألة من قضية احتلال إلى "صلاحيات" وتغيير وجوه، أثناء فترة محاصرة الرئيس الراحل ياسر عرفات في رام الله.
والجعجعة الأميركية أخيراً تذهب إلى السيناريو ذاته، أي إجراء "إصلاحات في السلطة الفلسطينية" ووجوه بديلة وحصر صلاحيات، والعين على مزيد من ترويض الساحة الفلسطينية. يعرف المعنيون بالأمر، بمن فيهم من عايشوا تلك المرحلة قبل 22 عاماً، كيف اندفع الأميركي لفرض ديناميكيات تخفيف الأثمان على الاحتلال.
ويعرفون أن المطروح، وبعبارات جذابة عن "إمكانية" اعتراف أميركي بدولة فلسطينية، وغيرها من "استخلاص العبر"، يهدف لإعادة ستر الاحتلال الذي عراه صمود شعبهم وتضحياته. لذا يطرح صيغاً شبيهة بما طُرح في 2002، بحجة "اليوم التالي"، وللأسف بانخراط البعض العربي فيها.
ورفض ذلك إعلامياً غير كاف، مقارنة بالتحديات والحاجات الفلسطينية. إن 120 يوماً من المأساة، ووضوح أهداف الصهيونية ـ الدينية، كافية لنزول الفلسطينيين عن أشجار الفئوية، وترجمة التضحيات والصمود بسياسة موحدة، تحمل هدفاً واضحاً: كنس الاحتلال وحق تقرير المصير.
لا أحد يريد سياسياً فلسطينياً بوقاحة الفاشي الصهيوني إيتمار بن غفير، إنما على الأقل مصارحة سياسة غير مرتبكة، مستمدة قوتها من عدالة قضية شعبها وتضحياته، لقطع الطريق على كل محاولات حصرها في "التطبيع"، أو تجميل العيش تحت الاحتلال.
الساحة الفلسطينية ليست ذات جدار منخفض لتمرر فوقه مشاريع تصفية قضية شعبها. وبات لزاماً اقتران الخطابات بالتطبيق، وبالمبادرة السريعة نحو تشكيل قيادة وطنية موحدة، استناداً إلى حقيقة أن الشعب الفلسطيني هو الرقم الصعب، وليس هذا أو ذاك.
فصموده، في غزة والضفة والقدس والـ48، ووجود حراك دولي أعاد فلسطين إلى الواجهة، وتعرية الاحتلال أمام القانون الدولي، يجب ترجمته بسياسات غير تلك التي سادت الانقسام قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
ببساطة شديدة، كل هذه الجعجعة الأميركية ـ الإقليمية، الباحثة عن "بدائل" متساوقة معها، تتطلب من حركة التحرر الفلسطيني عملاً يعكس مهمتها في تمثيل شعبها، وبأنه يستحق بجدارة الاستقلال وحق تقرير المصير الحقيقيين. الفلسطينيون وحدهم قادرون على قطع الطريق على حالة التسويف، ومنع تحويل حقوقهم الوطنية تحت مظلة دولة الأبارتهايد الصهيونية وعربدة الإرهاب الاستيطاني إلى كانتونات، وإن سميت "دولة فلسطين العظمى".
سيكون مؤلماً أمام كل هذه التضحيات العودة إلى مراهنات على "وعود" متاهة اتفاقية أوسلو (سبتمبر/ أيلول 1993)، التي كان يفترض أن تؤدي عام 1999 إلى دولة فلسطينية، أو على الشعارات الجوفاء للأميركيين والبريطانيين، وقد كُررت لأكثر من ثلاثة عقود عن "ضرورة حل الدولتين".
تلك الشعارات خلقت تسامحاً مع توسع ونشوء المليشيا الفاشية الاستيطانية، ومع مساهمة شركات غربية في مشاريع استيطانية، رغم خطاب أن "الاستيطان غير شرعي"، مصرين على القفز عن قضية فلسطين نحو حصر السلام في تأمين الاحتلال.
وبينما أُغلق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، رغم توقيعها "أوسلو"، إلا أن واشنطن لم تمس الجماعات الإرهابية الاستيطانية في الضفة المحتلة، حتى حين قتلت مواطنين أميركيين، بعلم ممثلي ومستشاري الإدارات الأميركية المختلفة.
أمام الحركة الفلسطينية مهمة ملحة لترجمة قضيتها ببرامج وسياسات وحدوية، وليس فقط لوقف المعاناة ورفع الظلم عن الغزيين، بل لقولها صريحة لواشنطن والإقليم إنه لا قفز عن حقوق شعب فلسطين بعد اليوم. ودونها لا شيء سيفضي إلى "السلام" ولا إلى "حل الدولتين". وأما الجعجعة بلا طحين فلن تُخرج المنطقة من الدوران في حلقة مفرغة.