أثارت تقارير صحافية عراقية محلية بشأن دفن السلطات الصحية في البلاد نحو 500 جثة مجهولة الهوية خلال العام المنصرم، في ظروف غامضة دون الكشف عن مكان العثور على تلك الجثث، أو ملابسات وهوية الضحايا، جدلاً حاداً في البلاد.
يأتي ذلك رغم تعهدات سابقة من المسؤولين العراقيين لذوي آلاف المختطفين باعتماد برنامج أفضل في التعرف إلى هوية الضحايا وإجراء فحص الـ"دي أن أي"، كما أن ضحايا العمليات الإرهابية يتم الإعلان عن أسمائهم وملابسات قتلهم، ما يوجه أصابع الاتهام مجددا نحو تورط جماعات مسلحة أخرى بمسلسل العنف المستمر في البلاد.
ولا يعتبر الكشف عن هذا العدد الكبير من الجثث مجهولة الهوية هو الأول من نوعه في العراق، إذ سبق الإعلان في عام 2019 عن دفن قرابة 400 جثة مجهولة الهوية، أغلبها تطوعت جمعية خيرية محلية تعرف باسم مؤسسة الزهراء بعملية دفنها على شكل دفعات، وسبب الإعلان عن الجثث جدلا واسعا في البلاد، ما دعا الرئيس العراقي برهم صالح إلى عقد لقاء مع وزير الداخلية آنذاك ياسين الياسري، ومحافظ بابل كرار العبادي، حيث وجدت أغلب الجثث المجهولة في مناطق من شمالي المحافظة، وطالب خلالها بـ"التحقيق بملابسات العثور على الجثث وإعلان الحقائق وضرورة حماية أرواح المواطنين"، إلا أن أي إعلان عن التحقيق لم يصدر لغاية اليوم.
ووفقاً لتحقيق عرضته محطة تلفزيون محلية عراقية، فإن دائرة الطب العدلي قامت، خلال العام المنصرم، بدفن 491 جثة مجهولة الهوية، على شكل 9 دفعات متفرقة زمنيا وفي عدة مقابر، أبرزها مقبرة محمد سكران في بغداد، ومقبرة كربلاء القديمة، ومقبرة وادي السلام في مدينة النجف، خلال العام 2020، وكانت الدفعة الأخيرة 50 جثة أودعت في مدينة النجف بقرار قضائي. وتوضح المعلومات أن الضحايا عثر عليهم في مناطق نائية وبساتين وأماكن متفرقة، وقد تمت تصفيتهم بطرق مختلفة.
صعوبات كثيرة
وحتى الآن لم يصدر عن السلطات العراقية أي تعليق إزاء ذلك، رغم الجدل الواسع الذي أثاره في العراق، لكن طبيبا في دائرة الطب العدلي ببغداد قال، لـ"العربي الجديد"، إن "جميع الجثث المجهولة التي تم دفنها هي من تلك التي مضى على وجودها في الثلاجات عدة أشهر دون تقدم أحد من ذوي الضحايا لاستلامها. ووفقا للقانون رقم 89 المعمول به لدى السلطات الصحية، يتم تكليف دوائر البلدية وبالتنسيق مع وزارة الداخلية بدفن الجثث بعد 3 أشهر مع أخذ مواصفات وتفاصيل كاملة عن الضحية لكي تحفظ لدى وزارة الداخلية".
وحول العدد المعلن، أكد الطبيب ذاته الذي طلب عدم ذكر اسمه، أنه يتعلق بعدة محافظات، "وهناك محافظات تتولى الإجراءات نفسها لوجود قرار مسبق بدفن الضحايا مجهولي الهوية في مقابر محددة فقط لأسباب تنظيمية، لكن هناك محافظات شمال وغرب البلاد تتولى التحقق والدفن، مثل نينوى والأنبار".
وكشف المصدر ذاته عن وجود جثث أخرى ما زالت مودعة بالطب العدلي منذ أشهر وينتظر قرار للتعامل معها ونقلها إلى مقابر محددة لدفنها.
وحول سبب عدم تقدم ذوي المخطوفين للتعرف إليهم، قال إن هناك "صعوبات كثيرة، من بينها عدم معرفة ذوي الضحايا بوصول جثث جديدة أو تغير ملامح الجثة وتفسخها، والحكومة مقصرة في تشكيل لجنة خاصة للتواصل مع ذوي المختطفين وضمان معرفتهم بأي جديد حول مصير أبنائهم المختطفين".
هناك "صعوبات كثيرة، من بينها عدم معرفة ذوي الضحايا بوصول جثث جديدة أو تغير ملامح الجثة وتفسخها"
ولفت إلى أن "دائرة الطب العدلي لا تتخذ أي قرارات من خلال مدراء الأقسام فيها، بل إنها جهة منفذة وتخضع لسلسلة من القرارات القانونية، حيث إن قرار الدفن يأتي من خلال مراكز الشرطة والأجهزة القضائية، أما بالنسبة للعاملين في الطب العدلي، فوظيفتهم تهيئة الأماكن المناسبة للدفن، وإجراء عملية الدفن وفق الإجراءات المعمول بها وليس أكثر من ذلك".
وما زال مصير نحو 25 ألف عراقي تم اختطافهم في مناطق عدة من البلاد مجهولا لغاية الآن، وظهر قسم منهم في قبضة فصائل مسلحة وقوات تابعة لـ"الحشد الشعبي" عبر مقاطع مصورة، بعد عزلهم عن عوائلهم خلال نزوحهم من مناطق المعارك والاشتباكات بعد عام 2014 بمناطق في الأنبار وبابل وصلاح الدين وديالى وكركوك ونينوى.
تعتيم على ملف دفن الجثث
عضو البرلمان العراقي رعد الدهلكي قال إن هناك "تعتيما على ملف دفن الجثث المجهولة في العراق"، وأضاف في حديث لـ"العربي الجديد"، أن جهات سياسية وحزبية تعتم على دفن الجثث مجهولة الهوية، لتورط بعض الجهات العراقية بتصفية معارضين وناشطين وعراقيين عاديين وأبرياء خلال فترات متفرقة من السنوات الماضية".
وبين الدهلكي أن "من واجب السلطات العراقية عدم طمر الجثث مجهولة الهوية إلا بعد أخذ عينات لإجراء فحوص الحمض النووي DNA، وحفظ معلومات الجثث كل على حدة من أجل التعرف إليها في ما بعد، وتوصل ذوي المفقودين إلى الجثث".
لكن بالمقابل، يؤكد عضو المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق فاضل الغراوي أن "أغلب الرفات والجثث مجهولة الهوية تتعرض لإجراء فحوص الحمض النووي DNA، ويتم عرض النتائج في أكثر من دائرة عراقية مختصة لفسح المجال أمام العراقيين للتعرف إلى الجثث، ولكن حين لا تتوفر أي مراجعة على الجثث، يتم تجميعها ودفنها في أماكن مخصصة".
ويضيف في اتصالٍ مع "العربي الجديد"، أن "ملف الجثث مجهولة الهوية في العراق ليس فيه أي تعتيم، ولكن هناك جثثا لا تظهر لها أي جماعة تطالب بها لتتكفل بدفنها، وهو ما يدفع السلطات في البلاد إلى تبني عملية الدفن".
بدروه، رأى مدير "المرصد العراقي لحقوق الإنسان" مصطفى سعدون أن "السلطات الصحية والأمنية في العراق ترمي مسؤولية ملف الجثث مجهولة الهوية بعضها على بعض، وتحاول قدر الإمكان أن تتكتم على هذا الملف، وتحديداً بأعداد وأرقام الجثث، كي لا تعترف بعدم استتباب الوضع الأمني"
وبين سعدون لـ"العربي الجديد"، أن "ملف الجثث مجهولة الهوية لا يرتبط فقط بالجرائم الجنائية، بل يمكن أن يشمل الإرهاب والتصفيات والاغتيالات السياسية.. ولا توجد إحصائية واضحة لهذه الجثث، ولكن سجلات الحوادث في مراكز الشرطة تشير إلى أن عددها كبير جداً".