محمود المشهداني: هناك ضعف واضح في الوازع الديني لدى بعض هذه الطرق
الحياني: التقارب بين الحركات الصوفية والفصائل المسلحة للحماية
العيساوي: الفكر الصوفي، الذي يدعو للسلام والرحمة عراقي النشأة
على نحو واسع وغير مألوف منذ سنوات طويلة أعقبت الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، تتسع في مدن شمال وغربي العراق، والتي باتت تعرف اليوم بالمحافظات المحررة من تنظيم "داعش"، ظاهرة التيارات الصوفية، وتنامي دور مشايخ طرقها، الذين عاد قسم منهم وبقوة إلى المشهد العام في تلك المدن، بعد تراجع كبير لهم في العقد ونصف العقد الأخير من الزمن.
ويقول سياسيون ومسؤولون حكوميون في تلك المناطق إنّ هذه العودة مدعومة، وضمن خطة أو نهج متفق عليه مسبقاً مع السلطات في بغداد، وهو ما أكده عدد من مشايخ تلك الطرق في أحاديث متفرقة أدلوا بها لـ"العربي الجديد"، وقدّم بعضهم أنفسهم على أنهم "حركة فكرية مقاومة للجماعات الأخرى"، في إشارة إلى التيار السلفي تحديداً.
يشترك في دعم التيارات الصوفية جهات حكومية وأحزاب سياسية نافذة
والطرق الصوفية ليست بالظاهرة الحديثة في العراق، وتكاد تكون ملازمة لبلاد الرافدين منذ بداية نشأتها. كما أنها شهدت دعماً حكومياً من قبل نظام الرئيس الراحل صدام حسين، ومن خلال نائبه الأول عزة الدوري تحديداً، لغايات لا تخلو من طابعها السياسي والأمني آنذاك. لكن التحولات الكبيرة التي فرضها واقع الاحتلال الأميركي، قبل 18 سنة، لهذه البلاد، في مجالات عدة داخل المجتمع العراقي، لعل من أهمها بروز التيارات السلفية الجهادية التي تميزت إجمالاً بفكرة الإقصاء العنيف، عبر تكفير مخالفيها، سواء من المتصوفة أو جماعة "الإخوان المسلمين"، والتيارات الأخرى مثل القوميين العرب والشيوعيين والمدنيين، أسهمت في تراجع كبير بدورها، الذي يكاد يكون مختفياً في مناطق عديدة منها.
وتنتشر الطرق الصوفية في عموم مدن العراق، إلا أنها تتركز في العاصمة بغداد ومحافظات الأنبار وصلاح الدين ونينوى وكركوك على وجه التحديد، فضلاً عن السليمانية في إقليم كردستان العراق، حيث تتوزع الطرق القادرية والرفاعية والكسنزانية والنقشبندية والشاذلية والنبهانية، وتتفرع عنها مزيد من المسميات والطرق والمدارس.
وفي هذا السياق، تحدث ثلاثة مسؤولين عراقيين في بغداد والأنبار وكركوك، جرى التواصل معهم من قبل "العربي الجديد"، عن وجود اتفاق سياسي وحكومي على دعم وتمكين القوى والتيارات الصوفية في مناطق شمال وغربي العراق. ويقر أحدهم، وهو مسؤول بارز في جهاز الأمن الوطني بمحافظة الأنبار غربي العراق، والذي يرأسه الفريق عبد الغني الأسدي، بأن الدعم الموجّه لهم يأتي ضمن "استراتيجية اعتمدت منذ ما قبل حكومة مصطفى الكاظمي، وما زالت نافذة".
وتشترك في هذا الدعم جهات حكومية، أبرزها مستشارية الأمن الوطني، مع أحزاب سياسية نافذة، وتحديداً "بدر"، بزعامة هادي العامري، وكذلك حزب "الدعوة الإسلامية"، وفصائل في "الحشد الشعبي" تنتشر في تلك المدن، أبرزها "كتائب حزب الله"، و"النجباء" و"عصائب أهل الحق"، وذلك ضمن رؤية تتلخص في إيجاد مواجهة فكرية مضادة للتيارات السلفية في تلك المناطق، وهو ما قد يفسر جانباً من ظاهرة تشييد التكايا منذ العام 2018 ولغاية الآن في تلك المناطق، والتي تحوّل قسم منها إلى مراكز لتوزيع المساعدات والأعمال الخيرية وواجهات دينية وثقافية واجتماعية بارزة.
أحد المصادر الثلاثة، وهو نائب في البرلمان عن مدينة الفلوجة غربي بغداد، يرد على تنامي بعض الطرق الصوفية في المدينة، مثل جماعة "الرباط المحمدي"، قائلاً إنه "لا يمكن القول إنهم غير مدعومين. أفراد حماية وسيارات رباعية الدفع، وسلطة اجتماعية وجاه، والناس صاروا يتوسطون لديهم لحل مشاكلهم عند الحشد الشعبي والأجهزة الأمنية". ويضيف أنه "يتم دعوة هذه الشخصيات إلى كل الفعاليات الحكومية والأحزاب والفصائل المسلحة، وقد منحت لهم مكانة، ولهم مكاتب تقصدهم الناس فيها". ويبيّن أن "هناك توجيهاً لديوان الوقف السنّي أيضاً في تلك المناطق لاستبعاد خطباء الجوامع المحسوبين على الخط السلفي، وتعويضهم بآخرين مقربين من التيارات الصوفية، ضمن ما بات يعرف بتجديد الخطاب الديني ومحاربة الفكر المتطرف. وقد دعم قادة من "الحشد الشعبي"، وتحديداً من الذين يوالون إيران، بشكل علني هذا التوجه".
عبد القادر الآلوسي: بات لدى رموز الصوفية في العراق وعي للدخول في معترك الحياة السياسية
الشيخ عبد القادر الآلوسي، وهو أمين رابطة "مجلس الرباط المحمدي"، أبرز الواجهات الدينية الصوفية الجديدة التي تنشط في مدن عدة شمال وغربي العراق، يؤكد ضمناً، في حديث مع "العربي الجديد"، وجود دعم حكومي وسياسي للتصوف في تلك المناطق. ويوضح الآلوسي أن "العملية السياسية في العراق تأسست بعد الاحتلال الأميركي بطريقة خاطئة جداً، من خلال استقطاب الثقافات غير الأصيلة وغير العراقية، وبنائها داخل المجتمع، منها السلفية أو الوهابية، وهي ثقافات قد نشأت خارج العراق. وهذا السبب أدى إلى نتيجة أدركتها الحكومات العراقية بعد احتلال تنظيم داعش للبلاد، وهو ما دفع التكوين السياسي في بغداد، وتحديداً الحكومة، إلى إدراك أن سياستها الخاطئة أنتجت القاعدة وداعش، وذهبت إلى دعم الند الحقيقي للتطرف، وإعادة العراقيين إلى ثقافتهم الأصيلة، وهي الصوفية"، بحسب قوله.
ويضيف الآلوسي، الذي تم التواصل معه هاتفياً، أن "الذين وقفوا مع القوات العراقية لتحرير المدن التي سقطت بيد تنظيم داعش كانوا من الصوفيين، وتحديداً في الخالدية والعامرية وحديثة التابعة لمحافظة الأنبار. وبعد تحرير هذه المدن، اتجهت الحكومة للبحث عن المدافعين عن مدنهم، لدعمهم، ليس مادياً، لأن الدعم المادي ضعيف جداً، وهم بحاجة إلى الدعم المعنوي، كونهم كانوا يُحاربون في مناطقهم حتى قبل الجهات الحكومية". ويلفت إلى أن "هناك شخصيات سياسية وجهات تعمل على مخاصمة الصوفيين في العراق إلى الآن".
ويشير الآلوسي إلى أن "رموز الصوفية في العراق، ممن كانوا ينأون بأنفسهم خلال السنوات الماضية من المشاركة بالعمل السياسي، بات لديهم حالياً وعي يكفي للدخول في معترك الحياة السياسية، لإصلاح الهدم الذي حصل في البلاد، من أجل التغيير والمشاركة الفاعلة في المحافظة على بث السلام. ونحن ندعم توجه الصوفيين للدخول في العمل السياسي، لكن في الحقيقة ليست لدينا خبرة سياسية. كما أن الجو السياسي في العراق غير نظيف. ونحن لم ندخل في الانتخابات السابقة، لكن حالياً نشعر بأهمية مشاركة أشخاص صوفيين (فيها). كما أن الرؤية الحالية للصوفيين لا تتفق مع تكوين أحزاب وتكتلات، إنما الدعم والتصويت لأشخاص يمثلون جماهيرهم، وأن تحل القضايا التي تخص الصوفيين وعموم العراقيين". ويضيف: "سنشارك في الانتخابات المقبلة بقوة لانتخاب شخصيات نعرف نواياها. ولا أعتقد أنه سيتم إنشاء أحزاب سياسية صوفية خلال المرحلة الحالية". وعن علاقة "مجلس الرباط المحمدي" الصوفي بـ"الحشد الشعبي"، يبيَّن الآلوسي أن "هناك علاقة وثيقة وقوية ومتينة مع الحشد. نحن نتبنى حالياً مشروع المقاومة الفكرية لمعالجة الأفكار المتطرفة، لمنعها من العودة إلى مناطقنا الأصلية".
من جانبه، يعتبر أحد مشايخ التيار الصوفي في الأنبار، وهو الشيخ محمد نوري العيساوي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "العمق العراقي هو صوفي بالأصل. ومن المعروف أن الفكر الصوفي، الذي يدعو للسلام والرحمة بجميع مدارسه، هو عراقي النشأة، مثل القادرية التي ترجع إلى الشيخ عبدالقادر الجيلاني، والتي تنتشر في دول العالم، إضافة إلى الرفاعية، وأخرى تعود إلى معروف الكرخي والإمامين الرضا وموسى الكاظم. وبالتالي فإن الطرق الصوفية مرتبطة بالحضارة العراقية، ولكنها عانت كثيراً منذ 2003 إلى 2014 وتحرير المدن العراقية من قبضة تنظيم داعش. كما أن الحكومات المتعاقبة على حكم البلاد لم تقم في هذه الفترة بإعطاء المجال للمدارس الصوفية أو تمكينها". ويوضح أن "الحكومات العراقية بعد العام 2014، تتجه نحو تمكين الصوفية في العراق، لأنها ترفض العنف والإرهاب، ولا تنسجم مع السلفية والوهابية والتنظيمات الإرهابية مثل القاعدة وداعش".
العيساوي: الحكومات بعد 2014 تتجه نحو تمكين الصوفية في العراق
ويلفت العيساوي إلى أنه "بعد تحرير المدن العراقية من قبضة الإرهاب الداعشي، استنشقت الحركات الصوفية نوعاً من الحرية، وازدادت الفرص في ممارسة الشعائر التي تخدم الإنسان". وعن تقارب الطرق الصوفية مع الفصائل المسلحة، يشير إلى أن "الطرق الصوفية تدعو إلى الانسجام بين كل شرائح المجتمع، وبالتالي فهي تلتقي بالجميع طالما أنهم عراقيون. ونحن نعمل على خلق جسور تربط الفلوجة بالنجف، والرمادي والموصل بكربلاء وهكذا". ويؤكد أن "من الممكن أن تُشارك شخصيات صوفية في العمل السياسي، حيث لا بد من أن يكون للأخيار دور في إدارة شؤون العراقيين، وإحداث نهضة عراقية خالصة، لا سيما أن للطرق الصوفية في البلاد جماهيرية وشعبية كبيرة، وليس صعباً أن يتم استثمار هذه الجماهيرية في بناء العراق وتأسيس علاقات جيدة مع جميع دول الجوار بلا استثناء".
إلا أن الرئيس الأسبق للبرلمان العراقي محمود المشهداني، يعتبر أن "غالبية الطرق الصوفية في العراق عبارة عن هياكل، حيث إن ظاهرها الديني يختلف عن باطنها، الذي يبحث عن المنافع والمصالح الدنيوية، إلى أن وصل الحال بهذه الطرق للتقارب مع أي جهة، حتى وإن كانت فصائل مسلحة، مقابل خدمات أو حمايات أو عقود تجارية معينة". ويلفت، في اتصال مع "العربي الجديد"، إلى أن "هناك ضعفاً واضحاً في الوازع الديني لدى بعض هذه الطرق، وهو ما جعلها تستثمر وجودها في مدن غرب وشمال البلاد، في أعمال تجارية مع الحشد الشعبي الذي يمتلك هيئات اقتصادية في جميع المدن المحررة، ويسعى إلى توسيع تجارته مع شركاء محليين من ذات المدن".
من جهته، يبيّن الباحث في الشأن العراقي غالب الشابندر، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "الحركة الصوفية معروفة بأنها متفاعلة دائماً من الناحية العقائدية مع المذهب الجعفري، ولكنها في الفترة الأخيرة، باتت تتقرب من الحشد الشعبي، الذي بات يخسر شعبيته في حاضنته الشيعية الأصلية، وبات يبحث عن منافذ في المناطق السنّية. وهي استراتيجية تتبعها إيران من أجل تسجيل مزيد من المصالح في العراق. كما أن للحركات الصوفية مصالح ومدارس أيضاً". وبرأيه فإن "الحشد الشعبي يبحث حالياً عن أعوان وسند داخل المجتمع السني، ووجد أن الطرق الصوفية هي الأقرب والأسهل بالنسبة له، لا سيما أن الأخيرة تبحث عن منافع سياسية".
أما الصحافي من الأنبار علي الحياني فيشير، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن "التقارب بين الحركات الصوفية والفصائل المسلحة التي تسيطر على المدن المحررة بات واضحاً، ربما لأنها تعرضت للاضطهاد في المحافظات السنية، وأن التكايا الخاصة بها تعرضت للتفجير وكذلك القبور، وقد منعت من ممارسة طقوسها خلال سنوات سيطرة التنظيمات المتطرفة على تلك المحافظات. وأن هذا التقارب هو نوع من أنواع النفوذ والحماية لتلك الحركات من المتطرفين". ويؤكد "تقارب بعض قادة الطرق الصوفية من إيران، لا سيما أتباع الطريقة الكسنزانية، الذين يملكون وجوداً أصلاً في إيران، وقد رأيناهم خلال الفترة الماضية، كيف عبروا الحدود العراقية الإيرانية لحضور المناسبات الخاصة التي تقام في مدينة السليمانية".