تسود الضبابية المشهد السياسي الإسرائيلي، لا سيما بعد نتائج التصويت في الكنيست الإسرائيلي يوم أمس الأول الأربعاء، لاختيار ممثليه الإثنين في لجنة تعيين القضاة. فقد نجحت ممثلة المعارضة كارين الهرار بالحصول على عدد كافٍ من الأصوات لتصبح عضواً في اللجنة، مقابل فشل طالي غوتليب (عن حزب الليكود) التي رشحت نفسها على الرغم من معارضة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ما يستوجب انتخاب ممثل آخر عن الكنيست في اللجنة خلال ثلاثين يوماً. لكن هذا لا يعني نجاح المعارضة في مهمتها بالقضاء على مخطط إضعاف القضاء.
وينتخب الكنيست ممثلين اثنين عنه لتمثيله في اللجنة المكوّنة من تسعة أعضاء، التي يوجد في تركيبتها الحالية ثلاثة قضاة من المحكمة العليا، وممثلان عن نقابة المحامين، وممثلان عن الكنيست جرت العادة في العرف السياسي الإسرائيلي اختيار أحدهما من الائتلاف والآخر من المعارضة، لكن لا شيء يلزم بذلك، بالإضافة إلى وزيرين أحدهما وزير القضاء.
وثمة أمور مبهمة، وقد تبقى كذلك لفترة، منها ما يتعلق بالموقف الحقيقي لنتنياهو مما حصل في انتخابات عضوي اللجنة، وإن كان قد خطط ونجح في مهمته بشأن اللجنة أم خطط وفشل، إن كان "مخادعاً قوياً" أم بات "مخادعاً ضعيفاً" كما وصفه زعيم المعارضة يئير لبيد في خطاب ألقاه بعد صدور النتائج.
توقف المفاوضات حول التعديلات القضائية
حقيقة أخرى تعزز ضبابية المشهد الإسرائيلي، هي أن المفاوضات الجارية لدى الرئيس الإسرائيلي يستحاق هرتسوغ حول التعديلات القضائية قد توقفت، بقرار من زعيم المعارضة رئيس حزب "يش عتيد" يئير لبيد ورئيس "المعسكر الرسمي" بني غانتس. واعتبر الرجلان أن نتنياهو لعب لعبة لكنها لم تنجح، ولم يستطع الوفاء بتعهداته، بل سعى عمداً لعدم انتخاب ممثل عن الائتلاف الحاكم في لجنة القضاة من أجل كسب الوقت، إذ يتعين في حال انتخاب مندوب واحد عن الكنيست، انتخاب المندوب الآخر في غضون شهر.
ويعني هذا عملياً تعطيل انعقاد لجنة اختيار القضاة، التي تسعى المعارضة للحفاظ على تركيبتها الحالية، فيما يسعى وزير القضاء ياريف ليفين ومؤيدو نهجه في الائتلاف إلى تغيير تركيبتها، لتكون للحكومة اليد العليا فيها. وكان ليفين يرغب باختيار ممثلي الكنيست الاثنين في اللجنة من الائتلاف الحاكم بدون المعارضة.
ليفين هو صاحب القرار بشأن انعقاد لجنة تعيين القضاة من عدمه
ويبقى ليفين، المتعنّت بشأن التعديلات التي يقودها من أجل إضعاف جهاز القضاء، غير مكترث بالتظاهرات الاحتجاجية الواسعة المناهضة لها، وهو صاحب القرار بشأن انعقاد لجنة تعيين القضاة من عدمه، أي أن نجاح ممثلة المعارضة لا يعني شيئاً في حال عدم انعقاد اللجنة.
وتُعتبر لجنة تعيين القضاة إحدى أعقد المشاكل ومحور الخلافات الأساسي بين الائتلاف الساعي للسيطرة على اللجنة، والمعارضة التي ترى فيها تهديداً وتقويضاً للقضاء ولمبدأ الفصل بين السلطات وللديمقراطية. وبوجود صلاحية انعقاد اللجنة بيد وزير القضاء، لا يمكن التكهن بما ستشهده الفترة المقبلة.
في غضون ذلك، قد تختلف التفسيرات بشأن موقف نتنياهو الحقيقي من التطورات الحاصلة: هل خضع للمتظاهرين الرافضين للتعديلات القضائية وقاد هذه الخطوة، ليجد مبرراً أمام ليفين بأن خطة تغيير تركيبة اللجنة لم تنجح على الرغم من محاولة إسقاط المرشحتين من الائتلاف والمعارضة وكسب الوقت؟ أم أنه لعب هذه اللعبة إلى جانب ليفين لكن خطتهما فشلت في ظل نجاح مرشحة المعارضة؟
ويتيح الوقت الذي يمتد حتى شهر مزيداً من المباحثات على مختلف المستويات، خصوصاً الداخلية في "الليكود" وحتى بين أعضاء الائتلاف الحاكم، ولكنه يرمي بالأساس لانتظار ما ستُسفر عنه انتخابات نقابة المحامين في 20 يونيو/ حزيران الحالي. فإذا نجح المقربون من الحكومة داخل النقابة، فسيمنح ذلك الحكومة أفضلية في لجنة تعيين القضاة وبالتالي ستغض الطرف عن وجود ممثلة المعارضة في اللجنة لأن تأثيرها سينخفض في هذه الحالة.
هذا الأمر سيمنح مخرجاً للحكومة وخطتها أمام المتظاهرين، بحيث تسوّق أنها لم تغيّر تركيبة اللجنة، ومن جهة أخرى تكون قد حققت مكسباً بامتلاك أغلبية لاختيار من تريد من قضاة المحاكم خصوصاً المحكمة العليا، بدعم من ممثلي نقابة المحامين. أما في حال عدم نجاح المرشحين المقربين من الحكومة، فإن الائتلاف سيمتلك فرصة أخرى للنظر في اختيار ممثلي الكنيست في لجنة تعيين القضاة من داخل الائتلاف بدون المعارضة.
كارين الهرار لم تكن لتنجح بدون حصولها على أربعة أصوات على الأقل من داخل الائتلاف، يُرجح أنها من "الليكود"
لكن في المقابل، قد يكون نتنياهو فَقَد السيطرة تماماً داخل ائتلافه الحكومي، فإن لم يخطط فعلاً لنجاح ممثلة المعارضة، فهذا يعني أن ثمة تمرداً داخل "الليكود" والائتلاف، لأن كارين الهرار لم تكن لتنجح بدون حصولها على أربعة أصوات على الأقل من داخل الائتلاف، يُرجح أنها من "الليكود". هذا يعني عصيان دعوة نتنياهو المعلنة لجميع أعضاء الائتلاف بالتصويت ضد المرشحتين لكسب الوقت. يضاف إلى ذلك عدم تمكنه من إقناع طالي غوتليب بسحب ترشيحها للجنة القضاة، وهذا تمرد آخر من داخل "الليكود".
قد يعني هذا أيضاً وجود أعضاء في الائتلاف وخصوصاً في "الليكود" معارضين لخطة تقويض القضاء، وأن ما تسمّيه الحكومة بالإصلاحات وتعتبره المعارضة انقلاباً، قد انتهت بصيغتها الحالية.
ماذا يريد نتنياهو؟
لا أحد يعرف ما أراده نتنياهو إلا هو نفسه، في حال كان فعلاً يدرك ما يريد أو يواجه تخبطاً كبيراً في ظل الضغوط الممارسة عليه من داخل حزبه وأعضاء ائتلافه ومن المعارضة والمتظاهرين وحتى من قِبل البيت الأبيض.
نجاح ممثلة المعارضة داخل اللجنة جنّب نتنياهو تظاهرات احتجاجية كان متوقعاً أن تكون ضخمة. لكن في المقابل، فإن إرجاء إقامة اللجنة بعث الشكوك في نفوس المعارضة وقادها إلى تجميد المفاوضات الجارية مع ممثلي الائتلاف في بيت الرئيس الإسرائيلي بشأن التعديلات القضائية.
وإن تأكد فقدان نتنياهو السيطرة، فهذا يعزز محور ليفين، بدعم من رئيس حزب "الصهيونية الدينية" وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، وزعيم "عوتسماة يهوديت" (القوة اليهودية) وزير الأمن القومي ايتمار بن غفير، إذ يتمسك ثلاثتهم بالمضي في التعديلات القضائية.
وفي جميع الحالات يبدو أن نتنياهو بمعزل عن جميع نواياه التي لا يدركها أحد سواه، فَقَد السيطرة على الائتلاف وحزبه، فليست لديه أغلبية لإرضاء ليفين ولا طريقة للحفاظ على المفاوضات مع المعارضة، بل حمّل لبيد وغانتس مسؤولية توقف المفاوضات، على الأقل إلى حين انعقاد لجنة تعيين القضاة. في المقابل من المتوقع أن تستمر التظاهرات الضخمة في تل أبيب وحيفا ومناطق أخرى ضد التعديلات القضائية، طالما بقيت مطروحة على طاولة الحكومة.
قد تؤدي الخلافات داخل الائتلاف وضبابية المشهد، إلى تقصير عمر الحكومة
وقد تؤدي الخلافات داخل الائتلاف وضبابية المشهد، إلى تقصير عمر الحكومة. أما تماهي نتنياهو مع ائتلافه، خصوصاً مع مطالب بن غفير وسموتريتش، في قضايا الاستيطان والقضاء على حل الدولتين وتقويض الحريات وجمعيات حقوق الإنسان وغيرها، فضلاً عن خطة القضاء، فستؤجج الشارع الإسرائيلي. وفي ظل الانتقادات الأميركية لخطوات حكومته، سيبعد نتنياهو أكثر احتمالات لقائه الرئيس الأميركي جو بايدن، وهو الذي لا زال ينتظر دعوته إلى البيت الأبيض.
حتماً سيواجه نتنياهو انتقادات من الداخل، من "الليكود" وأحزاب الائتلاف الحاكم، كما أن تصويت "المتمردين" الأربعة من حزبه إلى جانب مرشحة المعارضة، يثير تساؤلات كبيرة حول مدى تماسك الائتلاف وعمر الحكومة.
وحتى لو وجد الائتلاف الحاكم طريقة للملمة نفسه والخروج مرحلياً من مستنقع الخلافات، فإن أصواتاً في داخله، على رأسها ليفين وبن غفير وسموتريتش، تنادي باتخاذ إجراءات أحادية الجانب لتنفيذ خطة تقويض القضاء بسنّ القوانين اللازمة لها، بدون اكتراث للمعارضة وموقفها. اتجاه إن قبله نتنياهو، سيتسبب بتفجير تظاهرات ضده في الشارع الإسرائيلي، وتضرر الشيكل أمام الدولار وتراجع الاقتصاد الإسرائيلي وأزمات أخرى. وفي حال رفضه أو على أقل تقدير في حال لم يجد الصيغة لتمرير ولو جزءا من التعديلات القضائية، فقد يجد حكومته تتفكك وتتحلل، ليجد نفسه أمام انتخابات جديدة، تنذر استطلاعات الرأي بعدم حصوله على أغلبية فيها.