مع كل انسداد تواجهه العملية السياسية في ليبيا، ينشط المنادون بالفدرالية مجددا حلا سياسيا للأزمة التي تعانيها البلاد، لكن انضمام عدد من أعضاء مجلس النواب لهذه النداءات مؤخرا أثار أسئلة حول توقيته والأسباب الكامنة وراءه.
وطالب 32 نائبا من شرقي البلاد رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، أمس السبت، بعرض دستور 1951 غير المعدل للتداول في جلسة خاصة لمجلس النواب، تذاع على الهواء مباشرة، من أجل النظر في العودة إلى النظام الاتحادي وفقا للأقاليم التاريخية الثلاثة لليبيا؛ طرابلس، وبرقة، وفزان.
وفيما طالب النواب الـ32 "شركاء الوطن في إقليمي طرابلس وفزان بدعم هذا الطلب"، أكدوا أن الطرح الفدرالي هو "الضامن الحقيقي لوحدة وأمن وسلامة ليبيا"، وأن مطالبتهم باعتماده تأتي بعد "تعثر الاستفتاء على مشروع الدستور الذي أعدته الهيئة التأسيسيّة لصياغة مشروع الدستور عام 2017، لما شابه من طعون قضائية ورفض من العديد من مكونات الأمة الليبية"، وفق نص الرسالة.
ويعتبر دستور 1951 أول دستور ليبي، صدر بعيد نيل ليبيا استقلالها بقرار من الأمم المتحدة يوم 24 ديسمبر/كانون الأول 1951، حيث أُعد من قبل لجنة خاصة، عرفت بلجنة "الستين" نسبة لتكونها من 60 عضوا (20 عضو عن كل إقليم من الأقاليم الثلاثة).
واستمر العمل بدستور الاستقلال حتى عام 1963، عندما قام الملك الليبي السابق والراحل، إدريس السنوسي، بتعديل الدستور وإلغاء النظام الاتحادي، ليتحول الاسم الرسمي للبلاد إلى المملكة الليبية على الرغم من المعارضة التي لاقاها تعديل الدستور من ممثلي إقليم برقة آنذاك. وفي عام 1969، تعطل العمل بالدستور عندما قام بعض الضباط بالانقلاب على سلطة الملك، وكان على رأسهم العقيد معمر القذافي، الذي أدار البلاد حتى أحداث الثورة الليبية مطلع 2011.
ولا يعتبر النداء باعتماد النظام الفدرالي في ليبيا حديث العهد في البلاد. فمنذ العام 2012، خرج عدد من الشخصيات القبلية والسياسية في شرق البلاد للمطالبة بهذا النظام، وقاموا بتأسيس كيان سياسي عرف باسم "المكتب السياسي لإقليم برقة"، وتأسس لاحقا حزب سياسي عرف باسم "التكتل الاتحادي الوطني"، ثم تمظهر هذا المطلب في عدة صور وأشكال، من بينها اتفاق عقده اللواء المتقاعد خليفة حفتر مع نائب رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق أحمد معيتيق، في أكتوبر/تشرين الأول 2020، كانت أبرز بنوده التقاسم العادل لموارد النفط بين معسكري غرب وشرق ليبيا، كحل لحالة الاحتراب العميقة بين الطرفين آنذاك.
لكن الجديد في تجديد المطالبة بها الآن أن "عددا من نواب المنطقة الشرقية كانوا هم المطالبون بطرحها حلاً لتعقد المشكلة السياسية ووصولها إلى أفق مسدود، ففي السابق، كان المنادون بها شخصيات من المكون القبلي، ما يعني أن هناك محاولة لجعل هذا الطرح أكثر رسمية"، وفق رأي الأكاديمي والمهتم بالشأن السياسي أحمد العاقل.
ويلفت العاقل، في حديثه لـ"العربي الجديد"، إلى توقيت تبني نواب في مجلس النواب هذا الطرح قبل أيام من وصول المبعوث الأممي الجديد، عبد الله باتيلي، إلى البلاد وتسلمه مهامه، مضيفا: "المطالع لقائمة الموقعين على الرسالة الموجهة لعقيلة صالح يدرك من أول وهلة أنهم النواب المناصرون لسياسات رئيس البرلمان، وهي مراوغة ومناورة من جانب عقيلة صالح لجس نبض الرأي العام لطرحها أمام النواب في جلسة علنية أو استبعادها. وكثيرا ما تستخدم هذه الطريقة بالونَ اختبار لعرض خيار سياسي ما على الرأي العام قبل تبنيه".
وفيما يؤكد العاقل أن إثارة الخيار الفدرالي، باعتباره حلا سياسيا، يقف وراءها عقيلة، يرجح أن تكون "ورقة جديدة من أوراق صالح للعب بها في المرحلة المقبلة، التي لا يعرف حتى الآن كيف سيتعامل معها المبعوث الجديد والأجندة التي ستحملها حقيبته".
وتابع: "هذا من جانب، ومن جانب آخر أكاد استشعر من بيان النواب المنادين بالفدرالية حديثهم عن الاستفتاء على مشروع الدستور المقر منذ عام 2017، فمن الممكن أن يكون هدف عقيلة من إثارة قضية الفدرالية حشد القوى في شرق البلاد، لعرقلة أي مسار تتبناه المرحلة المقبلة لفرض الاستفتاء على مسودة الدستور".
وتضمنت كل الدعوات للفدرالية الشكوى من المركزية، وتحكم الحكومات في طرابلس في إدارة المال والسلطة وتهميش الأطراف، لكن العاقل يتساءل قائلا في هذا الشأن: "الواقع يقول غير ذلك، فالحكومات في طرابلس لا تسيطر على كامل البلاد حتى يمكن اتهامها بالمركزية، فمثلا حكومة الوحدة الوطنية رفضت قوى عسكرية زيارتها إلى بنغازي، وتم تمكين حكومة أخرى تنافسها للحد من وصولها إلى باقي مدن البلاد، فالمشتكي من المركزية هو من ساعد على استمرارها وترسيخها".
ويقلل العاقل من قدرة صالح وحلفائه على فرض خيار الفدرالية حلا سياسيا، وقال: "يجب ألا ننسى أن هناك قوى سياسية أكثر ثقلا في مفاصل المجتمع سترفض هذا الخيار، الذي لن يعتمد إلا بالاستفتاء عليه".
وبغض النظر عن الأهداف التي يمكن أن تقف وراء تجديد المناداة بالفدرالية حلا سياسيا، ومن يقف وراء عرضها مجددا في هذا التوقيت، يرى أستاذ العلوم السياسية بالأكاديمية الليبية الدوكالي الهاين أن الفدرالية "تقارب الواقع".
ويفصل الهاين رأيه قائلا لـ"العربي الجديد": "ما أنتجته الحروب المتوالية في البلاد من تفتت النسيج الاجتماعي، وذهاب بعض الأطراف للتحكم في تدفق النفط، وأخرى للتحكم في موارده، علاوة عن عجز قادة الأطراف طيلة سنوات عن إنتاج حل سياسي توافقي، يجعل من خيار الفدرالية حلا مناسبا لفترة سياسية معينة".
وأكثر من ذلك، يذكّر الهاين بأن الفدرالية تخللت كل صيغ الحلول السياسية ووجهتها، موضحا أن "ملف المناصب السيادية تم توزيعه بطريقة المحاصصة المناطقية بين أقاليم البلاد الثلاثة، وكذلك تشكيل الحكومات وفق تلك المحاصصة، كحكومة الوفاق الوطني ثم الوحدة الوطنية، وأخيرا الحكومة المكلفة من مجلس النواب، بل لجنة صياغة الدستور تشكل أعضاؤها بالتساوي بين الأقاليم الثلاثة، على غرار لجنة الستين التي صاغت دستور الاستقلال وفق نظام الأقاليم".
وأضاف الهاين: "إذا كانت المخاوف من الفدرالية أن تكون طريقة للتقسيم، فهناك خيارات لخلق ضمانات للحفاظ على وحدة البلاد، مثل زيادة عدد الفدراليات في الأقاليم التاريخية الثلاثة، أو اعتماد نظام المحافظات كصورة مخففة للفدرالية، بغية الوصول إلى الهدف، وهو تفتيت المركزية في جهة أو مدينة بعينها".