وعلى الرغم من أن الدافع الأكبر للبغدادي في تسجيل رسالة صوتية إلى مسلمي العالم، هو على الأرجح شعوره بالذعر من التحالف الإسلامي الجديد الذي تقوده السعودية لمحاربة التنظيمات الإرهابية والحركات المسلحة، إلا أن البغدادي وجّه رسائل صريحة لأتباع القاعدة في اليمن والسعودية، حملت ردوداً ضمنية على قائدهم أبو هريرة الصنعاني، من دون أن يشعره البغدادي بالندية أو يهاجمه بالاسم.
ومن اللافت أن البغدادي لا يتوانى عن استخدام ألفاظ بذيئة في وصف مخالفيه السنّة والشيعة على حد سواء، من قبيل "الأذناب، العملاء، البهائم، المرتدين، ملحدي الأكراد، قطعان الروافض، التحالف السلولي"، وغيرها. لكنه يستخدم ألفاظاً أكثر تأدباً مع تنظيم "القاعدة في جزيرة العرب" وإن كان يسمح أحياناً لأتباعه بالخروج عن هذه القاعدة في التعامل مع زعيم تنظيم "القاعدة" المركزي أيمن الظواهري، الذي يحظى هو وأمير حركة طالبان أو الخليفة المنافس أختر محمد منصور، بأشنع الألفاظ وأقساها. ويعاب على الظواهري من قِبل "داعش" أنه بدأ يستخدم المصطلحات الإعلامية من قبيل الكفاح والجماهير، والثورات والحرية، وغير ذلك، ويتهمه التنظيم بالتأثر بأفكار جماعة "الإخوان المسلمين" وقد يصل به الأمر إلى تقليد الجماعة في القبول بالآخر أو القبول بوجود معارضة في "دولة الخلافة".
وربما أن التفريق في التعامل بين "القاعدة" المركزية وفرعها في جزيرة العرب، عائد إلى نوع من البراغماتية لدى تنظيم "داعش"، الذي يبدو أنه لم يعد يرجو خيراً من قاعدة الظواهري التي أصابها الضعف والهوان، في حين أن البغدادي لا يزال يعوّل كثيراً على استقطاب أنصار "القاعدة" في جنوب الجزيرة العربية ووسطها لأنهم يمثّلون بالنسبة له وقوداً جاهزاً للإطلاق ولا يحتاج لأكثر من إقناعهم بأن قياداتهم على خطأ في رفضها للخلافة وأن تنظيم "الدولة الإسلامية" سيوفر لهم الفرص التي ينشدونها.
ومن هنا يمكن الاستنتاج أن التراشق القائم بين تنظيم "داعش" و"القاعدة في جزيرة العرب"، ليس صراعاً استراتيجياً، بقدر ما هو انعكاس للتنافس على الموارد البشرية الجاهزة للتأثر بأفكار التطرف والإرهاب.
تبريرات أيديولوجية لصراع الزعامة
يلجأ التنظيمان إلى تبريرات فكرية لخلافات فرعية بينهما، ولكن ما يسعى إليه تنظيم "القاعدة" من خلال ما يتضح من انفعالات قادته، هو الحفاظ على كوادره المدربة واستثماراته من الموارد البشرية وعلى اسبقيته في زعامة الإرهاب. أما تنظيم "داعش" فهدفه على ما يبدو هو أن يرث هذه الموارد بصفته البديل الشرعي الجاهز لـ"القاعدة".
فبعد أن تحدّث البغدادي في كلمته الصوتية عما يتعرّض له تنظيمه من "هجمة عالمية لاستئصاله من الوجود"، وجّه ما يشبه نداء الاستغاثة أو دعوة استنجاد، خصوصاً إلى متطرفي السعودية، فخصّ من أسماهم "أبناء بلاد الحرمين" بدعوته لهم "للاستنفار وخوض الحرب شيباً وشباباً لنصرة إخوانهم في الشام والعراق واليمن"، وبقية البلدان. ولوحظ أن موقع اليمن جاء في الترتيب الثالث بعد سورية والعراق في أولويات البغدادي، قبل أفغانستان والقوقاز ومصر وليبيا والصومال والفليبين وإفريقيا وإندونيسيا وتركستان وبنغلادش، إلى آخر قائمة التمدد التي وصل إليها "داعش".
وكعادة البغدادي في توظيف آيات قرآنية وأحاديث شريفة منتقاة لخدمة هدفه السياسي، أورد البغدادي في كلمته الأخيرة حديثاً منسوباً للرسول بأنه قال: "والله ليَتمنّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون…". وعلى الرغم من أن الحديث الشريف جرى إقحامه في غير سياقه، إلا أن الإشارة إلى صنعاء وحضرموت، والخوف الرابط بينهما حالياً وحاجتهما الماسة للأمن، يمكن اعتبارها رسالة ذات مغزى وقد يكون لها تأثير إيجابي على خطة "داعش" التوسّعية بإقامة إمارات ودويلات متفرعة عن دولة الخلافة البغدادية.
وفي تأكيد غير مباشر من البغدادي على أن تنظيمه لا يزال على خلاف مع "القاعدة" في تحديد أولويات المواجهة بين العدو القريب (الأنظمة المحلية) والعدو البعيد (القوى الدولية العظمى)، زعم البغدادي أن التحالف الإسلامي لمحاربة الإرهاب يمثّل الخطر الأكبر على خلافته بالمقارنة مع التحالف الدولي ضده. وشنّ هجوماً على السعودية لقيادتها التحالف الإسلامي. لكن البغدادي حسب ما ورد في كلمته، التي تولت نشرها مؤسسة "الفرقان" للإنتاج، إحدى أذرع تنظيم "داعش" الإعلامية، يريد من التحالف الإسلامي بقيادة السعودية أن يتورط في حروب عرقية وطائفية ضد من وصفهم البغدادي بـ"الروافض المشركين والأكراد الملحدين في العراق... والنصيرية وأسيادهم الروس، الذين استباحوا أهل السنّة قتلاً وتشريداً، وعاثوا في ديارهم فساداً".
وعلى خطى زعيم "القاعدة" أسامة بن لادن، لجأ البغدادي إلى توظيف قضية فلسطين لخدمة هدفه السياسي عن طريق المزايدة بأنه لم ينسَ فلسطين. ووجّه تحذيراً لليهود بأن "دبيب المجاهدين"، و"طلائعهم" سوف يكون قريباً في فلسطين، التي قال إنه سيحوّلها إلى مقبرة لليهود.
ولم يأتِ تقليد البغدادي لبن لادن من فراغ، فهو يريد أن يوصل رسالة ضمنية لمن تبقّى من أتباع مؤسس "القاعدة" بأن خلافه ينحصر مع قادة "القاعدة" الحاليين وليس مع الرعيل الأول من مؤسسي الإرهاب ومنظّريه. وعلى نمط الربط غير المباشر في الإعلانات الغربية بين منتجات معينة ورموز أو شخصيات ذات صلة، استخدم البغدادي مصطلح بن لادن الشهير "فسطاط" في تقسيمه للبشر إلى "فسطاطين" في محاولة منه على ما يبدو إلى تخيير أتباع "القاعدة في جزيرة العرب" بين الالتحاق بتنظيم "داعش" أو الانتقال إلى "فسطاط" من أسماهم بالكفّار، إذ زعم أن معركة "داعش" هي حرب عالمية بين "كفّار" و"مسلمين".
ولا يختلف البغدادي مع "القاعدة" في قناعته بحتمية المواجهة مع الغرب، لكن الخلاف يتمحور حول توقيت المواجهة فقط، إذ يريده أتباع "القاعدة" الآن على هيئة حرب عصابات وعمليات تفجيرية، وفقاً لما أوضحه بالتفصيل قبل أيام القائد الجديد لـ"القاعدة" في اليمن والسعودية قاسم الريمي، في حين يرى البغدادي أن غزو المسلمين للعالم الغربي يجب أن يكون بعد النصر الذي يُمنّي تنظيم "داعش" نفسه به في الشام وليبيا وأفغانستان وسيناء وأفريقيا واليمن والصومال، وبعدها حسب قول البغدادي: "نغزوهم ولا يغزوننا، ويسود الإسلام العالم من جديد، وإلى قيام الساعة".
وفي إشارة غير صريحة من البغدادي إلى الحرب الإعلامية الدائرة بين تنظيمه و"القاعدة"، أشار في كلمته إلى أن "هناك من بات يحرض على "الدولة الإسلامية" ليل نهار ويدعو لقتالها، بل لأولوية قتالها، وهي تقارع وحدها جيوش الكفر قاطبة".
وفي ما يبدو رداً على انتقاد الصنعاني لتأسيس "الدولة الإسلامية"، دافع البغدادي عن هذا القرار، مشيراً إلى أن "الدولة الإسلامية منذ نشأتها قبل عشر سنين وإلى اليوم وهي رأس الحربة في الصراع بين فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر"، وأنها أصبحت "عمود فسطاط الإيمان ورأس حربة خندقه، دليل أوضح من الشمس في رابعة النهار، لم يعد يخفى حتى على العجائز والصبيان".
لكن مناشدة البغدادي لأتباعه بالصبر كانت رسالة واضحة بأن عناصر تنظيمه يكابدون المعاناة من حرب غير متكافئة ويتكبدون خسائر فادحة. وبسبب هذه المعاناة، فإن البغدادي يوجّه تهديداته العشوائية في كل الاتجاهات متوعداً أميركا وأوروبا وروسيا والشيعة و"المرتدين بأصنافهم وأجناسهم" (بمن فيهم على الأرجح عناصر وقادة القاعدة الذين يرفضون الانضمام لداعش).
مآخذ "داعش" على "القاعدة"
يطلق الأميركيون على تنظيم "داعش" اسم "آيسيس" اختصاراً لاسم "الدولة الإسلامية في العراق وسورية" أو "آيسل" إذا أرادوا الشام بدلاً عن سورية، كما يطلقون على تنظيم "قاعدة الجهاد في جزيرة العرب" اختصاراً اسم "آي كيو أي بي" أو "آيكاب". أما تنظيم "الدولة الإسلامية" فإنه يرفض تسمية "داعش" ويرفض الاختصارات الأميركية في ترجمة اسمه مثلما ترفض ذلك "القاعدة". ولا يزال التنظيمان حتى الآن يخاطبان بعضهما وفروعهما بالتسميات الرسمية التي تُظهر رغبة في الحفاظ على خط الرجعة بينهما.
لكن التنافس بين "القاعدة في جزيرة العرب" وتنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، لم يعد يتخذ شكل المماحكات الإعلامية العادية أو التنابز بالأناشيد وتحريفها، مثلما كان عليه الأمر في فترة من الفترات بين تنظيم "داعش" و"جبهة النصرة" في سورية. بل أصبح تنافساً حقيقياً على الاستئثار بالموارد البشرية واستقطاب الأنصار، بأسلوب يحمل جملة من المفارقات، لعل أهمها أن تنظيم "القاعدة" أصبح متهماً بالاعتدال من قبل تنظيم "داعش" والتخلّي عن قاعدة "الولاء والبراء" أي الفكرة الأيديولوجية التي صيغت بموجبها معظم الأدبيات الفكرية للإرهاب والتطرف لتأصيل الكراهية للآخر والتبرؤ من موالاته.
اقرأ أيضاً: "داعش" اليمن... استقطاب عناصر "القاعدة" بدل قياداته
وفي موازاة ذلك، يُتهم تنظيم "داعش" من قِبل "القاعدة" بقتل مشروع الخلافة بإعلانها، فضلاً عن التهور والإفراط في خلق الخصوم والالتحام مع العدو في أرض إسلامية. ويحرص "داعش" في معظم إصداراته الوثائقية على إظهار التوقير لأسامة بن لادن والإشادة بـ"تضحياته في إلحاق الرعب بأعدائه والتنكيل بهم"، ويقدمونه جنباً إلى جنب مع الأب الروحي لتنظيم داعش أبي مصعب الزرقاوي، كرمز من رموزهم.
لكن الإشادة ببن لادن يتبعها في معظم الحالات الدخول في صلب الموضوع، وهو التهجّم على من جاء بعده من قادة واتهامهم بأنهم دمّروا ما بناه بن لادن "وحرّفوا الجهاد عن مبتغاه وضيعوا دماء أجيال من المجاهدين بدعوى وشعارات زائفة كالحرص على القواعد الشعبية"، وغير ذلك مما "تسبّب في ضياع الأمة".
فعلى سبيل المثال، أصدر المكتب الإعلامي التابع لـ"داعش" في ما تُسمى "ولاية نينوى"، فيلماً تسجيلياً الشهر الماضي تحت عنوان: "إلى جند القاعدة في اليمن"، وبثّته مواقع "الخلافة الإسلامية" جميعها، وردت الاتهامات المشار إليها في الدقيقة الأولى من دقائقه العشر. وكان أكبر مأخذ من مآخذ "داعش" العديدة على "القاعدة" أن قادته الحاليين "وصل بهم الحال إلى إلغاء عقيدة الولاء والبراء من قلوبهم". وحسب ما ورد في التسجيل المشار إليه، يعتقد "داعش" أن "القاعدة" بسبب "ما غيّرت وبدّلت، غدا ذكرها لا يرعب أجبن أعداء الله". وعند النطق بالجملة الأخيرة تظهر صورة الرئيس الأميركي باراك أوباما في اتهام له بالضعف.
كما يأخذ "داعش" على "القاعدة" (جناح الشام) تحالفه مع من يسميهم التنظيم بدعاة الاعتدال والظلالة. لكن قادة تنظيم "القاعدة" في اليمن يحظون بالنصيب الأوفر من هجمات "داعش" الإعلامية، إذ يأخذ "داعش" عليهم أنهم أصبحوا يعزون ويحزنون لقتل الروافض (الشيعة)، ويعترفون بمساجدهم في اليمن التي يسميها داعش "معابد وثنية شركية يسب فيها الصحابة".
ويوضح "داعش" في فيلمه الوثائقي مبررات هذه المآخذ بإيراد صورة من بيان صادر عن تنظيم "القاعدة في جزيرة العرب" ينفي فيه التنظيم علاقته بتفجيرات مساجد الحوثيين في صنعاء وهي التفجيرات التي تبناها تنظيم "داعش". وجاء في البيان أن تنظيم "القاعدة" ملتزم بتوجيهات زعيمه الأعلى أيمن الظواهري التي توصي "بتجنّب استهداف المساجد والأسواق والأماكن المختلطة حفاظاً على أرواح المسلمين الأبرياء وتغليباً للمصلحة الراجحة".
ويبدو أن ما أغضب "داعش" في هذا البيان، هو الاعتراف بأن الحوثيين الشيعة مسلمون وأن المباني التي فجّرها انتحاريون هي مساجد وليست "معابد شركية" حسب تسمية "داعش".
واعتبر "داعش" أن بيان التبرؤ من تفجيرات مساجد الحوثيين في صنعاء هو تجريم لعناصره التي نفذت تلك التفجيرات، مستنتجاً أن تنظيم "القاعدة" لم يعد قاعدة للجهاد وإرهاب "أعداء الله" بل أصبح "يغازل الحوثيين ويتعاون معهم. ويتصالح مع لجان عبدربه منصور هادي الشعبية ودعاة الشرعية المزيفة".
تنافس على الموارد البشرية
وفي إطار مخاطبة عواطف الأفراد العاديين المنتسبين لـ"القاعدة" وتجاوز القادة، تضمّن التسجيل الصادر عن المكتب الإعلامي لـ"داعش" في نينوى القول إن تنظيم "القاعدة" انتهى ولا فائدة تُرجى من البقاء فيه، بالقول: "يا من تنتسب لهذه الجماعة التي أصبحت في مهب الريح، انظر في أي خندق أنت، فليس هذا الخندق هو الذي كان يرنو إليه الرعيل الأول". ويُقدّم "داعش" البديل بالقول: "ها هي دولة الإسلام قد قامت ونُصب إمامُها وبان صرحها"، زاعماً أن "جل المسلمين في كل بقاع الأرض قد بايعوها لأنها الثابتة على نهج السلف والرعيل الأول... فأين أنت منهم"؟ ويصاحب نطق "الرعيل الأول" مع ظهور صورة أرشيفية لأنور العولقي، وفيما بعد لسعيد الشهري وأحياناً أسامة بن لادن وأبي مصعب الزرقاوي.
ويستمر إعلام "داعش" في مخاطبة عناصر "القاعدة" في اليمن وتحريضهم على الانتقال إلى صفوفه، بمقطع إنشادي يحذرهم فيه المنشدون بأن "أمريكا خلفك يا ابن اليماني، والمجوسي أمامك... قم فجّر الحوثي بصنعاء وزلزل يا بن اليماني قم وجهز حزامك".
لكن الفطنة الإعلامية لدى كوادر "داعش" تجسّدت في إظهار عناصر من التنظيم يوجّهون رسائل إلى زملائهم في الإرهاب من عناصر "القاعدة" في اليمن، وكان أول المتحدثين شاباً يُدعى أبو البراء الأنصاري، فقال: "يا جُند القاعدة في اليمن، هذه رسائل من جُند الخلافة وهم ناصحون، أما اتضح لكم صفاء منهجنا، وشدة بأسنا". ثم وجّه ما يشبه الاستنجاد أو الاستعطاف بقوله: "أما ترون تكالب أمم الكفر علينا وما ذلك إلا لعلمهم أننا أشد المسلمين عليهم". وقدّم المتحدث نوعاً من الإغراء لأعضاء "القاعدة" لترغيبهم بالانتقال إلى "داعش" في قوله: "أما رأيتم البركة التي حلّت على من انضم لصفوف الجماعة"؟
وأعاد المتحدث تذكير عناصر "القاعدة" في اليمن بأنهم كثيراً ما طالبوا بعودة الخلافة وتغنوا بها، فلماذا يقابلونها بـ"الصدود" عندما تم الإعلان عنها وأبدى العالم كله خشيته منها. ولامهم على ذلك متهماً إياهم بالحسد، وأن عدم رضاهم عن تنظيم "الدولة الإسلامية" قد يكون عائداً إلى أن "الخليفة" لم يكن منهم كما كانوا يحلمون، وشبهم في ذلك بـ"بني إسرائيل" الذين قال إنهم أنكروا نبوة محمد لأنه لم يخرج من بينهم كما كانوا يتوقعون.
اقرأ أيضاً: التحالف الإسلامي ضد الإرهاب: مولود جديد ينتظر الآلية التنفيذية
وفي إشارة إلى تمسّك تنظيم "القاعدة" بالتسميات والشكليات، تساءل الأنصاري: "يا جند القاعدة قولوا لنا من الذي تمسّك بمسميات وتعصّب للتنظيمات، ومن الذي خرج عن الإمام الشرعي الذي بايعته الأمة". وتطرق إلى "التنازلات" التي قدّمها "داعش" فيما يتعلق بالتسميات حيث قال: "كم تركنا أسماء طالما اعتززنا بها إيثاراً لوحدة المسلمين والمجاهدين". وقبل أن يختم نداءه لعناصر "القاعدة" في اليمن أضاف إلى تساؤلاته السابقة تساؤلات إضافية جاء فيها: "هل الإمام في مقاييس الشرع رئيس للتنظيم أو الفصيل أم خليفة للمسلمين يقيم الشرع بينهم ويحكم بينهم بشرع الله عز وجل، فمن هو الخارجي؟ ألسنا على منهج الشيخ أسامة وأبي مصعب الزرقاوي تقبلهما الله، ألم يبدأ الزرقاوي الحرب على الرافضة، وحذر من خطرهم؟"، مشيراً إلى أن عناصر داعش في اليمن يسيرون على نهج الزرقاوي في قتالهم للشيعة واستهداف "الحوثة المشركين ومعابدهم الشركية، فاتقوا الله في أنفسكم واحذروا الكبر وحب الرئاسة، فكم أهلك الله أقواما من قبلكم".
رفض قاطع لزعامة "طالبان"
وأظهر التسجيل متحدثا آخر يدعى همام الأنصاري موجّهاً خطابه إلى "جند القاعدة" في اليمن حيث قال: "رفضتم بيعة إمامنا البغدادي بحجة أن لكم بيعة للملا عمر مع أن شيخكم النظاري قال سابقاً إن الملا عمر ليس إماماً عاماً للمسلمين، فكيف جعل بيعته بعد ذلك عائقاً عن الالتحاق بصفوف الجماعة، ثم إنكم بقيتم ردحاً من الزمن مبايعين رجلاً قد انتقل عن هذه الدار إلى الدار الآخرة، ثم رضيتم ببيعة من نصب بعد الإعلان عن موت الأول وهو الملا أختر وهل عرفتم منهج الثاني وعقيدته؟ أما تعلمون تودده لإيران الصفوية؟ أما علمتم بقربه من المخابرات المرتدة في باكستان؟ هل رأيتم بمبايعة أمير لا يعرف الولاء والبراء ولم يقبل به حتى أقرب المقرّبين من حركة طالبان، ماذا جرى لكم يا جند القاعدة في اليمن؟ أتهددون الروافض وأميركم في افغانستان يتودد لحماية إيران الصفوية؟ وتهددون في اليمن عساكر دول الخليج ولا تستهدفونهم مع قربكم منهم؟ متى بربكم تحوّلون أقوالكم إلى أفعال"؟
وتابع: "بدلاً من أن توجهوا أبواقكم الإعلامية لمحاربة المرتدين والكفرة والمتآمرين على اليمن وأهله، وجّهتم هذه الأبواق لتحارب دولة الإسلام وهادنتم أهل البدع والمنكرات وأوقفتم حربكم العسكرية والإعلامية على الصحوات المرتدة التي تدعى باللجان الشعبية ولم تشنّوا عليهم حرباً بل وجهتم عليهم حربكم الإعلامية على جند الخلافة الساعين لتحكيم الشريعة الإسلامية وتطبيق حدود الله، فباالله عليكم كيف تقيسون الأمور؟ وخلف أي مصالح تسيرون"؟
أما أبو محمد الأنصار، ثالث المتحدثين في التسجيل، فقد كان مدخله في الاستقطاب أكثر ذكاء إذ قال: "يا جند القاعدة في اليمن ماذا تريدون وما الهدف الذي تسعون إليه؟ أهو تحكيم الشريعة وإقامة دولة الإسلام؟ أم الحفاظ على اسم التنظيم ورايته؟ فإن قلتم تحكيم الشريعة ورفع راية الإسلام قلنا لكم لقد أخطأتم الوسيلة. كيف تسعون لهذا الهدف وقد سلمتم ما حزتم عليه بحد السلاح في المكلا إلى مجلس طاغوتي؟ أتستبدلون طاغوتاً بطاغوت؟ كيف تسعون لهذا الهدف؟ وفيكم ومنكم قيادات إخوانية تسعى للوصول لحلول مع المشركين الحوثة"؟
أضاف: "كيف تسعون لهذا الهدف وقد تركتم بيعة الإمام الشرعي وبايعتم أختر محمد منصور الذي لم يجتمع عليه حتى قادة طالبان، وأثيرت حوله الكثير من الاتهامات، بسبب علاقته الوثيقة بباكستان، هذا مع ما في عقيدة الحركة من انحرافات... ثم إنه لم يعلن نفسه إماماً للمسلمين بل لإمارة أفغانستان الإسلامية، فيا جند القاعدة في اليمن، أين أنتم اليوم من الرعيل الأول الذي كان يرفض مهادنة الطواغيت والركون إليهم"؟ (ومع نطق كلمة الطواغيت تظهر صورة عبدربه منصور هادي بغرض القول إن القاعدة هادنته). وواصل المتحدث: "سارعوا إلى جند الخلافة، ضعوا أيديكم بأيديهم واحذروا وعيد الله عز وجل".
ويؤكد هذا النمط من النداءات ما سبق أن ذكره مصدر أمني أميركي لـ"العربي الجديد"، أن أجهزة الاستخبارات الغربية ترصد منذ شهور حركة نشطة لتنظيم "الدولة الإسلامية" لاستقطاب عناصر "تنظيم القاعدة في جزيرة العرب"، والتخاطب مباشرة مع قواعد القاعدة وأنصار الشريعة والقيادات الوسطى التابعة لهم، متجاوزين بذلك القيادات العليا لـ"القاعدة" التي يعتبرها "داعش" معتدلة أو منحرفة وأحياناً متخاذلة أو متواطئة مع السلطات الحكومية بالمقارنة مع مقاييس البغدادي الأكثر تشدداً.
وحسب ما رصدته الدوائر الغربية، فإن تنظيم "داعش" يشترط أن تذوب تكوينات "القاعدة" في إطار "الدولة الإسلامية" مع إعطاء "الإمارات" الواقعة خارج سورية والعراق صلاحيات واسعة لإدارة شؤون مناطقها، واختيار أمراء في إطار تقديم الولاء والبيعة للخلافة.
رأي الصنعاني
في الوقت الذي يُشبّه فيه البغدادي الحرب على تنظيمه بغزوة الأحزاب التي شنّها "كفار قريش" على المسلمين في المدينة المنورة في السنوات الأولى من نشوء الإسلام، فإن زعيم "تنظيم القاعدة في جزيرة العرب" قاسم الريمي يُشبّه الأميركيين بـ"كفار قريش" ويشبه الأنظمة العربية بقبيلة غطفان "التي شاركت الأحزاب في تحالفها ضد المسلمين"، معتبراً أن "الأولى بالمسلمين قتال كفار قريش قبل استهداف غطفان".
ففي أول تسجيل فيديو له منذ تعيينه زعيماً للتنظيم عقب مقتل الزعيم السابق ناصر الوحيشي، ظهر الريمي أخيراً وقد تخلى عن القسوة والصرامة التي عُرف بهما عندما كان القائد العسكري للتنظيم، وأصبح منظّراً يلقي المحاضرات على جمهور من المجهولين. وأوضحت الصور أن الريمي قدّم المحاضرة في مجلس يمني صغير، وبدا عليه الارتباك وعدم التركيز وهو يسجل ملاحظاته على لوح تدريس.
وبثت مؤسسة "الملاحم"، الذراع الإعلامية لـ"القاعدة"، وقائع 20 دقيقة من المحاضرة المسجّلة بالفيديو. لكن المؤسسة تقاعست عن نشر النص الكامل للمحاضرة أو تفريغ التسجيل بالمقارنة مع ما فعلته الأذرع الإعلامية لتنظيم "داعش" في تعميم كلمة البغدادي صوتاً ونصاً على أوسع نطاق، وهو مؤشر على أن تنظيم "القاعدة" قد تأثر باستهداف الطائرات الأميركية لعدد كبير من قياداته وكوادره السياسية والإعلامية والعسكرية، وأصبح تنظيم "داعش" متفوقاً بمراحل عليه.
ومن وجهة نظر الريمي، فإن ترتيب الأولويات يجب أن يبدأ بالعدو البعيد وهو الولايات المتحدة الأميركية، أما العدو الأقرب المتمثّل في الأنظمة المحلية فيجب تأجيل المواجهة معه إلى مرحلة لاحقة. وتطرّق الريمي لاجتهاد تشريعي سائد بين قادة "القاعدة"، وهو أن قتال العدو البعيد هو "قتال نكاية" بينما قتال العدو القريب يجب أن يكون "قتال ولاية" لإقامة الشرع في الأرض الإسلامية. ورأى الريمي أن الوقت لم يحن بعد لإقامة الدولة الإسلامية لأن العدو البعيد قادر على الاستفراد بأي فرع من فروعها والقضاء على المشروع في مهده وبالتالي القضاء على الحلم الذي يتفق تنظيما "داعش" و"القاعدة" على ضرورة إقامته ويختلفان في تحديد التوقيت المناسب لإعلان الدولة.
ولم يرفض الريمي قتال "العدو" ولكنه رفض الاستعجال في إقامة الدولة حتى لا ينشغل عناصره بإقامة الشريعة عن القتال. وشدد على أهمية الرماية في قتال العدو وكأنه يشجع عمليات إطلاق النار الفردية الصغيرة التي ينفذها أفراد متأثرون بالفكر الجهادي. وعلى الرغم من أن الريمي لم يحسن التعبير عن المرجعية التشريعية لرأيه الرافض لدولة "داعش"، فإن كلامه أوحى بأن تأسيس الدولة يُعرّضها للالتحام مع العدو أو مجيء العدو البعيد إلى أرضها بدلاً من استهداف هذا العدو في أرضه، حسب تعبير الريمي.
وسخر الريمي من البغدادي بقوله إن الخلافة لا يجب أخذها مهزلة وإن إقامة الصلاة والشرع والحدود لا يجوز أن تتم قبل تأمين الدولة من "العدو البعيد." كما سفّه من يفتعل حروباً ومعارك هو في غنى عنها، ويورّط نفسه في خصومات عديدة، في إشارة إلى تنظيم "داعش". وخاطب البغدادي من دون أن يذكره بالاسم، قائلاً: "على من نضحك بزعمنا إقامة الحدود في دار الحرب دون سلطان أو حماية". وأضاف: "يأتي قاضٍ بحكم، ويُنفذ في اليوم التالي، دون أي تمكين، فإن كانت إقامة الحدود واجبة، فالأوجب منها هو دفع العدو الصائل". ورأى أن "الواجب هو منع المانع من إقامة الشريعة، لا أن نستسلم له ونتحلق في دائرة ضيقة ونقيم حكماً إسلامياً عليها".
وهاجم الريمي تنظيم "داعش" وزعيمه، قائلاً إنه أقام دولة إسلامية في زاوية من الأرض، ويحاول حالياً قتال كل الجماعات الإسلامية الأخرى لتبقى دولته فقط. وفي تسطيح لنتائج العمليات الإرهابية قال الريمي: "لو أن كل جماعة إسلامية قامت بتنفيذ عملية واحدة بالسنة فقط، ضد أميركا، لكنّا انتصرنا عليها، فيجب أن نترك خلافاتنا ونتجه صوب أميركا، نستهدف الرأس قبل الأعضاء، ومن اعترضنا نقاتله حتى نقضي عليه، ومن لم يقاتلنا لا نعترضه إلا بعد التخلص من أميركا العدو الاول، فليس من مصلحتنا خلق عداءات كثيرة".
ورداً على اتهامات "داعش" لتنظيم "القاعدة" بالتعاون مع نظام هادي في اليمن، قال الريمي: "إن الأعداء الحقيقيين هم الاميركان، ثم يأتي بعدهم العملاء من رؤساء وضباط". وتابع: "أميركا تنال منا وتحقق انتصارات بقتل أفرادنا باليمن أكثر مما يحققه هادي أو أي حكومة سابقة". وزعم الريمي أن هادي لا يمثّل معضلة كبيرة أمام "القاعدة"، "فهو ضعيف وهزيل ويتعرض للصفع من الجميع صغيرهم والكبير، فمن جاء صفعه، ولم يستطع أن ينال منا طيلة فترة حكمه". وأضاف: "عبدربه منصور وجماعته، أقصى ما يمكنهم إلحاق الضرر بنا هو زرع شرائح، بينما نجد الأمريكان هم من يقصفوننا، وينكلون بإخواننا في شتى البقاع".
ويبدو من خلال ما تقدّم، أن الخلافات التي تبدو فكرية بين "القاعدة" وتنظيم "داعش"، ليست سوى أعذار لتنافس قائم على المصالح واستشعار من "القاعدة" لخطر خسرانها لقواعدها وأنصارها ومن استثمرت فيهم من كوادرها، ليرثهم تنظيم "داعش" كما ورث غيرهم من أنصار التنظيمات التي ذابت في ما يسمى بـ"الدولة الإسلامية".
اقرأ أيضاً: صراع "داعش" و"القاعدة" ينتقل إلى ليبيا