فرض الحدث الفلسطيني نفسه على الحوار الذي أجراه "تلفزيون سوريا" مع المفكر العربي الدكتور عزمي بشارة، والذي كان مقرراً أن يكون الملف السوري محوره الرئيسي، قبل أن تنفجر الأوضاع في القدس المحتلة نتيجة لجرائم الاحتلال الاستيطانية المتواصلة في المدينة منذ عام 1968، مثل ما أشار إليه مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
في أحداث القدس، جزم بشارة بأن القضية لا تتعلق بقرار قضائي للمحاكم الإسرائيلية، بل بنضال فلسطيني لمنع تحول القدس العربية إلى مجرد غيتو لأقلية في محيط يهودي، وهو ما يجري شعبياً من دون قيادة سياسية ضرورية لتحويل الفعل الميداني إلى نتيجة سياسية، وهو ما تتحمل مسؤوليته السلطة الفلسطينية التي لم تتعظ من فشل كل مسار أوسلو، ولا تزال ترفض سلوك أي طريق لمواجهة الاحتلال.
أما سورياً، فقدم بشارة، من موقعه كمتعاطف مع الثورة السورية، قراءة نقدية للمعارضات السورية ولمسؤولياتها عما آلت إليه الأوضاع، طارحاً ضرورة إيجاد مظلة سياسية جديدة تجمع السوريين في الداخل وفي الخارج، تكون حاضرة وصاحبة شرعية في حال طُرح احتمال التوصل إلى حل للقضية السورية.
غيتو
عن الهبة الحالية للمقدسيين، فقد وضعها بشارة في سياق ما تعيشه المدينة منذ عام 1968، أي منذ ضم الاحتلال القدس، وصولاً إلى اشتداد شراسة الهجمة الاستيطانية لتهجير السكان العرب من القدس، بدعم من الحكومة الإسرائيلية والمحاكم المتخصصة في تطبيق القانون الإسرائيلي المصَّمم لخدمة دولة إسرائيل ولتهجير الفلسطينيين ولتهويد الدولة. ورأى بشارة أن الاحتلال طوّق القدس منذ 1968 عبر مجموعة مستوطنات تلقى الدعم الكامل من الحكومات الإسرائيلية ولديها وزراء يمثلونها، بهدف الاستيلاء على أكبر عدد من المنازل العربية عن طريق المصادرات وبناء المستوطنات التي أصبحت أحياء كاملة، ولكي تتحول القدس العربية من مدينة تصلح لأن تكون عاصمة لفلسطين إلى "غيتو".
بين التطبيع والقدس
ولاحظ بشارة كيف أن موجة التطبيع بين بعض الدول العربية وإسرائيل تشجع الاحتلال على التوسع في ما يرتكبه في القدس، التي تكتسب أهمية معنوية كآخر قضية استعمارية في العالم. وعن التغريدة التي كتبها بنيامين نتنياهو، واعترف فيها بأن العقبة الحقيقية أمام الاستسلام العربي الكامل للاحتلال هو الرأي العام العربي، لفت بشارة إلى أنه "كلما تحركت أنظمة باتجاه إسرائيل والتطبيع، اتسعت الفجوة بين الأنظمة والشعوب". واعتبر أن الرأي العام متضامن مع الشعب الفلسطيني ليس لأنه ضحية، بل لأنه يدافع عن حقوقه.
موجة التطبيع بين بعض الدول العربية وإسرائيل تشجع الاحتلال على التوسع في ما يرتكبه في القدس
وربط بشارة بين هبّة القدس من جهة، وواقع أنها تجري في منطقة لا نفوذ فيها للسلطة الفلسطينية من جهة ثانية، ووجد أن "مسألة تهجير المقدسيين من المنازل تجسد نكبة عام 1948". وفي حين تنبّه إلى أن أغلب شباب هبّة المنازل اليوم مولودون بعد اتفاقيات أوسلو، ويبدون أكثر جاهزية للمواجهة، فإنه وجد في احتمال تمدد المواجهة من القدس إلى الضفة الغربية أمراً صعباً، ويتوقف على قرار السلطة الفلسطينية في منع الناس من التحرك أو عدمه. واختصر المعادلة بالقول إن "السلطة لم تستنتج شيئاً من فشل أوسلو، وهي ترى أن الانتفاضة الثانية كانت خطأً، ولو قررت السلطة ترك الناس تنتفض، فسنرى العجب من الشعب الفلسطيني".
ورداً على سؤال حول رويته لآفاق التصعيد أو التهدئة، اعتبر بشارة أن الاحتلال قلق اليوم، وذكّر بأن نتنياهو لديه ذكريات مع انتفاضة قامت ضد حكومته الأولى عام 1996 في القدس. ووفق كلام بشارة، فإن الأمن الإسرائيلي هو من طلب من المحكمة العليا تجميد قرارات إخلاء منازل الفلسطينيين. ووافق بشارة على أن النضال يجمّد الاستيطان، لكنه نبّه إلى أنه "يحتاج إلى نفس طويل وإلى مؤسسات ومنظمات وقيادة". وحذّر من أنه "إذا حصل تراجع نضالي، فسيستولون على البيوت وسيكملون محاصرة القدس من كل الجهات".
حذّر بشارة من أنه "إذا حصل تراجع نضالي، فسيستولون على البيوت وسيكملون محاصرة القدس من كل الجهات"
وحول موقف الإدارة الأميركية مما يحصل، أشار بشارة إلى أن المسؤولين الأميركيين اليوم "ليسوا متفقين مع سياسات (دونالد) ترامب في القدس، لكن إسرائيل مستمرة في ذلك منذ 1968". وتساءل: حين تقوم الدول العربية بالتطبيع مع إسرائيل، ماذا يبقى لكي يقوله الأميركيون داخل الإدارة ممن يفهمون الواقع العربي أو يتضامنون مع القضية الفلسطينية؟
ماذا تبقى من سورية؟
أما حول سورية، فقد رأى بشارة أنه في ظل وجود كيان سياسي في إدلب وآخر في شمال شرق سورية وحالة قوات سورية الديمقراطية "قسد"، هناك خطر حقيقي في أن تصبح هذه الحالة دائمة، "لذلك هناك حاجة إلى مظلة جديدة جامعة للسوريين من نوع منظمة التحرير الفلسطينية"، وهذا لا يتطلب، بحسب مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، منصات واجتماعات وثرثرات، "بل تنظيمات واتحادات وعقد مؤتمر سوري عام، وإقامة تنظيم جامع للسوريين في الخارج له مؤسساته وأجهزته، حتى إذا صار هناك حديث عن حل في سورية، يكون هناك طرف شرعي يمكن التواصل معه"، وهذا، بحسب بشارة، ممكن إن تخلص عدد من المعارضين من النرجسيات والأنانيات والأحقاد فيما بينهم. ووفق قراءة بشارة، فإن النظام نجح بفرض نفسه على إيران وروسيا على قاعدة أن لا بديل عنه بالنسبة لهما، وعلى اعتبار أن إبقاءه هو انتصار لهما كونه ينفذ ما تريدانه.
هناك حاجة إلى مظلة جديدة جامعة للسوريين من نوع منظمة التحرير الفلسطينية
وبتحليل بشارة، فإن نظام الأسد اليوم هو أشبه بالحلّ بين إيران وروسيا اللتين لا تتفقان على الكثير من الأمور في سورية ولبنان، بل إنهما تتفقان فقط على إبقاء بشار الأسد، "وهو نجح في هذه اللعبة، لكنه في المقابل باع البلد، ولا أحد يعرف متى قد يتخلص الشعب السوري من الديون التي صار مرتبطاً بها للإيرانيين والروس".
وعن موعد 26 مايو/أيار الحالي، رأى بشارة أنه من المعيب أن تُسمى انتخابات، بل هي "إعادة تدوير للوضع القائم ولا تقدم ولا تؤخر". واختصر الوضع قائلاً إن النظام "أتقن تمثيل لعبة يعرف أن الناس تعرف أنه يمثلها، مثل اللجنة الدستورية والآن الانتخابات، وهو يستفيد من أن سورية ليست على رأس أولويات المجتمع الدولي، وأن لا بديل جاهزاً للنظام"، ليخلص إلى أن الحل لا يأتي اليوم "إلا بشكل يُفرض من طرف دولي"، وهو أمر مستبعد، كون هذا الطرف "لا يريد وليس لديه بديل" عن النظام.
وأعرب بشارة عن قلقه من أن "أي تغيير قادم سيواجه تحدي إعادة جمع أمة المواطنين السوريين، لأن النظام ترك أرضاً محروقة من ناحية العلاقات والترابط الاجتماعي والأحقاد والاحتقان".
لثورة السورية بدأت واستمرت لمدة طويلة كثورة شعبية وسلمية، والنظام أدرك خطورة ذلك، فاستخدم العنف الفائق وتمت تصفية القيادات المدنية للثورة في أول عامين بعد 2011
وفي اختصاره لما آلت إليه الثورة السورية من حرب أهلية، ذكّر بشارة بأن الثورة السورية بدأت واستمرت لمدة طويلة كثورة شعبية وسلمية، والنظام أدرك خطورة ذلك، فاستخدم العنف الفائق وتمت تصفية القيادات المدنية للثورة في أول عامين بعد 2011، فدخل السلاح تحت عنوان "حماية المتظاهرين"، وبدأت صراعات على التسلح وظهر أمراء الحرب والسعي نحو نيل الدعم الخارجي، ثم خرجت إلى النور ظاهرة الفصائل المتطرفة، وحصل تشتت غير طبيعي بعددها وبعدم خضوعها إلى أي قيادة سياسية، وهو ما كرّس واقع أن لا بديل سياسياً للنظام.
ورغم كل ذلك، بدا بشارة واثقاً من أنه على المدى المتوسط، "لن ينجح النظام السوري لأنه غير قادر على الحكم ولم يكتسب أي شرعية دولية". وسخر من أن الحظر الدولي المفروض على النظام "لا تكسره إلا بعض الدول العربية". وعن هذا الموضوع، أعرب عن رأيه بأن أميركا "لن تمنع أحداً من التطبيع مع النظام السوري ولن تشجعه" في الآن نفسه، لكنه أوضح أن الحظر الحقيقي على النظام موجود في الكونغرس الأميركي على هيئة قوانين، أما إدارة بايدن وأركانها من المسؤولين عن ملفات الشرق الأوسط، من أمثال بريت ماكغورك، فإنهم لا يمانعون إعادة تعويم النظام السوري بحسب رأي المفكر العربي.
وحمّل بشارة القيادات السورية المعارضة جزءاً من المسؤولية عن عدم تمكنها من بلورة بديل ديمقراطي، تقدمت به في بداية الثورة، لكنها ظلت بلا أي نفوذ على الفصائل المتطرفة "التي طرحت بديلاً مخيفاً بالنسبة للغرب".
وبحسب كلام بشارة، لم تطالب القيادات السورية بتدخل خارجي مثل ما حصل في العراق، بل كان الطلب من العالم حماية المدنيين، وهو ما لم ترغب به الدول الغربية، بينما "الفصائل المتطرفة قدمت للغرب الحجج لتبرير عدم التدخل، ونشأت حالة صرنا معها بحاجة لحماية المدنيين من بعض الفصائل". وخلص إلى اعتبار أنه "ليس هناك أي طرف لم يخطئ في سورية، ولو كانت هناك قيادة موحدة للفصائل المسلحة ترغب بأن تكون لها قيادة سياسية، لتغير الكثير في الحدث السوري".