وصف المدير العام لـ"المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، الدكتور عزمي بشارة، ما تطرحه إسرائيل بشأن اليوم التالي للحرب على غزة بأنه استمرار للحرب بوسائل أخرى، معيباً صمت الدول العربية التي يتم التداول بها كراعية لمشروع تثبيت الاحتلال الإسرائيلي للقطاع، وعدم نفيها التورط في أي مشروع من هذا النوع. وفي حين شدد على أن عدم تبديد تضحيات الغزيين يكون بإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية لا بإحياء ما تضمنه اتفاق أوسلو بعد ثلاثين عاماً من فشله، لناحية الإدارات الذاتية خصوصاً، فإنه نفى أن تكون دولة قطر قد طرحت في أي من مبادراتها إخراج قادة حركة حماس من غزة، بحسب زعم وسائل إعلام إسرائيلية.
وفي تطورات البحر الأحمر، توقع المفكر العربي أن يحصل تصعيد لقواعد الاشتباك بين أميركا والغرب من جهة، والحوثيين وإيران من خلفهم من جهة ثانية، من دون الدخول في حرب. وفي ما يتعلق بدعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في لاهاي، لفت بشارة إلى أن المرافعة الدفاعية الإسرائيلية أحرجت مصر باتهامها فعلياً بتجويع الغزيين ومحاصرتهم، مشدداً على أن الرد المصري في هذه الحالة كان يجب أن يكون عملياً وفورياً، وهو فتح المعبر.
"اليوم التالي" و100 يوم على العدوان
وقال بشارة، في حوار خاص مع تلفزيون "العربي" من مدينة لوسيل في دولة قطر، مساء الأحد، إنه لكي نخرج سياسياً بنتيجة تليق بحجم التضحيات التي يقدمها الفلسطينيون في غزة، على القيادات الفلسطينية تغيير نمط تفكيرها بشكل يخرج السلطة الفلسطينية من دوامة التفكير بما يخدم حماس أو يضعفها في حسابات اليوم التالي.
عدم تبديد تضحيات الغزيين يكون بإعادة بناء منظمة التحرير
واعتبر أن العودة إلى أفكار تطرحها إسرائيل لـ"اليوم التالي" على الحرب، مثل روابط القرى والسلطات المحلية والإدارات الذاتية، هي ذروة العبثية وتبديد لكل هذه التضحيات بعد كل ما تحقق، وهو كبير. وعدّد بعض ما تحقق مثل أن قضية فلسطين أمست قضية عالمية، تلتف حولها حركة تضامن عالمية كبيرة جداً، في انتظار انتهاء الحرب وما سيحصل من نقاشات إسرائيلية كبيرة وأزمات هجرة من هناك، وتساؤلات جدية عن احتلال الضفة وغزة.
قطر لم تطرح في أي من مبادراتها إخراج قادة حماس من غزة
وفي هذا السياق، أوضح أن ما تطرحه إسرائيل لـ"اليوم التالي" هو "استمرار للحرب بوسائل أخرى"، لأن المطروح إرساء إدارات محلية في غزة بدعم عربي ودولي وإشراف أمني إسرائيلي، وجزم بأنه في جميع الفصائل هناك من يعي هذه الحقيقة. وتساءل بشارة في هذا السياق: "الدول العربية التي تُطرح كراعية لهذا المشروع، لماذا لا ترد نفياً لمشاركتها ورفضاً لأي إملاء على الشعب الفلسطيني؟"، كذلك لفت إلى أن الموقف الأميركي الرافض للعديد من بنود مشروع إسرائيل لليوم التالي، أقوى من الردود العربية الحكومية.
وللحؤول دون تبديد التضحيات، أضاف بشارة أن الحل يبدأ بإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية لتضم الجميع بشكل يواجه الطرح الإسرائيلي لليوم التالي، لا بتكرار فشل أوسلو بعد ثلاثين عاماً، عبر إنشاء سلطة مدنية في غزة، وإدارات محلية وروابط قرى تُبقي عملياً على الاحتلال وتحرس مصالحه.
دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في لاهاي
أما عن دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية بلاهاي بتهمة ارتكاب إبادة جماعية في غزة، أو النية بارتكابها، فقد رأى بشارة أنها حدث مهم جداً يستحق المتابعة، لأن إسرائيل لطالما قدمت نفسها تاريخياً على أنها نتاج إبادة جماعية (الهولوكوست)، ولطالما وضع الإسرائيليون أنفسهم في خانة الدول الديمقراطية المتنورة التي لا ترتكب إبادات جماعية، بالتالي فإنّ وجودهم أمام المحكمة حالة خاصة وجديدة بعدما قاطعوا محاكمة جدار الفصل العنصري في لاهاي أيضاً عام 2004، فضلاً عن القيمة الرمزية لكون جنوب أفريقيا هي المدّعية، بما أنها دولة عانت عقوداً من الأبارتهايد. ووصف المرافعات الثلاث لجنوب أفريقيا بأنها وثيقة تاريخية مهمة جداً تلخص الانتهاكات التي تعرض لها الشعب الفلسطيني.
أخلاقياً الغياب العربي في لاهاي أفضل من الحضور
وأشار إلى أن جزءاً من أهميتها ينبع من اعتبار المرافعات الثلاث للدولة المدعية تنطلق من أن ما يجري في غزة جزء من صيرورة تاريخية لم يبدأ في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول.
ورداً على الادعاء الإسرائيلي بأن الكلام عن الإبادة الجماعية مجرد تصريحات لا خطة مدروسة، أوضح بشارة أن الإبادة لا تلزمها خطة منشورة، بل يكفي توفر النية والقصد بإبادة مجموعة ثقافية أو عرقية أو دينية أو جزء منها.
وعن السيناريوهات المتوقعة لقرارات القضاة الـ15، أعرب بشارة عن رأيه بأن الخشية من التسييس عند البعض مفهومة، ذلك أن أوروبا مثلاً ممثلة في عدد قضاة المحكمة بشكل غير متناسب مع وزنها وجغرافيتها وعدد سكانها، مقارنة مع قارات وبلدان أخرى آسيوية وأفريقية وأميركية لاتينية.
واستبعد مدير "المركز العربي" رفض الدعوى بشكل كامل، لأن المطلوب من قبل بريتوريا ليس إثبات حصول إبادة، بل إثبات شبهة جدية بارتكاب إبادة جماعية في غزة، وهذا أمر وارد أن يتبناه القرار الأولي للقضاة.
وبرأيه، إن لم يأمر القضاة بوقف فوري للحرب، فممكن جداً أن يقروا مجموعة من التدابير التسعة التي طالبت جنوب أفريقيا بها، مثل إعادة سكان غزة إلى منازلهم، وإعادة فتح المستشفيات، ووقف قتل المدنيين.
الإبادة الجماعية لا تلزمها خطة منشورة بل يكفي توفر النية والقصد
وتوقف بشارة عند رمزية جنوب أفريقيا الرئيسية بأنها من آخر الدول التي رزحت تحت الإرث الاستعماري الكولونيالي، لذلك فهي تحتل مكانة رفيعة في حركة التضامن العالمي، لأن فلسطين هي آخر قضية استعمارية اليوم، ووجود إسرائيل في مقابل هؤلاء "يجعلها في مقابل حركة ديمقراطية عالمية"، على حد تعبير بشارة.
وعن أسباب إقدام جنوب أفريقيا على خطوة مقاضاة دولة الاحتلال، ذكّر بشارة بمجموعة من المعطيات الأخلاقية والسياسية، منها أن جنوب أفريقيا تريد أن تكون قوة قائدة في أفريقيا، و"خصمها في ذلك هو إسرائيل، وهذا تجلى مراراً في الاتحاد الأفريقي".
ولفت المفكر العربي إلى مفارقة أن معظم أفراد الفريق القانوني الإسرائيلي يأتون من اليسار، وأنهم لطالما كانوا ضد سياسات الاحتلال، وبعضهم مؤيد لإنشاء دولة فلسطينية، ولكنهم يستعيدون وحدتهم عندما يتعلق الأمر بمصلحة إسرائيل. وعزا سبب اختيار هؤلاء إلى رغبة الحكومة الإسرائيلية بأن تكون روايتها مقبولة دولياً.
دفاع إسرائيل لم يكن ضعيفاً في المحكمة لكن مرافعة جنوب أفريقيا كانت أقوى
وفي تقييمه لمرافعات الادعاء والدفاع، لم يوافق بشارة على الرأي الذي يفيد أن دفاع إسرائيل كان ضعيفاً في المحكمة، وهذا يندرج في خانة أنهم يعرفون تاريخياً كيف يروجون لرواياتهم، ولكنه اعتبر أن مرافعة جنوب أفريقيا كانت أقوى.
وعن السجال حول أهمية مشاركة دول عربية في دعوى جنوب أفريقيا من عدمها، اعتبر بشارة أن لا مفاجأة في الغياب العربي عن دعم الدعوى. واستدرك بأنه "ربما كان أفضل ألا تشارك دول عربية في الدعوى أولاً، لأن كل حركتهم ستكون محكومة بالضغط الأميركي، ثم لأنه سيُثار عالمياً نقاش يفيد أن سلطات هذه البلدان نفسها ارتكبت جرائم قتل جماعية، لذلك من هذه الناحية الأخلاقية، كان مفضلاً أن تغيب الدول العربية".
إسرائيل اتهمت مصر بتجويع الغزيين
وعاد بشارة في معرض رده على سؤال إلى مرافعة الفريق القانوني الممثل لتل أبيب، وذكّر بأنه تضمن ادعاء محرجاً جداً لمصر عندما اتهمها عملياً بمحاصرة الغزيين وتجويعهم كونها هي من لا ترسل المساعدات الإنسانية إلى القطاع عبر معبر رفح الخاضع لسيادتها. وجزم بشارة بأن الرد المصري "كان يجب أن يكون فورياً وعملياً بفتح المعبر أمام شاحنات الإغاثة".
كان على الرد المصري أن يكون عملياً على اتهامها من قبل إسرائيل في لاهاي بتجويع الغزيين
وعلى حد تعبيره، "الخوف في مصر غير مبرر، لأن إسرائيل لن تقدم بأي حال على قصف شاحنات عليها علم مصر" لو جرى إدخالها إلى غزة. كذلك، أسف بشارة على أن مصر لا تزال تتعامل حتى في هذه الظروف مع غزة "من منطق شدّ ورخي، وهناك أمور لا تليق بحجم دولة عربية مثل مصر تتمثل في فرض أن يدفع الفلسطينيون أموالاً" للخروج من قطاع غزة والدخول إليه. وخلص إلى أنه "معيب بعد هذا التصريح الإسرائيلي، أن يتواصل إرسال الشاحنات من المعبر المصري إلى المعبر الإسرائيلي" لتفتيشها.
تغيير في الموقف الأميركي؟
وفي محور الموقف الأميركي إزاء العدوان وإسرائيل عموماً، وعما إذا كان هناك فعلاً تعديل في هذا الموقف، فقد رأى بشارة أنه "تغيير من ضمن التحالف مع إسرائيل"، وتوقع أن تستمر واشنطن في دعم أهداف الحرب، مع أنه بدأ ينفد صبر المسؤولين الأميركيين من الابتزاز الإسرائيلي المتواصل، فضلاً عن تغييرات طفيفة في ما يتعلق بمراحل الحرب وإدخال المساعدات والإصرار على التخلص من وزراء مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير. وأكد بشارة أن القضاء على القوة العسكرية لـ"حماس" لا يزال هدفاً مشتركاً بين أميركا وإسرائيل.
وفي ما يتصل بالتطورات الحربية المتوقعة في القطاع، كرر بشارة ما سبق أن قاله على شاشة "العربي" في مقابلات سابقة، ومفاده أن "نمط الحرب الحالي سيتغير عندما ينتهون (الإسرائيليون) من خانيونس، وهو ما قد يحصل في نهاية يناير/كانون الثاني أو منتصف فبراير/شباط". وعما زعمته وسائل إعلام عبرية تعكس ربما رغبات حكومية إسرائيلية، عن أن دولة قطر تطرح مشروعاً يتضمن إبرام هدن متواصلة تنتهي بوقف نهائي للحرب في مقابل خروج قادة "حماس" من غزة، كشف بشارة عن أن هذا البند الأخير لم تطرحه دولة قطر بتاتاً، بل أميركا تطرحه منذ نحو أسبوعين، و"قد اخترعوا (الإسرائيليون) هذه الأكذوبة ليشغلوا الناس بأفكار وهمية"، وفق مصطلحات بشارة.
البحر الأحمر
أما بالنسبة لتطورات البحر الأحمر، فقد سخر بشارة من الموقف الأميركي ــ البريطاني بأن الحوثيين ليست لهم علاقة بفلسطين وكأنهم هم لهم علاقة. وقال في هذا السياق إن الدور الإيراني والصراع الإقليمي والارتباط الحوثي بمصالح إيران كلها أمور واضحة في تطورات البحر الأحمر، ولكن في النهاية مطلب الحوثيين واقعي بحسب بشارة: "فكوا الحصار عن غزة يتوقف الحصار عن البحر الأحمر".
المتوقع في البحر الأحمر تصعيد قواعد الاشتباك من دون الدخول في حرب
وجزم المدير العام لـ"المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بأن لا أميركا الآن تريد حرباً مع إيران في سنة انتخابات ولا إيران تريدها. في المقابل، توسع الأخيرة نفوذها بمليشيات في كل البلدان العربية، لكن الأرجح أن تبقى الضربات الأميركية ــ البريطانية عبارة عن ردود فعل على ما يقوم به الحوثيون من دون أن تتحول إلى حرب إقليمية. واختصر المعادلة بأنه يُتوقع "تصعيد قواعد الاشتباك (الأميركي ــ الإيراني) من دون الدخول في حرب".