بعيداً عن الحيثيات والسجالات التي ذهب إليها المراقبون والمحللون عن قبول أنقرة بـ"صفقة" عضوية السويد في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، فإنّ هذه الخطوة تنهي 200 عام من الحياد في هذا البلد الصناعي والعسكري، ما يقلب الكثير من المعادلات.
وتتمثل أهمية عضوية السويد في الحلف الغربي، بالإضافة إلى ما يضيفه هذا البلد إلى قوة "الناتو"، مع بقية "مجموعة دول الشمال" (فنلندا والسويد والنرويج وأيسلندا والدنمارك)، في التغير الاستراتيجي عميق الدلالات للبلد، والحلف الغربي، والجارة روسيا: إنه نزع معطف الحياد بين الأحلاف الذي انتهجه البلد على مدار قرنين ماضيين. وعلى هذا المستوى، فالانتقال السريع نسبياً من الحياد إلى عضوية الحلف الغربي يقلب الكثير من المعادلات.
لم يكن الحياد السويدي خلال الـ200 سنة الماضية، بمعزل عن ميول الشارع نحو نزعة "السلمية"، يعارض بصورة واضحة جل سياسات الغرب. فحتى في عز "الحرب الباردة" (حتى عام 1992)، واتهام الأخير في مرات عدة لاشتراكيي استوكهولم، وعلى رأسهم رئيس الحكومة الراحل أولوف بالمه، بأنهم "أقرب إلى الشيوعية السوفييتية"، بقي التمسك بالحياد سمة سياسات البلد الخارجية.
تغيرت الأمور بصورة متسارعة منذ 2015، وعلى ضوء ما يشبه "استباحة" روسية، وفقاً لتسميات سياسية وإعلامية في استوكهولم، لسيادة البلد البحرية والجوية.
وانتهاج استوكهولم طيلة القرنين الأخيرين سياسات الابتعاد عن الحروب والصراعات من خلال عدم الانحياز، لم يعن أن البلد ضعيف عسكرياً، أو لا ينسق مع الغرب. فضم روسيا لشبه جزيرة القرم، وتدخلها في شرق أوكرانيا، واستعراضها القوة في بحر البلطيق، منذ عام 2014، راح يقلب موازين الرأي العام باتجاه الخروج من حالة "عدم الانحياز".
بعد حروب كثيرة، بما فيها غزو الجيش السويدي لروسيا القيصرية نفسها، اختارت المملكة الغارقة في فوضى سياسية واقتصادية في 1809 وضعاً مختلفاً، أقل ميلاً إلى خوض الحروب، وخصوصاً بعد أن صارت روسيا قوية، وضمت إليها فنلندا في ذلك العام. خسارة فنلندا على وجه الخصوص، حوّلت السويد إلى فكرة الاتحاد مع النرويج تحت عرش الملك كارل الرابع عشر في 1818، ودفع ذلك الملك إلى إعلان أن بلده سيبتعد عن الحروب المستقبلية.
العودة التدريجية إلى تعميق التنسيق الأمني-الدفاعي مع دول الجوار الاسكندنافي، واستعادة بعض الاتفاقيات من عمق التاريخ المشترك عن الدفاع بعضها عن بعض، انزلقت مع 2021 إلى نظرة عابرة للتيارات السياسية، من اليسار إلى اليمين، باتجاه الحلف الأطلسي، والعين على ما كان يظهر من حشود روسية في ديسمبر/كانون الأول من ذلك العام على حدود أوكرانيا.
استطاع الخطاب السياسي، مسنوداً بخطاب دول الجوار الأعضاء في "الناتو" أساساً، كالدنمارك والنرويج ودول البلطيق، بشأن "البعبع" الروسي، وغزو أوكرانيا في فبراير/شباط من العام الماضي، تسريع تسويق فكرة نقل السويد من الحياد إلى الانحياز.
يُسجل في استوكهولم أن "الاشتراكيين"، الذين اتُهموا من واشنطن والغرب ذات يوم بأنهم "أقرب إلى الكرملين الشيوعي"، هم ذاتهم التيار الذي قاد الانطلاق نحو "الناتو".
في 12 مايو/أيار من العام الماضي، قال وزير دفاع حكومة ائتلاف اليسار ويسار الوسط السابقة بيتر هولتكفيست: "لا يمكننا أن نكون الدولة الشمالية الوحيدة التي لا تشارك في الناتو، فلن نكون قادرين على المشاركة في التخطيط الدفاعي دون العضوية".
وكانت رئيسة الحكومة السابقة ماغدالينا أندرسون قد ذهبت في اجتماع لحزبها "الاجتماعي الديمقراطي" في 15 من الشهر نفسه إلى تحميل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضمنياً مسؤولية بدء السويد في الخروج من الحياد. قالت أندرسون: "لقد غيّر هجوم بوتين (في أوكرانيا) كل شيء". وأصبح ذلك شعاراً ليسار الوسط تحت يافطة "هناك ما قبل وما بعد 24 فبراير/شباط 2022" لإقناع الشارع السويدي بتغيير رأيه.
كانت السويد معروفة بتوافق شارعها وطبقتها السياسية منذ الحربين العالميتين الأولى والثانية حيال الاستمرار في خيار الحياد، وبعد 1945 وانضمام ممالك الدنمارك والنرويج وهولندا وبلجيكا إلى "الناتو". وحتى أيام بعد تسليم طلب الانضمام إلى الحلف في مايو/أيار من العام الماضي، لم يكن الرأي العام مؤيداً بنسبة كبيرة. لكن، بضعة أيام فقط كانت كفيلة بتزايد مبررات العضوية، لإقناع نحو نصف الشعب بالعضوية الضرورية لبلدهم في "الناتو".
وبينما كان السجال دائراً حيال تمرير برلمانَي تركيا والمجر عضوية البلد في الحلف، لم يكن البرلمان السويدي أسرع، إذ مرر فقط في مارس/آذار الماضي اتفاقية "عضوية السويد في حلف شمال الأطلسي".
مساء أمس، 10 يوليو/تموز 2023، جاء ليثبت التغير التراكمي للخروج من حياد تبناه الملك كارل الرابع عشر في 1818، منهياً الارتباك الذي ساد على مدار نحو 9 سنوات من القلق الذي دفع السويد إلى إظهار بعض أظفار دفاعها، بتعزيز العسكرة، واستمرار الطلب من المواطنين التزود بمستلزمات الحياة لأسابيع، في حال اندلاع صراع مسلح، ودائماً الخشية من الجار الروسي.