طال انتظار أول استراتيجية رسمية للأمن القومي الأميركي في عهد الرئيس جو بايدن، الذي تسلّم منصبه رسمياً في فبراير/شباط 2021. لكن بعد حوالي 18 شهراً على وصوله إلى البيت الأبيض، والحرب الروسية في أوروبا التي تخطت النصف عام، لم تحُد الاستراتيجية، التي كُشف النقاب عنها أول من أمس الأربعاء، عن التوقعات "القومية" التي رافقت وصول بايدن إلى السلطة، بأن الصين ستتصدر أولويات الإدارة الأميركية الحالية، وربما إدارات كثيرة ستأتي بعدها، مع عودةٍ مركزية إلى استراتيجية الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما "الانعطافة شرقاً".
وما يؤكد ذلك، "ضعف" أداء الجيش الروسي في غزوه لأوكرانيا، ما يبقي على الصين التهديد الأول للهيمنة الأميركية في نظام عالمي جديد، انتهت معه "حقبة ما بعد الحرب الباردة". ويبدو التهديد الروسي، وفق الاستراتيجية الأميركية الجديدة، "هزيلاً" أمام حجم "القدرات" الصينية.
وحملت الاستراتيجية أيضاً كلمات مفتاحية، وهي تقول، على بعد أيام قليلة من مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني (16 أكتوبر/تشرين الأول)، والذي سيشهد على الأرجح تمديداً لولاية الرئيس شي جين بينغ، إن العقد الحالي سيكون مفصلياً بالنسبة لأميركا وحلفائها، في مقابل الدول المنافسة، وعلى رأسها الصين.
وثيقة الأمن القومي: روسيا لا تزال شديدة الخطورة
وإذ تجد الولايات المتحدة التحديات العالمية كثيرة ومتشعبة، من تغير المناخ إلى التضخم، إلا أن الصراع بين الديمقراطية والأنظمة التسلطية، أي ضمناً الصين وروسيا، هو عنوان المرحلة المقبلة، التي تؤرخ "انتهاء حقبة ما بعد الحرب الباردة". وتطرح الاستراتيجية، تساؤلات عدة، عما إذا كان بإمكان أميركا، المصّرة على قيادة العالم، التوفيق بين مواجهة كل هذه التحديات، أو ما إذا كانت التكلفة التي تدفعها في الحرب الأوكرانية مع حلفائها، من تسليح لكييف، قد تستنفدها هي والحلفاء على المدى الطويل، أو تجعلها تحيد عن هدفها الأساسي.
الأولوية للتفوق على الصين
وطرح البيت الأبيض، أول من أمس، استراتيجيته للأمن القومي، وقال فيها إن الولايات المتحدة ستعطي الأولوية للتفوق على الصين، التي تعتبرها منافسها العالمي الوحيد، في وقت تعمل أيضاً على كبح جماح روسيا "الخطرة". ورغم الحرب المستعرة في أوروبا، والغزو الروسي الذي أفضى إلى أكبر عملية تسليح غربية (لأوكرانيا) في القارة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إلا أن وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأميركية (48 صفحة)، والتي تأخر طرحها تحديداً بسبب أزمة أوكرانيا، لم تتضمن أي تحولات كبرى في عقيدة بايدن، منذ وصوله للسلطة.
وترى الوثيقة أن روسيا لا تزال "خطرة"، إلا أن التركيز على الصين يظلّ يطبع هذه الاستراتيجية، في ظلّ التفريق الأميركي بين الدولة "القادرة"، وغير القادرة، لا سيما بعدما كشفت الحرب في أوكرانيا عن ثغرات جوهرية في القوة العسكرية الروسية.
ولا يفسّر البعد العسكري وحده التوجه الأميركي للتركيز على الصين، إذ يتصدر التنافس الاقتصادي بين القوتين اهتمام كل النخب الأميركية. وتسعى الوثيقة إلى إبراز مدى الاهتمام الأميركي باحتواء صعود الصين، بالتعاون مع "الحلفاء"، بعدما أعادت إدارة بايدن تنشيط وتعزيز التحالفات في منطقة المحيطين الهادئ والهندي، مع أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية وتحالف "كواد" الرباعي، بينها وبين الهند وأستراليا واليابان، وتحالف "أوكوس" النووي مع أستراليا وبريطانيا.
وجاء في الوثيقة أنه حتى بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، تمثل الصين التحدي الأكثر أهمية للنظام العالمي. وتتقاطع جميع التحديات التي تواجه العالم، من منظور أميركي، مع التحدي الصيني. فالولايات المتحدة والصين مختلفتان في إدارة كل شيء تقريباً، من تغير المناخ، والعولمة، والتحديات الصحية والجرثومية، ناهيك عن التنافس الاقتصادي الحاد والصراع في منطقة الهادئ - الهندي وأزمة تايوان. لكن إدارة بايدن لا ترى في كل ذلك، "مشروع حرب"، فيما كان الصينيون قد حذّروا مراراً من "حرب باردة جديدة".
عقد حاسم لأميركا والعالم
وجاء في الوثيقة أن عشرينيات القرن الحالي، ستكون "عقداً حاسماً لأميركا والعالم" للحد من الصراعات. وأكدت أن الولايات المتحدة "ستعطي الأولوية للحفاظ على أفضلية تنافسية دائمة على الصين، مع تقييد روسيا التي لا تزال شديدة الخطورة". وأضافت أن "التحدي الاستراتيجي الأكثر إلحاحاً الذي يواجه رؤيتنا، مصدره القوى التي تجمع بين الحكم الاستبدادي وسياسة خارجية تحريفية".
وأضافت الوثيقة أن روسيا في عهد فلاديمير بوتين "تشكل تهديداً مباشراً للنظام الدولي الحرّ والمفتوح، وتنتهك بشكل متهور القوانين الأساسية للنظام الدولي، كما أظهرت حربها العدوانية الوحشية ضد أوكرانيا". أما "الصين، فهي المنافس الوحيد الذي لديه نيّة لإعادة تشكيل النظام الدولي وتملك بشكل متزايد القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية لذلك". ووصفت الاستراتيجية التنافس مع الصين كأكثر "التحديات الجيوسياسية أهمية" بالنسبة للولايات المتحدة التي تواجهها في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
جيك سوليفان: حقبة ما بعد الحرب الباردة انتهت، والمنافسة جارية بين القوى الكبرى لتشكيل ما سيأتي لاحقاً
ومستعيدة الكثير من مصطلحات إدارة بايدن، ومنها الصراع بين الديمقراطية والديكتاتورية، تضع الاستراتيجية المعلنة أولويات الأمن القومي الأميركي في خانتين: المنافسة بين الديمقراطيات والدول الأوتوقراطية، والتحديات المشتركة العابرة للدول، كالتغير المناخي. وبينما لدى الصين النيّة لإعادة تشكيل النظام الدولي، فإن "حرب روسيا الوحشية وغير المبرّرة على أوكرانيا، ضربت السلام في أوروبا وأثّرت على الاستقرار في كل مكان". ورأت الوثيقة أن "المستبدين يبذلون جهوداً إضافية لتقويض الديمقراطية وتصدير نموذج حكم عنوانه القمع في الداخل والإكراه في الخارج".
وبعد ساعات من إطلاق الوثيقة، أعلن مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض جيك سوليفان، من جامعة جورجتاون، أن "حقبة ما بعد الحرب الباردة انتهت، والمنافسة جارية بين القوى الكبرى لتشكيل ما سيأتي لاحقاً". وأوضح سوليفان أن "الصين عاقدة العزم وقادرة بشكل متزايد، على إعادة تشكيل النظام العالمي لصالح نظام من شأنه أن يميل الساحة العالمية لما فيه صالحه، حتى وإن بقيت الولايات المتحدة ملتزمة بإدارة المنافسة بين دولتينا بشكل مسؤول".
ورأى أن "العقد الحالي مصيري، سواء لتحديد قواعد المنافسة، خصوصاً مع الصين، كما للتعامل مع التحديات الكبرى". وأشار سوليفان إلى أن الاختلافات مع بكين هي أيضاً حول إدارة التحديات العالمية المشتركة، وهي: التغير المناخي، انعدام الأمن الغذائي، الأمراض، الإرهاب، التحول إلى الطاقة البديلة، والتضخم. ومثالاً على ذلك قالت الوثيقة: إن "المنافسة الجيوسياسية تُغيّر، وغالباً تُعقّد، المقاربة لمعالجة التحديات المشتركة، كما أن هذه التحديات غالباً ما تُفاقم المنافسة الاقتصادية، كما رأينا خلال المراحل الأولى من انتشار كورونا عندما رفض الحزب الشيوعي الصيني التعاون مع المجتمع الدولي".
ورغم نفي بكين المتكرر سعيها للهيمنة، ترى الوثيقة أن لدى الصين "طموحات لإنشاء مجال نفوذ معزّز في المحيطين الهندي والهادئ وأن تصبح القوة الرائدة في العالم". كما ربط البيت الأبيض الصين الصاعدة بتعهدات بايدن إعطاء الأولوية للطبقة الوسطى في الولايات المتحدة، والقيام باستثمارات في الداخل، قائلاً إن بكين تسعى إلى جعل العالم يعتمد على اقتصادها مع الحد من الوصول إلى سوقها التي يزيد عدد مستهلكيها عن مليار شخص. لكن سوليفان شدّد على أن بلاده "لا تسعى لقلب المنافسة إلى مواجهة أو حرب باردة جديدة، ولا نعتبر أي دولة مجرد ساحة معركة بالوكالة".
إلى ذلك، تبدو الولايات المتحدة في الوثيقة، بمثابة "الركيزة الأساسية" للتغلب على كل هذه التحديات، وأبرزها مواجهة "الدول الاستبدادية". وهي ترى أنه لهذا الهدف، لا بد لها "أن تفوز بسباق التسلح الاقتصادي مع القوى العظمى".
وكان يفترض أن ترسل إدارة بايدن، استراتيجية الأمن القومي للكونغرس الأميركي، في الوقت ذاته الذي تسلّم فيه الكونغرس ميزانيتها المقترحة. ويحدث ذلك عادة في 28 مارس/آذار من كل عام. لكن سوليفان، أوضح مع الكشف عن الاستراتيجية، أن أزمة أوكرانيا أرجأت الأمر، لكنها لم "تغيّر بشكل جذري" نهج بايدن بشأن السياسة الخارجية.
ومع ذلك، فإن الحرب الروسية على أوكرانيا تركت أيضاً بصمتها على الاستراتيجية، إذ كانت بحسب سوليفان "بمثابة مثال واقعي في العمل السياسي"، معرباً عن اعتقاده بأنها "تضرب مثالاً حيّاً على العناصر الرئيسية لنهجنا: أهمية الحلفاء، أهمية التعاضد مع العالم الديمقراطي، الدفاع عن الديمقراطيات الأخرى، والقيم الديمقراطية".
إلى ذلك، لم يحل بايدن بعد، في وثيقته، بعض المناقشات المتعلقة بالسياسة الخارجية الرئيسية للولايات المتحدة، بما فيها الرسوم الجمركية على السلع الصينية التي وضعها الرئيس السابق دونالد ترامب، والتي تكلّف المستوردين الأميركيين مليارات الدولارات.
ويواجه بايدن، أيضاً، مناقشات جديدة، لم تتطرق إليها الاستراتيجية، وكانت ظهرت بشدة بسبب أفعال روسيا، ومن بينها توتر العلاقات مع السعودية، الحليف المهم لواشنطن في منطقة الشرق الأوسط، لاسيما بعد تخفيض مجموعة "أوبك +" إنتاج النفط أخيراً، ما سيرفع أسعار المحروقات في الولايات المتحدة، قبيل الانتخابات النصفية للكونغرس، واستمرار اعتماد الهند على الطاقة الروسية.
وفي ظلّ اتفاقات التطبيع التي وقّعت بين إسرائيل ودول عربية، دعت استراتيجية الأمن القومي الأميركية إلى "شرق أوسط أكثر اندماجاً"، من شأنه أن يقلّل على المدى الطويل "مطالب الموارد" من الولايات المتحدة التي وفّرت حماية للدول المنتجة للنفط لعقود.
كما أقرّت الاستراتيجية بالحاجة إلى معالجة أوجه القصور الديمقراطية المحلية، لا سيما مع رفض ترامب الاعتراف بهزيمته في انتخابات الرئاسة التي أجريت في نوفمبر/تشرين الثاني 2020 وشنّ أنصاره هجوماً عنيفاً على مقر الكونغرس في واشنطن، في 6 يناير/كانون الثاني 2021، أدى إلى سقوط قتلى.
وقال نصّ الوثيقة: "لم نرتق دائماً لمثلنا العليا، وفي السنوات الأخيرة تعرضت ديمقراطيتنا للتحدي من الداخل. لكننا لم نتخل أبداً عن مثلنا العليا". ووصفت الوثيقة التغير المناخي بأنه "التحدي الوجودي في هذا العصر".