غريب ما حدث في تونس يوم الجمعة الماضي، في مقبرة الشهداء وسط العاصمة إحياء لذكراهم، مع لقاء الرؤساء الثلاثة، رئيس الجمهورية قيس سعيّد ورئيس البرلمان راشد الغنوشي ورئيس الحكومة هشام المشيشي، ليتابع التونسيون باندهاش سقوطاً جديداً لمفهوم الدولة وتدنياً للسلطة وصل إلى حد التنابز في المقبرة حيث دُفن شهداء ضحوا بحياتهم من أجل كرامة هذا البلد. مضى شهران ونصف منذ التقى الثلاثة معاً، ليفاجئهم سعيّد بعد هذه المدة برسم كاريكاتوري يحمّل مسؤولية مرض البلاد للحكومة والبرلمان، وهو بريء من ذلك ولا يحمل وزراً، وكأن لا مكان للتنابز بعيداً عن أعين الناس، أو أن هذه النقطة التي سُجلت في مرمى الحكومة ستخلّص الناس من مشاكلهم.
ولئن اعتدنا على إطلالات سعيّد وتقليعاته، فإن ما حدث بعد ذلك كان أخطر ودل بما لا يدع مجالاً للشك على أن البلاد لم تعد على حافة الهاوية وإنما سقطت فيها وانتهى الأمر، إذ طلب سعيّد من المشيشي مراجعة توقيت حجر التجول ليلاً، ورد الأخير بأن القرار هو قرار اللجنة العلمية، ليذكّره سعيّد بأن اللجنة العلمية تقترح فقط والقرار سياسي. وبالفعل خرج المشيشي ليقول للتونسيين إنّه ستتم إعادة النظر في قرار توقيت حظر التجوّل بعد طلب رئيس الجمهورية، وهو ما حدث بالفعل. وأوضح المشيشي أنّ "الإجراءات الوقائية التي تم اتخاذها وأعلنت عنها رئاسة الحكومة في البداية هي إجراءات حددتها الوضعية الوبائية الصعبة جداً التي تمرّ بها البلاد"، مشيراً إلى أنّ فيروس كورونا بصدد الانتشار بطريقة كبيرة جداً، كما أنّ هناك ضغطاً كبيراً على أسرّة الإنعاش وبصفة عامة على المؤسسات الاستشفائية.
تدفع هذه التطورات إلى الاستغراب، وتؤكد أن الدولة التونسية تترنح وستسقط حتماً إذا تواصلت هذه الغيبوبة، لأن سعيّد نسي أنه استقبل اللجنة العلمية مطلع هذا العام، وأكد أن "القرارات والإجراءات التي يجب اتخاذها هي إجراءات عاجلة ولا تخضع إلا للمقاييس العلمية التي يحددها الأطباء والمختصون"، أما اليوم فيمكن تجاهلها. ولكن الخطأ الأكبر ارتكبه رئيس الحكومة، فإذا كان قرار اللجنة صائباً كما يقول وبُني على معطيات علمية دقيقة ووضع وبائي كارثي، فماذا يعني أن يخرج للناس ويقول إن القرار سيُراجَع بطلب من الرئيس، يعني تحميله المسؤولية إذا ساءت الأمور؟ وإذا مات في الأثناء تونسيون؟ هل وصل الأمر بالدولة إلى هذا الحد؟