أصدر الرئيس التونسي قيس سعيّد ثلاثة مراسيم وصفها بالتاريخية. اختار عيد الاستقلال للقيام بذلك. وحتى يضفي على الحدث مزيداً من الأبعاد الرمزية، اختار أن يوقّع على هذه المراسيم فوق طاولة قيل له إنها نفس الطاولة التي شهدت إمضاء الباي (حاكم تونس محمد الصادق باي)، على معاهدة "الحماية" التي بمقتضاها تم احتلال تونس من قبل فرنسا.
كما شهدت نفس الطاولة توقيع الرئيس السابق الحبيب بورقيبة على وثيقة الجلاء الزراعي (استرجاع الأراضي الفلاحية التي كانت مستغلة من طرف الفرنسيين). فهل ترتقي هذه المراسيم إلى هذا المستوى من الأهمية؟ وهل ستُحدث حقاً منعرجاً في حاضر البلاد ومستقبلها؟
انتقادات للمراسيم الثلاثة التي أصدرها قيس سعيّد
اختارت رئاسة الجمهورية في المرسوم رقم 14 أسلوب الردع وتسليط أقصى العقوبات في حملتها ضد ظاهرة الاحتكار التي تفشت أخيراً في تونس. وتضمن المرسوم أحكاماً تصل إلى إبقاء المحكوم عليه مدى الحياة داخل السجن.
وهو المرسوم الذي رحب به جزء من المواطنين، لكنه أثار في المقابل جدلاً واسعاً في صفوف السياسيين والحقوقيين الذين رأوا فيه انزلاقاً خطيراً في اتجاه الانتقام من المضاربين أو المشتبه فيهم. ولاحظوا أن المشرّع، الذي هو رئيس الجمهورية، لم يراع ضرورة التلازم بين العقوبة والجريمة، وهي قاعدة قانونية معروفة عالمياً ومعتمدة لحماية الأشخاص من التعسف.
سعيّد بقي جزءاً من الواقع الراهن، ولم ينجح في أن يتحرر ويفكر من خارج الصندوق
بل إن منظمة العفو الدولية تناولت المرسوم من زاوية أخرى، إذ رأت فيه "تهديداً خطيراً لحرية التعبير"، واعتبرته "قانوناً قمعياً"، وطالبت السلطات بالتراجع عنه وتعديله، إذ إنه "يجرم الترويج المتعمد لأخبار أو معلومات كاذبة أو غير صحيحة بما يتسبب في رفع الأسعار"، ولكنه يؤدي إلى ملاحقات قضائية "جائرة وتعسفية" ضد البعض.
وأضافت المنظمة أن القانون يشتمل على أحكام ذات صياغة مُبهمة قد تؤدي إلى سجن الأفراد لمدد تتراوح بين عشرة أعوام ومدى الحياة بما يشمل معاقبة النقاش العلني حول الاقتصاد.
بروح التشدد نفسها، تمسّك رئيس الدولة بالعودة إلى ملاحقة رجال الأعمال المتهمين بالفساد قبل الثورة وبعدها، وأصدر في هذا الشأن مرسوماً خاصاً "الصلح الجزائي"، والذي سبق أن تحدث عن مضمونه في العديد من المناسبات منذ سنة 2012، ودافع عنه بقوة خلال حملته الانتخابية.
لا يعترف المرسوم بمختلف الأحكام أو التسويات التي حصلت مع العديد من هؤلاء خلال السنوات الماضية، خاصة خلال حكم الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي. وهو ما اعتبره خبراء القانون مناقضاً لمبدأ أساسي في تحقيق العدالة، حيث لا يجوز محاكمة الشخص بنفس التهمة التي حوكم من أجلها من قبل، وصدر في شأنها حكم بات.
والمطلوب من كل واحد من هؤلاء، بمن في ذلك ورثته في حال إفلاسه أو وفاته، إنجاز مشروع اجتماعي بإحدى مناطق الجمهورية، بدءاً بتلك التي تعتبر الأكثر فقراً. وتبقى المسؤولية القانونية ملقاة على القائم بهذا المشروع مستمرة لمدة عشر سنوات. وهو ما من شأنه أن يجعل هذا الصلح الجزائي مثار جدل وتنازع لفترة طويلة.
أما المرسوم الثالث والأخير، فيتعلق بالشركات الأهلية. وهي عبارة عن تعاضديات (تعاونيات)، يؤسسها الشباب بالخصوص في كل القرى، عبر أسهم متساوية بينهم، سواء أكانت هذه الشركات زراعية أو تجارية، ويتقاسمون بعد ذلك الأرباح فيما بينهم.
هي نوع من الاشتراكية التي تتماشى مع فكرة النظام القاعدي (نظام سياسي يقوم على "البناء من الأسفل" أي من القاعدة إلى القمة) الذي يسعى الرئيس إلى إقامته في وقت قريب. فالشركات الأهلية ستكون بمثابة البُعد الاقتصادي والاجتماعي للنظام القاعدي، بعد أن ذهب الرئيس شوطاً في اتجاه التمهيد للجانب السياسي من مشروعه، إذ تمت الاستشارة الإلكترونية التي برأيه هي ناجحة "على الرغم من محاولات عرقلتها من قبل خصومه المتآمرين عليه".
وبعد ذلك سيتم الاستفتاء على نظام الحكم وعلى الدستور الجديد الذي ستعده لجنة مصغرة يتولى تنصيبها لهذا الغرض، قبل أن يختتم المسار باقتراع عام وفق قانون انتخابي يستند على الترشح الفردي، ويكون ذلك يوم 17 ديسمبر/كانون الأول المقبل.
وعلى الرغم من أن أبعاد هذه المبادرة لا يزال يكتنفها الكثير من الغموض، إلا أن معظم مكونات الطبقة السياسية والاقتصادية اعتبرتها غير كافية على الأقل لمواجهة الأزمة الحادة التي تمر بها البلاد، وهي أزمة تستوجب اتخاذ إجراءات عاجلة وأخرى ذات أبعاد استراتيجية من شأنها أن تغيّر منوال التنمية القائم منذ عشرات السنين، والذي استنفد أغراضه.
وهم يشيرون بذلك إلى أن سعيّد بقي جزءاً من الواقع الراهن، ولم ينجح في أن يتحرر ويفكر من خارج الصندوق.
هكذا اتضحت الصورة تدريجياً، إذ بعد تنفيذ هذه المراسيم يعتقد سعيّد أن البلاد ستكون قد تغيرت سياسياً واقتصادياً، من دون أن تتمكن المعارضة بمختلف آلياتها وتحالفاتها من أن تضع حداً لهذا الانقلاب الجذري في مواقع القوة والقرار.
حتى الدول ذات المصالح الاستراتيجية مع تونس، لم تتمكن حتى الآن من تعطيل هذا المسار الذي سلكه قيس سعيّد من دون رجوع إلى الخلف، على الرغم من اعتراضاتها وبياناتها وتصريحات كبار مسؤوليها.
الذين بحثوا لسعيّد عن مبررات للخطوات الأولى التي أقدم عليها، وجدوا أنفسهم في مآزق شخصية وأخلاقية حادة
اتهام قيس سعيّد بالانحراف بالسلطة
في المقابل، يقف الجميع في وادٍ على الرغم من تناقضاتهم، ويقف قيس سعيّد في وادٍ آخر. كل الأحزاب تقريباً بما فيها تلك التي لا تزال تعتبر 25 يوليو/تموز 2021 (بدء سعيّد تطبيق إجراءاته الاستثنائية) حركة تصحيحية، تناديه من مواقع مختلفة من دون أن تتمكن من إثنائه، لعدم مواصلة السير حثيثاً في هذا الطريق الخاطئ.
حتى أولئك الذين بحثوا له عن المبررات للخطوات الأولى التي أقدم عليها، وجدوا أنفسهم في مآزق شخصية وأخلاقية حادة، لهذا قرروا التوقف عن الجري وراء السراب.
من هؤلاء أستاذ القانون الدستوري، الصغير الزكراوي، والذي قال إنه "دافع بشراسة عن المسار الرئاسي"، إذ عاد ليقر أخيراً بأن المراسيم الأخيرة "وكأنها أُعدت في قبو مظلم".
وأقر بأن المرسومين الأخيرين هما "اللبنات الأولى لمشروع الرئيس، وهو مشروع البناء القاعدي". واعتبر ذلك ليس تصحيحاً، وإنما هو "انحراف بالسلطة، ورفض للتشاركية"، مضيفاً أن الرئيس "لم يتصرف بشهامة وكرجل دولة".