رفعت موجة العنف المسلح التي تجتاح مدناً أميركية عدة، ومن بينها نيويورك، أخيراً، من تحديات الرئيس الأميركي جو بايدن، والضغوط التي يمارسها الجمهوريون عليه، تحضيراً لانتخابات الكونغرس النصفية في الخريف المقبل.
وبعد أقل من أسبوعين على مقتل شرطيين اثنين في نيويورك، بإطلاق النار، خلال استجابتهما لطلب مساعدة من أحد سكان المدينة، اعتبر بايدن، أول من أمس الخميس، أن ازدياد معدل الاضطرابات الأمنية، والقتل بعنف السلاح الفردي، بات "يكفي" للتحرك السريع لمواجهة هذه المعضلة.
لكن، وفيما يحاول الحزب المحافظ على مقربة من الانتخابات تصوير الرئيس الديمقراطي بأنه ضعيف، لا تبدو يد الأخير طليقة في هذا الملف تحديداً لفعل الكثير، في ظل صدّ الجمهوريين لأي محاولة في الكونغرس، لتقييد حمل السلاح الفردي، أو تقليص تمويل الشرطة، وهما ورقتاهما الرابحتان، لصالح برامج تنموية في الولايات.
انخفضت نسبة التأييد لأداء بايدن في المجال الأمني
وقد يكون بايدن نفسه قد تراجع عن تقليص تمويل الشرطة، وهو مطلب أساسي لحراك "حياة السود مهمة"، لصالح أفكار أكثر ليناً يريد تمريرها رئيس بلدية نيويورك الجديد، الديمقراطي إريك آدامز، والذي يزداد حضوراً على المستوى السياسي.
وإذ تبدو المعضلة منغرسة بعمق في إشكاليات اجتماعية بخصائص أميركية، ومنها تقاطع العمل الشرطي مع كل الإسقاطات التي تنسحب على الأقليات في البلاد، سيكون من الصعب على بايدن تحقيق اختراق في هذا الملف الذي يرثه عن أسلافه، في وقت يتواصل تراجع التأييد الشعبي له، وبالتراجع أكثر إذا ما ارتبط بتقييم الأميركيين لأدائه على الصعيد الأمني.
بايدن مُلام مع تصاعد عنف السلاح
وحمل الرئيس الأميركي أول من أمس، بشدة، على موجة العنف المسلح التي تجتاح نيويورك ومدناً كبيرة أخرى في البلاد، متعهداً ببذل مزيد من الجهود ضد الجريمة. وقال بايدن، في نيويورك، أمام مائة مسؤول في مقر الشرطة: "كفى، لأننا نعلم أنه يمكننا فعل شيء حيال ذلك".
ودعا إلى "تطبيق استراتيجية شاملة لمكافحة جرائم الأسلحة النارية في مدن مثل نيويورك وفيلادلفيا وأتلانتا"، معترفاً بأن السلطات الفيدرالية يجب أن تبذل جهوداً أكبر ضد انتشار الأسلحة غير المسجلة والاتجار غير المشروع الواسع بها.
وحصل الاجتماع بدعوة من رئيس بلدية نيويورك الجديد، إريك آدامز، الأميركي من أصل أفريقي الذي يدعم تبني خطّ متشدد ضد الجريمة. ويخضع آدامز، وهو شرطي سابق، لضغوط، منذ تولي منصبه في بداية 2022، لا سيما بعد مقتل ضابطين من شرطة نيويورك في 21 يناير/كانون الثاني الماضي، برصاص رجل مسلح في ضاحية هارلم (مانهاتن).
وعبّر آدامز عن أسفه لأن الحكومة الفيدرالية والسلطات المحلية لم "تتبن ضد العنف المسلح نهجاً يشبه أسلوب الرد على أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001" الإرهابية. كما دعا إلى تعاون أفضل بين هيئتي الشرطة والقضاء، وإلى إصلاح القضاء الجزائي في البلاد.
وكانت مدن أميركية عدة قد سجّلت العام الماضي، أرقاماً قياسية في عدد جرائم القتل والنهب، مع سقوط أطفال قتلى بالرصاص الطائش وعدد كبير من الضحايا في حوادث إطلاق نار. وتهيمن هذه الحوادث على الأخبار في البلاد، وتؤثر بشدة على مزاج الناخب الأميركي.
وأشار استطلاع رأي أجراه معهد "إيبسوس" لحساب شبكة "ايه بي سي" في ديسمبر/كانون الأول الماضي، إلى أن نسبة الأميركيين الراضين عن أداء بايدن في مجال الأمن انخفضت من 43 في المائة في أكتوبر/تشرين الأول 2021، إلى 36 في المائة. لكن باعتراف الجميع، فإن موجة العنف كانت تصاعدت قبل وصول بايدن إلى السلطة نتيجة لتداعيات وباء كورونا التي أضعفت النسيج الاجتماعي.
من جهتهم، يتهم بعض الجمهوريين الرئيس الديمقراطي بتجاهل تصاعد الجريمة، والرغبة في اقتطاع موارد الشرطة قبل انتخابات الكونغرس النصفية (نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل). لكن إريك آدامز يريد على العكس زيادة ميزانية شرطة نيويورك التي تضم 36 ألف شرطي و19 ألف موظف. كما أكد بايدن نفسه الخميس أن "الرد ليس قطع التمويل عن الشرطة".
وكان آدامز أعلن في نهاية يناير الماضي استئناف دوريات الشرطة بملابس مدنية، في نيويورك، وهي فرق مثيرة للجدل ألغاها سلفه اليساري بيل دي بلازيو في 2020 بعد مقتل المواطن من أصول أفريقية جورج فلويد، على يد ضابط الشرطة ديريك شوفين في مينيابوليس.
أرقام قياسية في عدد الجرائم في أميركا
ومنذ مطلع العام الحالي، تعرض 6 من عناصر الشرطة في ولاية نيويورك لإطلاق نار، وهم من بين قرابة 36 عنصراً تعرضوا لإطلاق نار على مستوى البلاد الشهر الماضي، بحسب "مركز أرشيف عنف السلاح". وقد سجلت الجرائم الكبيرة ارتفاعاً بنسبة 38 في المائة خلال العام الحالي، حتى الآن، بما يعكس زيادة في معظم المناطق الحضرية الكبرى.
وأظهرت دراسة أجراها "مجلس العدالة الجنائية"، أن الجرائم في 22 مدينة أميركية ارتفعت بنسبة 22 في المائة في 2021 مقارنة بـ2020، وبنسبة 44 في المائة مقارنة بعام 2019.
يتهم بعض الجمهوريين الرئيس الديمقراطي بالرغبة في اقتطاع موارد الشرطة قبل انتخابات الكونغرس النصفية
ويرجع خبراء موجة الجريمة، التي تُظهر على الرغم من ذلك أن المدن الأميركية لا تزال اليوم أكثر أمناً مما كانت عليه في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، إلى مزيج من الاضطرابات الاجتماعية المرتبطة بوباء كورونا وتداعيات عمليات توقيف فاشلة قتل فيها أشخاص من المواطنين السود أو أصيبوا بجروح بالغة، على قوات الشرطة.
غير أن المسؤولية تُلقى بشكل متزايد على بايدن. ويتعرض الرئيس الأميركي لضغوط ليس فقط من اليمين، إنما أيضاً من اليسار الذي يطالب بإصلاح الشرطة، بل حتى تفكيك بعض أقسامها. ويعطي العمل مع آدامز، الرئيس، فرصة لإثبات قدرته على سلوك المسار الصعب الفاصل بين أنصاره اليساريين ومنتقديه من اليمين.
وفي هذا الإطار، ناقش الرئيس الأميركي أول من أمس، "استراتيجية شاملة لمكافحة الجريمة المرتبطة بالسلاح"، بحسب ما أعلنه البيت الأبيض، وهو ما يتضمن "مستويات تمويل قياسية لمدن وولايات لوضع مزيد من عناصر الشرطة في الخدمة والاستثمار في برامج منع أعمال العنف في المجتمعات والتصدي لها، إضافة إلى تعزيز الجهود الفيدرالية لتطبيق القانون في مواجهة مهربي الأسلحة غير الشرعيين". وأوضحت شبكة "سي أن أن"، أن ذلك يشكل الحل الوسط في ما بات يعرف بـ"تمويل خطة الإنقاذ الأميركية لمنع الجريمة".
(العربي الجديد، فرانس برس)