توفي الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان، مساء الأربعاء، داخل منزله جراء إصابته بفيروس كورونا عن 94 عاماً، بعدما كان قد أُدخل إلى المستشفى مرات عديدة خلال الأسابيع الماضية، فيما كان آخر ظهور علني له خلال مراسم جنازة خصمه اللدود، الرئيس الراحل جاك شيراك في 30 سبتمبر/ أيلول 2019.
وخلال فترة ولايته التي دامت 7 سنوات (1974-1981)، قام جيسكار ديستان بتحديث فرنسا كثيراً، وعُرف عهده بعهد الإصلاحات، بما في ذلك خفض سنّ الاقتراع من 22 إلى 18 عاماً، وألغى تجريم الإجهاض، لكن قبل كل ذلك خاض مسيرة سياسية في غاية الإثارة منذ دخوله المعترك السياسي في 1959، وحتى ما بعد خروجه من قصر الإليزيه.
نهاية عهد ديغول
ينظر إلى جيسكار ديستان على أنه خائن للديغولية، عندما رفض التصويت بـ"نعم" في استفتاء التعديلات الدستورية عام 1969، ما أدى إلى استقالة الجنرال شارل ديغول من منصبه، وكان آنذاك قد أنشأ نواة قوة سياسية ستصبح مجموعة الجمهوريين المستقلين، الذين شكلوا المكون الثاني من الأغلبية اليمينية.
خلال عهد ديغول، شغل ديستان منصب وزير الاقتصاد عام 1962 في حكومة جورج بومبيدو، لكنه استقال عام 1966 بعد فشل خطة وضعها لانتشال فرنسا، التي كانت تغرق في البطالة والتضخم، لكن ذلك لم يقطع حبال الود بينه وبين بومبيدو، عندما أصبح الأخير رئيساً للجمهورية بفضل دعم جيسكار دستان له، ليخلف ديغول المستقيل، فكافأه بومبيدو بتعيينه مجدداً وزيراً للاقتصاد، وهو منصب سيشغله إلى حين وفاة بومبيدو في إبريل/ نيسان 1974.
وكان جيسكار ديستان جريئاً بما يكفي ليتحدث عن مرض الرئيس بومبيدو، أحد أكبر الأسرار التي حاول الأطباء إبقاءها داخل قصر الإليزيه، إذ قال خلال استضافته في برنامج "ضحكة واحدة في اليوم"، إن حالة الرئيس الصحية تتراجع، ما سيجعل أمر إخفاء مرضه، الذي كان مجهولاً حتى بالنسبة إلى زوجة بومبيدو، أمراً مستحيلاً بعد الآن.
من "الديغولية النقية إلى اليمين الخالص"
من مدينة ديجون، عاصمة بورغون وسط شرق فرنسا، أطلق فاليري جيسكار ديستان، البالغ من العمر آنذاك 48 عاماً، حملته الانتخابية لرئاسة الجمهورية خلفاً لبومبيدو.
وفي قاعة قصر المؤتمرات، أطلق المرشح الأصغر بتاريخ فرنسا للانتخابات الرئاسية برنامجه الانتخابي، وتمحور حول هدفين: "القوة والاستقلال لفرنسا، والعدالة والأمن للفرنسيين"، وكان من بين أهم مقترحاته "الانفتاح الكامل للمجتمع أمام حقوق المرأة"، و"المساواة في الحقوق الاجتماعية لجميع الفرنسيين"، الأمر الذي سيداعب مسامع الفرنسيين، خاصة أن الرجل يمتلك كاريزما شخصية ومقدرة خطابية كبيرة، ما سيمكّنه من جمع آلاف الناس في كل مرة يظهر فيها ليتحدث في مكان عام.
في خضمّ السباق الانتخابي، ووسط حالة من السحر التي أسقطها جيسكار ديستان على الفرنسيين، سيكون الأديب بيير بورجيد أحد القلائل الذين تجرأوا على السير عكس التيار. وفي مايو/أيار عام 1974، نشر بورجيد مقالاً في "لوموند" قبل يوم من بدء التصويت للجولة الثانية من الانتخابات، وكان يتنافس فيها جيسكار ديستان مع الاشتراكي فرانسوا ميتران، قال فيه: "إذا جرى التصويت للسيد جيسكار ديستان، فسيقلبون الأمور رأساً على عقب، سيتضح كيف يمكن، باسم ديغول، إنكار ديغول، وكيف سيكون من الممكن، باسم التكتيكات السياسية، الانتقال من ديغولية نقية وقاسية إلى اليمين الخالص".
الديغوليون يتغاضون عن الماضي
وعلى رغم قساوة ما فعله جيسكار ديستان مع الجنرال ديغول، إلا أن ذلك بالنسبة إلى الديغوليين لم يكن أقسى من أن يصل مرشح الاشتراكيين فرانسوا ميتران إلى السلطة. آنذاك، كان الديغوليون قد رشحوا جاك شابان دلماس، عمدة مدينة بوردو، لينافس في هذه الانتخابات، لكن سحر جيسكار ديستان كان قد أدى مفعوله على القاعدة الانتخابية للديغوليين، وهذا المشهد وصفه الصحافي الفرنسي بيير بيرو في "ميديا بارت"، في مقاربة انتخابات عام 1974 مع انتخابات عام 2017، بالقول: "إن جيسكار ديستان كان يُظهر ذكاءه لإبراز غباء الآخرين (..) إنه أمر محض وبسيط، كما فعل إيمانويل ماكرون لاحقاً مع فرانسوا هولاند، كان ديستان مصاص دماء السيد من طريق إغواء ناخبيه".
على رغم قساوة ما فعله جيسكار ديستان مع الجنرال ديغول، إلا أن ذلك بالنسبة إلى الديغوليين لم يكن أقسى من أن يصل مرشح الاشتراكيين فرانسوا ميتران إلى السلطة
وبالفعل، مع اقتناع الديغوليين بضعف مرشحهم وانعدام فرصه في منافسة ديستان وميتران، ظهر جاك شيراك، الديغولي الشاب، وكان آنذاك وزيراً للداخلية في عهد بومبيدو، ليضع أصوات الديغوليين في صندوق جيسكار ديستان، فكافأه الأخير بتعيينه فور توليه مقاليد الحكم رئيساً للوزراء، ومنذ ذلك الحين سيصبح ما فعله شيراك واحدة من أشهر قصص الخيانة في تاريخ السياسة الفرنسية.
مجلة لكسبرس، في 6 مايو/ أيار 1974، روت "كيف قام ذئب شاب يدعى شيراك بإفشال الترشح الديغولي لجاك شابان-دلماس، وحشد المعسكر للفائز المستقبلي جيسكار"، وشيراك كان أحد "الشباب الذين صعدوا في سلم السياسة مبكراً وعالياً تحت جناح جورج بومبيدو (..) نشأوا باستخدام الأرقام والإحصاءات، ولم يكن لديهم ذكريات يعترف بها المحاربون الديغوليون".
بيد أن تلك العلاقة الغريبة التي جمعت شيراك الديغولي، مع الرئيس الجمهوري الجديد لن تدوم طويلاً، بل ستصبح مجرد استراحة في رحلة عداوة دامت 50 عاماً يوم وفاة شيراك، المتهم بدعمه لميتران في انتخابات عام 1981، ما سبّب هزيمة جيسكار ديستان.
وعلى عكس الزخم الذي رافق الولاية الأولى، عجز عن الفوز بولاية ثانية في عام 1981، لينتقل بعدها إلى مواصلة العمل السياسي في البرلمان الفرنسي والأوروبي، لكن قرار اعتزال العمل السياسي جاء بعد خسارته في الانتخابات عام 2004.
لم يكن يحب ماكرون
لم يُخفِ جيسكار ديستان مشاعره يوماً تجاه الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون منذ وصوله إلى الإليزيه عام 2017، الذي جرّده من لقب أصغر رئيس فرنسي. فبالنسبة إليه، هو "صغير جداً، ويملك القليل من الخبرة"، متجاهلاً السياق المشابه جداً لمسيرتهما السياسية، إذ بينما استغرق ديستان 15 عاماً من العمل السياسي للوصول إلى منصب الرئاسة، نجح ماكرون بذلك في غضون 15 شهراً، وبينما صنع الأول أمجاده على ظهر الرئيس المشلول جسدياً جورج بومبيدو، فعل الثاني الأمر عينه، وصعد على ظهر فرانسوا هولاند المشلول سياسياً.
ولعل أوضح ما عبّر عنه جيسكار ديستان تجاه ماكرون، كان خلال مقابلته على إذاعة "أوروبا 1" في 18 أكتوبر/ تشرين الأول عام 2018، عندما نصح الرئيس المحتفل للتوّ بعيد ميلاده الأربعين بأن يهدأ قليلاً، فـ"إذا كنت ترغب في الحصول على نتائج، عليك التحدث بوضوح. عليك أن تحافظ على هدوئك تماماً". وأضاف: "هناك مثل صيني يقول: عندما يكون الإمبراطور مضطرباً، يمرض الناس".
ثم عاد ليجدد نصائحه، مع انتقادات أقسى في يونيو/ حزيران الماضي، عندما قال، في مقابلة على إذاعة "آر تي إل"، إن "إيمانويل ماكرون، يدعي أن الجنرال ديغول مثال بالنسبة إليه، لكن هل هناك جزء من الديغولية فيه؟ لا أعتقد ذلك. الجنرال ديغول كان جندياً ذا ثقافة عسكرية، وكان على وجه الخصوص قد وافق على دستور لا يحترمه ماكرون حالياً"، متهماً إياه بأنه يقوّض صلاحيات رئيس الوزراء المستقيل إدوارد فيليب، "وهو شخص جيد".
أوروبا والتعاون الدولي
وبقدر ما يتذكر الفرنسيون الكثير من مواقفه في الشأن الداخلي، فإنهم لطالما كانوا ينظرون إليه على أنه مؤيد للوحدة الأوروبية، منذ التعاون الوثيق مع المستشار الألماني هيلموت شميدت في الدفع نحو الاتحاد النقدي. ولهذا السبب، لم يتردد في قبول تولي رئاسة المؤتمر الأوروبي الذي وضع مشروع دستور أوروبي موحّد، لكنّه لم يعتمد. كذلك وصفته "فرانس برس" بأنه الأب المؤسّس لمجموعة السبع، إذ إنّ قادة هذا النادي الذي يضمّ الدول الصناعية الأغنى في العالم اجتمعوا للمرة الأولى في 1975 بدعوة منه، في قمّة سرعان ما أصبحت موعداً سنوياً.
جملة الوداع الأسطورية
قريبٌ من الفرنسيين، محب لكرة القدم وللفن عموماً، والموسيقى بشكل خاص، عازف بيانو وأكورديون، الآلة التي كثيراً ما ارتبطت باسمه؛ كل تلك الصور لا ينساها الفرنسيون، لكن أكثر تلك الصور رمزية كانت كلمته الشهيرة: "وداعاً"، التي جعلت رحيله عن قصر الإليزيه وداعاً أسطورياً، تاركاً كرسيه فارغاً أمام الذين شاهدوا خطاب وداعه.
ذلك الوداع المؤثر أعاد الحديث عنه في المجلد الـ3 من مذكراته (السلطة والحياة)، التي نشرت عام 2006، وقال فيها: "حتماً، لا الديكور ولا النص، كانا محاولة للمبالغة أو إضفاء نوع من الميلودراما على الخطاب (..) ربما كان هذا المشهد قد سبّب الألم لبعض أولئك الذين شاهدوني. ربما لم يكن عليّ أن أدير ظهري لهم بعد أن نظرت إليهم بالعيون عام 1974؟".