تحدث الرئيس الأميركي جو بايدن، الخميس، مطولاً عن قراره الانسحاب من أفغانستان والسرعة الجاري فيها تنفيذه. مؤتمره الصحافي الذي خصّصه لهذا الموضوع، والذي ردّ خلاله على أسئلة أكثر من أي مرة سابقة، جاء وسط تزايد التشكيك بصوابية خطوته، والتحذيرات من عواقبها، الأفغانية والأمنية والاستراتيجية. المسوغات التي سبق وقدّمها في هذا الخصوص، لم تكن كافية لحسم الجدل حول الموضوع، ناهيك عن الاصطفاف وراء قراره. مسألة الانسحاب، المفترض وفق حساباته أن تتحول إلى إضافة في رصيده، بدأت تتسبب له بـ"وجع رأس".
في الآونة الأخيرة، توسعت دائرة المتخوفين من تبعات المغادرة الأقرب إلى "الهرولة"، وتسجيل المآخذ على القرار "المتسرّع". لذلك، كانت عودة الرئيس أمس إلى حيثياته التي شرحها بصورة مفصلة، معززة بالأرقام والمبررات المبنية على تجربة العقدين الأخيرين في أفغانستان، علّها توقف الإدانة المسبقة لقراره. مطالعته المستندة إلى وقائع عنيدة، والتي قدّمها من زاوية الحرص على وقف النزف المزمن والمسدود الأفق، تحظى بالتفهم. المفارقة أنها لا تساعده على تسويق نفض اليد من تداعيات وعواقب الانسحاب.
طوال المؤتمر الصحافي، بقي الرئيس في موقف الدفاع. استعان بأرقام الكلفة البشرية والمالية العالية لتعزيز حجته. شدد على أهمية قراره من ناحية أنه وضع نهاية "لأطول حرب" أميركية، لن يقبل أن يقوم بزج "جيل أميركي جديد" في أتونها. وأضاف أن تمديدها "ليس الحل"، بقدر ما هو وصفة "لحرب مفتوحة". وإذا كانت المهمة دفاعية، فإن لدى أفغانستان "قوة عسكرية كبيرة من 300 ألف رجل"، يمكنها الدفاع عن البلاد "إذا ما توفر التماسك في قيادة البلد"، ولا سيما أن أميركا "حققت غرضها فيه"، من خلال الإطاحة بـ"طالبان"، وأن مهمتها فيه "لم تكن لبناء الدولة".
وذكّر بأن أفغانستان "استعصت على إمبراطوريات سابقاً، ولم تكن مرة موحدة". خطاب موجه للأميركي العادي الذي يستسيغ هذه اللغة، بقدر ما كان مصمماً على إزالة أي اعتقاد بأن قراره كان بمثابة هروب يحاكي الرحيل الأميركي الأخير من فيتنام. ويُذكر أن مثل هذا التشبيه تردّد في أكثر من تقرير وتعليق وتحليل، خصوصاً لجهة التخلي عن "المترجمين والمتعاملين" مع القوات الأميركية من المواطنين المحليين. وهذه مسألة أثار تعاطي الإدارة معها تساؤلات وشكوكاً كثيرة، بعد التباطؤ في إصدار تأشيرات دخول هؤلاء الأشخاص - أكثر من 17 ألف أفغاني - إلى الولايات المتحدة للإقامة فيها هرباً من احتمالات ملاحقتهم من جانب "طالبان" بعد الانسحاب الأميركي. وزاد من الارتياب أن تصريحات المسؤولين في هذا الموضوع راوحت بين الغموض والتسويف، بزعم أن الجهات المختصة تنتظر صدور تشريع من الكونغرس للاستناد إليه في تخليص أوراق انتقالهم إلى أميركا. وحتى الآن، ما زال الالتباس سيد الموقف بهذا الخصوص. الرئيس بايدن قال إن لهؤلاء العناصر والعائلات "منازل في أميركا إذا أرادوا"، علماً أنه لم تصدر حتى الآن سوى "2500 تأشيرة دخول، نصف أصحابها فقط غادروا أفغانستان"، والباقي من العدد الأصلي يجري استكمال معاملاتهم لنقلهم "إلى بلدان ثالثة".
تقدّم "طالبان" بدأت الإدارة تتحسس وطأته. انعكس ذلك في إجابات المسؤولين المرتبكة عمّا يمكن أن تقوم به لو تهدّدت كابول بالسقوط. الرئيس قال إن واشنطن "لا تقوى على عمل الكثير"، بعد أن كان قد استبعد مثل هذا الاحتمال، بينما تصريح المتحدث باسم البنتاغون جون كيربي بدا خليطاً من الاندفاع والضبابية، حيث قال إن الإدارة ستقرّر في هذه الحالة "ما قد تفعله إذا انطوى مثل هذا التطور على أخطار تجاه أميركا".
ما يؤرق أصحاب المآخذ على قرار بايدن أن القوى الدولية المنافسة لواشنطن لا بد أن تقرأ هذا الانسحاب كحلقة في مسلسل انسحابي بدأ مع فيتنام، وتوالى بعدها في العراق عام 2011، ثم في شرق سورية في 2018، والذي كاد أن يتم لولا إلحاح البنتاغون على التأجيل. والآن يأتي الخروج من أفغانستان مع تلميحات بشأن مغادرة لاحقة من العراق. وفي الاعتقاد أن الصين لا بد أنها تراقب هذا التطور بدقة، لتوظيف دروسه في الصراع البارد الجاري مع واشنطن.
مراوحة حرب أفغانستان لمدة عقدين وانسداد مخارجها الميدانية والسياسية، قلّصا الخيارات حتى للمعترضين على بايدن. الكل يسلّم بأن البقاء المديد في أفغانستان غير مقبول. لكن لا أحد يملك تصوراً يتعدى تأجيل الانسحاب من دون تحديد نهايته. حتى الصقور، مثل السفير والمستشار السابق جون بولتون، ليس لديه سوى تصنيف خطوة بايدن بأنها "غلطة خطيرة بحق الأمن القومي الأميركي، وستكون لها تداعياتها المخيفة". لكن ليس لديه بديل محدد غير التمديد. "أخطاء كثيرة وقعت خلال العشرين سنة وأدت إلى مثل هذا القرار"، حسب المؤرخ كارتر مالكازيان. ومن هذه الأخطاء "الانشغال بحرب العراق".