من المتوقع أن يشهد الوضع الاقتصادي والمالي التونسي حالة انفراج، بعد التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، ستحصل بمقتضاه تونس على قرض بقيمة 1.9 مليار دولار مدته 48 شهراً.
هدف قرض صندوق النقد الدولي
ويهدف هذا القرض إلى "استعادة الاستقرار على مستوى الاقتصاد الكلي وتعزيز شبكات الحماية الاجتماعية". وما إن تم الإعلان عن هذه النتيجة حتى استعادت السلطة رئاسة وحكومة الثقة في نفسها، نظراً لحجم المخاطر التي أصبحت تواجهها البلاد بسبب قلة الموارد المالية، وتصاعد وتيرة الاحتقان الاجتماعي.
وهو ما انعكس بوضوح على شعبية الرئيس قيس سعيّد التي تراجعت خلال الفترة الأخيرة، بالتزامن مع بداية أجواء انتخابات ستفرز برلماناً جديداً وفق شروطه واختياراته. ولا حديث في تونس الآن سوى البحث عن الالتزامات التي قيّدت بها الحكومة نفسها مع صندوق النقد الدولي حتى تحصل على هذا القرض.
وهي التزامات لا يزال معظمها مجهولاً من قبل التونسيين، بمن في ذلك خبراء الاقتصاد والنقابات والقوى السياسية. وتكتمت الحكومة عن الجميع مما أوحى بكونها فعلت ذلك حتى لا تصدم هذه الأطراف بتفاصيل الإصلاحات، التي قررت الشروع في تنفيذها قبل أن تغرق السفينة.
الدولة لم تدفع حتى الآن 90 في المائة من ديونها تجاه المصارف المحلية
وهي إصلاحات أصبحت خطوطها العريضة معروفة، لكن أهميتها وربما خطورتها تكمن في تفاصيلها، إذ من المحتمل أن تتحول إلى مصدر نزاعات مفتوح على جميع الجبهات سواء مع النقابات، أو مع الجماهير التي تعبت من ارتفاع الأسعار وانهيار الخدمات وفي مقدمتها الصحة والتعليم، إلى جانب فقدان المواد الأساسية، وانعدام الرؤية وتفاقم أزمة الثقة.
تدرك الحكومة جيداً أن القرض الذي ستحصل عليه من الصندوق لن يكون كافياً لتغطية الثقوب المالية التي تواجهها، وهي كثيرة وثقيلة وموزعة على مختلف القطاعات. فالأزمة في تونس أكبر بكثير من كونها مالية فقط. الجانب المالي هو أحد الأبعاد في حين أن الأبعاد الأخرى تعتبر الأساس والأهم.
الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية هي الخلفية الغائبة في المفاوضات مع صندوق النقد الذي يملك رؤيته ومنظومته وأهدافه، في حين أن الطرف التونسي يملك طرحاً مضطرباً للقضايا، يحمل في طياته مفاهيم ومشاريع سياسات متضاربة في ما بينها، أو على الأقل غير متجانسة بين عناصرها.
ويُفهم ذلك عندما يعلن رئيس الدولة كونه غير مؤيد لعدد من قرارات الحكومة التي هو مسؤول عنها وعن اختياراتها وسياساتها. وفي مناسبات كثيرة يتعامل الرئيس مع الحكومة وكأنه ينتمي إلى المعارضة ويخاطبها بأسلوب الطرف القادم من خارج السلطة.
وبالنسبة لحكومة نجلاء بودن، يعتبر الاتفاق مع الصندوق بمثابة التأشيرة التي ستمكنها من رفع الحاجز الحديدي الذي كان يحول بين بقية مؤسسات التمويل الدولية والإقليمية وبين الاستجابة للطلبات التي تقدمت بها تونس.
المرحلة المقبلة في تونس
وبالتالي فإن الأسابيع المقبلة ستشهد تمتع تونس بقروض من مصادر عديدة لتمكينها من القيام بمشاريعها المتوقفة. وهو أمر حيوي بالنسبة لبلد يختنق. لكنْ لهذا الإسعاف وجه آخر يتعلق بحجم الديون المتصاعدة بنسق مخيف، لأن الدولة التونسية مطالبة بتسديد ديونها السابقة بفوائدها، في ظل ميزانية تعاني من عجز متفاقم.
فالدولة لم تدفع حتى الآن 90 في المائة من ديونها تجاه المصارف المحلية، وهو ما جعل القطاع المصرفي في أزمة صامتة. كما أعلن المعهد الوطني للإحصاء عن ارتفاع العجز التجاري خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الحالي إلى حدود 19.2 مليار دينار (5.86 مليارات دولار) في مقابل 11.9 مليار دينار (3.64 مليارات دولار) خلال الفترة نفسها من العام الماضي.
من جهة أخرى، يتوقع أن تخضع تونس لمراقبة لصيقة من صندوق النقد الذي سيتولى التدقيق في مختلف النفقات خلال كل ستة أشهر، وستكون أقساط القرض مرتبطة بمدى تنفيذ الإصلاحات التي وقعت عليها الحكومة. فكلما تأخرت هذه الإصلاحات أو نفذت جزئياً سيتم التوقف آلياً عن منح أقساط جديدة من القرض.
تدرك الحكومة جيداً أن القرض الذي ستحصل عليه من الصندوق لن يكون كافياً لتغطية الثقوب المالية التي تواجهها
وهذا يعني أن تونس ستصبح محكومة من قبل الصندوق. وهو ما يخشاه الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يطالب بإلحاح بالكشف عن خفايا الاتفاق، وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية والمالية والسياسية. فالبلد سيكون رهينة هذه التداعيات على أكثر من صعيد، تحديداً في هذا الظرف الذي أصبحت تمرّ به العديد من القطاعات الاستراتيجية وجعلها عرضة للانهيار مثل الحليب، والبيض، والدجاج، والأبقار، والأسمدة، والمحروقات، والأدوية.
كما بدأت هجرة بعض الشركات الكبرى، بعد أن قررت ثلاث منها مغادرة البلاد خلال الفترة الأخيرة، وهو ما جعل نقابة الصيادلة تؤكد على أن العديد من الأدوية ستُفقد من الأسواق خلال الفترة المقبلة.
ونظراً لخطورة هذه الأوضاع، قررت الولايات المتحدة بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف" تقديم مساعدات فورية لأكثر من 300 ألف من أطفال العائلات محدودة الدخل، بمساعدات فورية وبميزانية تبلغ 60 مليون دولار. فتونس تتجه نحو أن تصبح بلداً مهدداً في توازناته الاجتماعية، وتعتبر من بين خمس دول الأكثر هشاشة وعرضة لهزات عنيفة خلال المرحلة المقبلة.