يصل الرئيس التونسي قيس سعيّد إلى ليبيا، اليوم الأربعاء، في زيارة تأتي بالتزامن مع تسلم السلطة الجديدة هناك مهامها وانطلاقها نحو العمل، ووسط رغبة تونسية بإعادة ترتيب العلاقة مع الدولة الجارة، ومحاولة حجز مكان في عملية إعادة الإعمار في ليبيا، التي يرى كثيرون أنها ستنعكس إيجابياً على تونس بحال انخرطت فيها، خصوصاً في ظلّ الوضع الاقتصادي الصعب والأزمات التي يعاني منها التونسيون.
وقال بيان للرئاسة التونسية، أمس، إنّ هذه الزيارة التي تعد الأولى لرئيس تونسي منذ 2012 إلى ليبيا، تندرج في إطار "مساندة تونس للمسار الديمقراطي في ليبيا، وربط جسور التواصل وإرساء رؤى وتصورات جديدة، تعزز مسار التعاون المتميّز القائم بين الدولتين، وتؤسس لتضامن شامل يلبي التطلعات المشروعة للشعبين الشقيقين في الاستقرار والإنماء". يذكر أنّ سعيّد كان أول المهنئين بعد تشكيل الحكومة الليبية الجديدة، وقد تحادث هاتفياً مع رئيسها عبد الحميد الدبيبة، الذي تسلم السلطة رسمياً أمس، الثلاثاء، من رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق فائز السراج بحضور رئيس المجلس الرئاسي الجديد محمد المنفي، ووزير الداخلية بحكومة الوفاق فتحي باشاغا.
تسلم الدبيبة أمس السلطة رسمياً من السراج في طرابلس
وأكد سعيّد للدبيبة في المحادثة التي جرت قبل أسبوع أنّ "الخطوة التي قطعها الشعب الليبي من شأنها أن تمهد لخطوات أخرى"، معرباً عن "عزمه الصادق على فتح آفاق واسعة في كل المجالات، لا تقوم فقط على المصالح المشتركة المألوفة بين الدول، بل كذلك على الأواصر العائلية الخاصة التي تجمع بين الليبيين والتونسيين والضاربة في عمق التاريخ". بدوره، هنأ رئيس الحكومة التونسية هشام المشيشي الدبيبة، معرباً عن أمله "في أن تمثّل خطوة تشكيل الحكومة مرحلة مهمة على طريق الاستقرار السياسي والاقتصادي لليبيا".
وتشكل زيارة سعيّد اليوم إلى ليبيا خطوة مهمة للدبلوماسية التونسية التي تحاول أن تتدارك تأخرها في الملف الليبي، خصوصاً أنّ هناك تسابقاً دولياً وإقليمياً على السوق الليبية استعداداً لمرحلة إعادة الإعمار. وكانت تونس قد احتضنت جزءاً من الحوار الليبي في نهاية العام الماضي، وحاولت تناول الملف الليبي بحرص شديد وحيادية قدر الإمكان، لتفادي التورط في الخلافات الداخلية المعقدة. كما احتضنت تونس مئات الآلاف من الليبيين الذين غادروا بلدهم على مدى السنوات الماضية هرباً من الصراعات المسلحة.
وتحاول تونس أن تنسج علاقات جديدة مع حكام ليبيا الجدد، وأن يكون لها موطئ قدم في ليبيا المقبلة، خصوصاً أنها كانت أكبر الخاسرين، اقتصادياً وأمنياً، من تدهور الأوضاع في الجارة الجنوبية على مدى السنوات الماضية. وكانت دراسة للبنك الدولي قد أكدت، عام 2016، أنّ تونس تخسر من جراء الأزمة في ليبيا حوالي 800 مليون دولار سنوياً، وأن استقرار الوضع الأمني في ليبيا والانطلاق في إعادة الإعمار، سيفتحان آفاقاً كبرى أمام تونس وإمكانيات وفرصاً واسعة لاغتنامها، على غرار الاستثمار والتشغيل.
في السياق، اعتبر المحلل السياسي المختص في الشأن الليبي مهدي ثابت، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ زيارة سعيّد إلى ليبيا "تعدّ أول زيارة لرئيس دولة في العالم إلى ليبيا بعد تشكيل الحكومة الجديدة هناك، وثالث زيارة لسعيّد إلى الخارج، بعد زيارتيه إلى فرنسا والجزائر. وبالتالي، فهي مليئة بالرسائل والمضامين". وأوضح أنّ "الرسالة الأولى هي الاعتراف بالحكومة الجديدة ومباركتها، والثانية هي أن تونس معنية بالوجود في ليبيا بحكم أنها تمثل عمقها الاستراتيجي والجغرافي، فضلاً عما تعنيه ليبيا من أهمية اقتصادية بالنسبة لتونس. وحتى على الجانب الأمني، فالزيارة تأتي في إطار ترتيب علاقة مستقبلية مع ليبيا مبنية على التعاون".
تشكل زيارة سعيّد إلى ليبيا خطوة مهمة للدبلوماسية التونسية التي تحاول أن تتدارك تأخرها في الملف الليبي
وأكد ثابت أن "هناك تشابهاً بين تونس وليبيا، إذ إن البلدين يعيشان مرحلة انتقال ديمقراطي، وانتقال في المسار السياسي، وهذا مهم، لأن كل تجربة تدعم الأخرى"، مبيناً أنّ "الاستقرار في تونس مقترن باستقرار الوضع في ليبيا، وبالتالي يؤمل أن تكون هذه الزيارة التي يقوم بها أعلى هرم في السلطة، مهمة ومثمرة، خصوصاً أنها دليل على أن تونس مهتمة بالوضع الليبي وبالتعاون بين الدولتين، وهي رسالة سيلتقطها الأشقاء في ليبيا وسيتم البناء عليها". وأكد أنّ "الليبيين أيضاً يتطلعون إلى تدعيم التعاون مع تونس، والعلاقات الثنائية تتجاوز تاريخياً الحكومات".
وأضاف ثابت أنّ "تونس قصّرت في فترة ما في الملف الليبي، إذ كان يمكن أن يكون لها دور أكبر. لكن في المقابل، عملت الدبلوماسية الشعبية والحزبية، وخصوصاً حركة النهضة، على مد جسور التواصل، ووقفت ضد محاولة الانقلاب على الدولة المدنية وضد العسكرة في ليبيا، ومهدت الأرضية لعلاقة استراتيجية في المستقبل. وبالتالي، كان هناك تواصل على أعلى المستويات، وكانت تونس على مسافة واحدة من الجميع ولم تنخرط في الصراع الليبي، واعتبرت أن الحل يجب أن يكون ليبياً".
وتأمل تونس بأن يكون لها حضور مهم في الترتيبات الدولية الجديدة في المنطقة، وفي تقديم خبرتها في الانتقال السياسي للنسيج السياسي وجمعيات المجتمع المدني الليبية، والأهم أن تكون حاضرة في ملف إعادة الإعمار، حتى وإن كان ذلك عن طريق الوكالة. وفي هذا الاتجاه، يسلك المشيشي أسلوباً مختلفاً في التعاطي مع الملف الليبي، لأنّ تونس يمكن أن تشكل الحديقة الخلفية لليبيا، التي يمكن التعويل عليها من كبار المستثمرين الدوليين المفترضين في ليبيا في المرحلة المقبلة.
تأمل تونس بأن يكون لها حضور مهم في الترتيبات الدولية الجديدة في المنطقة
وتحادث المشيشي أخيراً مع عدد من المسؤولين الدوليين بشأن الملف الليبي، من روسيا وتركيا ومالطا والصين. وأكد سفير تركيا بتونس رفيق علي أونانير، خلال لقاء جمعه مع المشيشي بقصر الحكومة بالقصبة أخيراً، على ضرورة تطوير التعاون الثلاثي بين كل من تركيا وتونس وليبيا، بهدف المساهمة في إعادة إعمار الأخيرة، خاصة بعد تنصيب السلطة الجديدة.
وأجرى المشيشي، أول من أمس الإثنين، اتصالاً هاتفياً مع رئيس الوزراء الإيطالي الجديد ماريو دراغي، وتطرقا إلى ضرورة تنسيق التعاون بين البلدين في القضايا الإقليمية، وخصوصاً المسألة الليبية، عبر دعم الاستقرار السياسي في ليبيا وإنجاح عملية إعادة الإعمار في هذا البلد. بدوره، قال سفير الاتحاد الأوروبي بتونس ماركوس كورنارو، في حديث صحافي أخيراً، إنه "إذا لم تستغل تونس الفرصة، وتنشّط موانئها باتجاه طرابلس، سيأتي غيرها ليأخذ منها الفرص والمشاريع"، مشيراً إلى أنّ "إعادة الأعمار في ليبيا تشكّل فرصة كبيرة لتونس".
وقبل أيام، احتضنت مدينة صفاقس، جنوب تونس (التي تعتبر من أكثر المدن التونسية تعاملاً مع الشركات الليبية)، أعمال المنتدى الاقتصادي التونسي الليبي، بمشاركة أكثر من 200 رجل أعمال تونسي و100 رجل أعمال ليبي من قطاعات مختلفة، على غرار البناء والتجارة والصناعة والخدمات، إلى جانب عدد من الوزراء التونسيين والليبيين، ورؤساء المؤسسات الحكومية ورؤساء الغرف التجارية من مختلف المناطق الليبية.
وفي السياق، قال رئيس "المجلس الأعلى لرجال الأعمال التونسيين الليبيين" عبد الحفيظ السكروفي إنّ زيارة سعيّد إلى ليبيا "مهمة جداً في إعادة ترتيب العلاقات، وتوفير الدعم السياسي لمجالس الأعمال، من أجل تنفيذ خطتها لتطوير العلاقات الاقتصادية بين البلدين". ولفت السكروفي في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى إنّ "زيارة سعيّد على الرغم من أهميتها، إلا أنها تأخرت بعض الشيء". وأكد أنّ رجال الأعمال في ليبيا وتونس "يتطلعون إلى مرحلة تعاون جديدة"، مشيراً إلى أنّ "حصة تونس ضمن صفقات إعادة إعمار ليبيا مضمونة، وقد تصل إلى 10 مليارات دولار في السنوات المقبلة".
وأوضح السكروفي أنّ مجلس الأعمال المشترك "يتقدم في تنفيذ استراتيجية تنشيط العلاقات الاقتصادية بين تونس وجارتها الجنوبية"، مشدداً على "دور السلطة التنفيذية في تذليل الصعوبات الإدارية ورفع حواجز الاستثمار أمام رجال الأعمال وتطوير القوانين التي تكبّل المرور السريع إلى تنفيذ مشاريع قادرة على خلق الثروة في تونس، وتوفير عشرات الآلاف من مواطن الشغل في ظرف وجيز". وختم بالقول إنّ "مجلس الأعمال المشترك يترقب مخرجات زيارة سعيّد إلى ليبيا، غير أنه ينوي في كل الحالات التقدم في تنفيذ استراتيجية المشاركة في إعادة الإعمار، والاستفادة من الفرص المهمة التي توفرها السوق الليبية اليوم".