على الرغم من هدوء الأوضاع الأمنية في العاصمة الأفغانية كابول إلى حد ما، بعد تمركز حركة "طالبان" فيها واستلامها السلطة، إلا أن الضبابية تحيط بالمشهد السياسي، تحديداً في ملف انتقال السلطة وتوصّل الحركة إلى حل وسط مع الولايات المتحدة والأفرقاء الأفغان حيال الحكومة المستقبلية والتي تصرّ على أن تكون "إسلامية منفتحة". ويراقب الأفغان بحذر استقرار الوضع الأمني نسبياً والمؤشرات على تغير تعامل "طالبان" مع بعض القضايا، كتعليم المرأة والصحة والعمل في الإعلام، لكنهم لا يميلون للاستعجال قبل اتضاح الصورة بشكل نهائي. وبينما أصدرت الحركة بيانات متتالية في اليومين الماضيين، تدعو فيها الكادر الطبي النسائي إلى مزاولة العمل والذهاب إلى المستشفيات، والطالبات إلى الذهاب للجامعات، وهو تغيّر جديد في تعامل الحركة مقارنة بما كانت عليه في التسعينات، إلا أنه في بعض الولايات منعت الحركة الطاقم النسائي من العمل في المستشفيات التي يوجد فيها رجال، مثل ما حدث في ولاية بدخشان، شمالي البلاد. كما ظهرت النساء ومذيعات التلفزيون للمرة الأولى على الشاشات في زي أقرب إلى ما قد تريده "طالبان"، ما يشير إلى بدء التحولات من دون أن يكون أي أحد قادرا على التكهن بمداها.
في موازاة ذلك يتمحور الهمّ الأساسي للمواطنين حول ارتفاع أسعار المواد الأساسية. وأُغلقت الأسواق والمتاجر، الأمر الذي أدى إلى قفزة كبيرة في أسعار المواد الأولية، وفقدان بعضها، بما في ذلك الدواء والعملة وبطاقات شحن الهواتف. ويثير هذا الوضع قلقاً كبيراً بشأن الأيام المقبلة خصوصاً في حال لم تشهد المفاوضات السياسية تقدماً.
وكان من المقرر أن يتوجه أعضاء مجلس الشورى، الذي يضمّ الرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي، ورئيس المجلس الأعلى الوطني عبد الله عبد الله، وزعيم الحزب الإسلامي قلب الدين حكمتيار، إلى العاصمة القطرية الدوحة لإجراء مفاوضات مع "طالبان" حول انتقال السلطة منذ أيام، لكن توقف الرحلات من مطار كابول، باستثناء ما تقوم به القوات الأميركية من عمليات إجلاء أخّر تلك الزيارة فيما تضاربت الأنباء بشأن بدئها اليوم الثلاثاء أو غداً الأربعاء. وكان كرزاي قد أكد منذ أيام على تواصلهم بشكل مستمر مع قيادة "طالبان" من أجل التوصل إلى حل وسط حول الحكومة المستقبلية، وحول ضبط الأوضاع في كابول وأفغانستان عموماً. في المقابل، فإن مفاوضات "طالبان" والولايات المتحدة مستمرة في الدوحة من أجل مناقشة القضية ذاتها.
تخشى "طالبان" فتح جبهة بانجشير مجدداً في وجهها كما حصل في التسعينات
حول هذه التطورات، يقول الأكاديمي الأفغاني حسين سعيد المقرّب من "طالبان" في حديثٍ مع "العربي الجديد"، إن كل الجهود المبذولة لم تتكلل بالنجاح ولم تصل إلى أي نتيجة، معتبراً أن الأمور ستبقى على حالها في الأيام المقبلة، وأن العسكريين في "طالبان" سيديرون البلاد حتى تتوصل كل الأطراف إلى حل بشأن الحكومة. ويضيف سعيد أن الوضع في كابول عسكري بامتياز، وكان الأهم بالنسبة للحركة هو ضبط الوضع الأمني، والسيطرة الكاملة على جميع الدوائر الحكومية، وهذا ما حدث. ويشير إلى أنه لا يوجد إلى الآن أي تقدم حيال النظام الجديد المنوي تشكيله، لأن "طالبان" تصرّ على أمرين أساسيين وفقاً لها في شكل الحكومة المقبلة، وهما أن تكون إسلامية، وأن تضم جميع الأطياف والأحزاب تحت عنوان "الإمارة الإسلامية"، في حين يدعو المجتمع الدولي والولايات المتحدة وأحزاب أفغانية إلى بقاء الشكل الجمهوري للبلاد. وبالتالي هناك ضبابية كبيرة في المشهد، وما يزيده سوءاً هو عدم حضور الوجوه السياسية إلى كابول إلى حد الآن وترك الأمور في يد العسكريين.
وحول من يدير المشهد في كابول حالياً، يلفت سعيد إلى أن رئيس اللجنة العسكرية في "طالبان" وهو بمثابة وزير الدفاع في الحركة، الملا عبد القيوم ذاكر، دخل كابول في الليلة الأولى من سيطرة "طالبان"، مساء الأحد الماضي، ويدير ما يجري في العاصمة. ويعاونه في ذلك رئيس استخبارات "طالبان" في العاصمة، المولوي فتح الله، وحاكم ولاية كابول عبد الرحمن منصور، إلى جانب رئيس لجنة التعليم والتربية الملا سخاء الله.
ومن المتوقع أن يعقد المتحدث باسم الحركة ذبيح الله مجاهد مؤتمراً صحافياً في كابول، حسبما أعلنت الحركة في وقت سابق. كما يساهم عن بعد، القائد العسكري في الحركة الملا يعقوب، نجل مؤسسها الملا محمد عمر، تحديداً في إدارة الأوضاع عبر بيانات صوتية موجّهة للمواطنين ولعناصر "طالبان" خصوصاً.
وسجلت في العاصمة الأفغانية خلال اليومين الماضيين أعمال سرقة ونهب. وقد أعلنت الحركة عن تصدّيها للعصابات. من جهة ثانية، على الرغم من نفي "طالبان" ملاحقتها للمسؤولين والموظفين في الحكومة بتأكيدها أن عناصرها لم تقم بملاحقة أي مسؤول أو موظف وإصدارها "عفواً عاماً"، إلا أن الظاهرة موجودة، بل تمّ تفتيش منزل وزير الخارجية في حكومة أشرف غني، محمد حنيف أتمر، الذي أعرب عن استيائه الشديد، في تغريدة له على "تويتر"، إزاء دخول مسلحي "طالبان" منزله ومنازل الكثير من المقرّبين إليه، مؤكداً أنه في مكان آمن. وهو ما دفع الملا يعقوب إلى توجيه رسالة صوتية إلى جميع عناصر الحركة، طالباً منهم عدم ملاحقة أي مسؤول. ووصف تلك العمليات بـ"خيانة للحركة" التي ستحاسب كل من يفعل ذلك، مؤكداً في الوقت نفسه أن جمع أموال الشعب والسلاح واجب ستقوم به "طالبان" ولكن من خلال جهات معينة مسؤولة.
أغارت الطائرات الأميركية على تجمّع للأسرى في باغرام
في موازاة ذلك، وعلى الرغم من إعلان الحركة عفواً عاماً عن جميع المسؤولين العسكريين، إلا أن الأنباء تؤكد أن بعض المسؤولين في الاستخبارات والأمن والشرطة قد تعرضوا للاعتقال في مختلف الولايات. ومن هؤلاء على سبيل المثال، جميع المسؤولين الأمنيين في إقليم لغمان الشرقي.
جبهة في بانجشير؟
ومن الواضح أن الحركة تدرك جيداً أن التسليم بهيمنتها على الحكم لن يكون مطلقاً أو سريعاً. وفي التسعينات من القرن الماضي تمكنت "طالبان" من السيطرة على 95 في المائة من أراضي أفغانستان لكن بقي إقليم بانجشير، الذي كان يُدعى مديرية بروان آنذاك، نواة لفتح جبهة عسكرية ضد الحركة بقيادة أحمد شاه مسعود. أما الآن وفي ظلّ سيطرة "طالبان" على كل الولايات، فإنها لا تواجه أي جبهة مفتوحة، إلا أن لجوء بعض أشد المعارضين للحركة إلى بانجشير، مثل نائب الرئيس الأفغاني أمر الله صالح، وهو رئيس الاستخبارات سابقاً، ووزير الدفاع الجنرال بسم الله محمدي، يشير إلى تكرار السيناريو ذاته. هناك أُعلنت جبهة المقاومة بقيادة نجل أحمد شاه مسعود، ويدعى أحمد مسعود، الرافضة لحكم "طالبان"، وسط تشديد أمر الله صالح وبسم الله محمدي، على عدم استسلامهما إلى "طالبان" التي وصفاها بـ"الإرهابية".
وأمس الثلاثاء، أعلن أمر الله صالح نفسه رئيساً للجمهورية وفق الدستور الأفغاني. وذكر في تغريدة له على "تويتر"، أن "القانون الأفغاني ينص على أنه عند موت الرئيس أو هروبه من البلاد، يكون النائب الأول هو القائم بأعماله، لذا أستحق هذا المنصب وأواصل المشاورات مع القادة".
وكشفت مصادر مطلعة لـ"العربي الجديد"، أن تعزيزات كبيرة للجيش الأفغاني، تحديداً للقوات الخاصة قد دخلت بانجشير قبل سيطرة "طالبان" على كابول. بالتالي ثمة خشية من بقاء تلك الجبهة مفتوحة مرة أخرى في وجه "طالبان" مثل ما حصل في التسعينات، خصوصاً إذا لم تصل الحركة إلى حل مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي. وقد خرج الكثير من رموز جبهة الشمال إلى الخارج، منهم قائد المليشيات الأوزبكية الجنرال عبد الرشيد دوستم، وحاكم إقليم بلخ سابقاً، نائب رئيس الجمعية الإسلامية عطاء نور، مهددين بإعادة سيناريو بانجشير.
الأموال والمطار بيد أميركا
ومع أن "طالبان" قد سيطرت بالكامل على العاصمة كابول، إلا أن بعض المناطق الحساسة لا تزال بيد القوات الأميركية، ومنها المصرف المركزي، حيث يكشف مصدر في وزارة المالية وجود أكثر من تسعة مليارات دولار، لا تسمح القوات الأميركية لـ"طالبان" بالوصول إليها إلا بعد التوصل إلى حل معها. كما أن مطار حامد كرزاي الدولي في العاصمة كابول في قبضة القوات الأميركية، التي تواصل إجلاء مواطنيها والمتعاونين معها ولا تسمح للحركة بالدخول إليه، رغم انتشار عناصرها في ضواحي المطار.
ومساء أول من أمس الإثنين، أغارت الطائرات الحربية الأميركية على مدينة باغرام، شمالي كابول، وقصفت تجمّعات للأسرى والمعتقلين، الذين خرجوا من سجن باغرام، ما أدى إلى مقتل العشرات، وتتفاوت الأرقام بين 25 قتيلاً على الأقل و70 قتيلاً على الأكثر. وحاول الأميركيون و"طالبان" إخفاء الأمر عن وسائل الإعلام، رغم حديث شهود عيان وسكان المنطقة وذوي الضحايا على منصات وسائل التواصل الاجتماعي.