طوت كاليدونيا الجديدة، مبدئياً، صفحة المطالبة بالاستقلال عن فرنسا، بعد إتمام ثالث وآخر الاستفتاءات المخصصة في هذا السياق لسكان الأرخبيل المكوّن من عدة جزر، برفض الانفصال.
لكن الجدل حول طبيعة الاستفتاء نفسه سيستمر فترة طويلة، بسبب مقاطعة الاستقلاليين له، ما يفسح المجال أمام توترات مستقبلية في البلاد، الواقعة في عمق المحيط الهادئ، والقريبة من أستراليا ونيوزيلندا.
أول من أمس الأحد، فاز رافضو الاستقلال بـ96.49 في المائة من الأصوات، فيما شكّلت الأصوات المؤيدة للاستقلال 3.51 في المائة والبطاقات البيضاء واللاغية 2.99 في المائة.
شارك 43.9% من سكان الأرخبيل في الاستفتاء يوم الأحد
وتعود أسباب هذه النتيجة الساحقة إلى توجّه 43.9 في المائة من الناخبين المؤهلين إلى صناديق الاقتراع، لأن الاستقلاليين لبّوا على نطاق واسع الدعوة لعدم المشاركة.
وكان مؤيدو الانفصال قد أعلنوا أنهم لن يتوجهوا إلى مراكز الاقتراع لأنه لا يمكن تنظيم "حملة عادلة" في البلاد التي ضربها وباء كورونا بقوة في سبتمبر/أيلول الماضي، وعلّل الاستقلاليون ذلك بأن شعب الكاناك (السكان الأصليين لكاليدونيا الجديدة) في فترة حداد على ضحايا الوباء.
ويعيش الكاناك في البلاد مع الكالدوش، وهم أحفاد المستوطنين البيض، المتحدرين من أصول فرنسية. وجرى الاستفتاء من دون حوادث، فيما نشرت السلطات أعداداً كبيرة من القوات الأمنية تمثلت بألفي دركي وشرطي إضافة إلى 130 آلية و30 مركبة مصفّحة وطائرات.
كلمة ماكرون بعد استفتاء كاليدونيا الجديدة
وكان انتصار الموالين لفرنسا مرتقباً، وسارع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مساء أول من أمس الأحد، إلى الترحيب بنتيجة استفتاء كاليدونيا الجديدة، فقال: "فرنسا أجمل الليلة لأن كاليدونيا الجديدة قررت أن تبقى جزءاً منها".
لكن ماكرون شدّد على ضرورة الاعتراف "باحترام وتواضع" بالنتيجة، مشيراً إلى أن "الناخبين لا يزالون منقسمين بعمق". وبما يشبه الإعلان بحسم ملف كاليدونيا الجديدة نهائياً، اعتبر الرئيس الفرنسي أن "الوعد بمصير مشترك يجب أن يستمر في توجيهنا"، لافتاً إلى بدء "فترة انتقالية خالية من الخيار الثنائي (نعم أو لا)".
ورحّبت الطبقة السياسية على نطاق واسع بفوز المعسكر الرافض للاستقلال، لكن أحزاب اليسار اعتبرت أن النتيجة "غير شرعية" بسبب نسبة الامتناع المرتفعة. في المعسكر الموالي لفرنسا في كاليدونيا الجديدة، رحّبت رئيسة منطقة الجنوب صونيا باكيس، مساء أول من أمس الأحد، برؤية "انكسار الأحلام الحزينة بتحقيق الاستقلال".
وأضافت باكيس: "قررنا بروحنا وضميرنا البقاء فرنسيين. هذا الأمر غير قابل للتفاوض، وهذا هو معنى التاريخ"، داعيةً الاستقلاليين إلى "بناء مشروع جديد".
وانخرط سكان كاليدونيا الجديدة في العملية السياسية منذ ثمانينات القرن الماضي، عندما شهدت أراضيهم التي استعمرتها فرنسا في القرن 19، فترة اضطرابات بلغت ذروتها في عملية احتجاز رهائن وهجوم على كهف أوفيا في مايو/أيار 1988. وقد أدت إلى مقتل 19 من الناشطين الكاناك وستة عسكريين.
وبعد أقل من شهرين على هذه المأساة، نجح الاستقلاليون والموالون لفرنسا في إبرام اتفاقات ماتينيون (نسبة لاسم الفندق الواقع في العاصمة الفرنسية باريس)، التي أعادت توزيع السلطات في البلاد بين الكاناك والكالدوش.
أما الخطوات اللاحقة، تحديداً الاستفتاءات الثلاثة، فتمّ الاتفاق عليها ضمن سلة اتفاقيات نوميا (نسبة لعاصمة كاليدونيا الجديدة) في عام 1998، بحضور رئيس الوزراء الفرنسي في حينه، ليونيل جوسبان.
وهدفت اتفاقيات نوميا إلى تنظيم ثلاثة استفتاءات خلال 20 عاماً، لتحديد مصير البلاد بين الاستقلال أو البقاء ضمن الجمهورية الفرنسية. وكان 53.3 في المائة من الناخبين قد رفضوا الاستقلال في الاستفتاء الأول في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، بينما رفضه 56.7 في المائة في الاستفتاء الثاني في 4 أكتوبر/تشرين الأول 2020.
وكان ممثلو كاليدونيا قرروا مع فرنسا في يونيو/حزيران الماضي، بدء مرحلة "استقرار وتقارب"، بعد الاستفتاء الثالث، ثم إجراء "استفتاء جديد" في يونيو 2023، يكونه مخصصاً لمنح البلاد وضعاً جديداً ضمن فرنسا، في سياق حكم ذاتي غير انفصالي.
الحوار الصعب مع الاستقلاليين
غير أن الحوار لن يكون سهلاً لأن الاستقلاليين أعلنوا سابقاً عدم اعترافهم بنتيجة الاستفتاء، وسيطعنون به أمام المحاكم الدولية. وحذّر الاستقلاليون أيضاً من أنهم سيرفضون عقد أي لقاء مع وزير أراضي وراء البحار الفرنسي سيباستيان لوكورنو، قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في إبريل/نيسان المقبل.
وردّ الوزير الذي وصل إلى نوميا يوم الجمعة الماضي، بالقول: "تبلغتُ أنهم بحاجة إلى وقت، لكن بعض المواضيع الآنية ملحّة وتتطلب إجراء حوار بشكل سريع مع المؤسسات والأحزاب السياسية المحلية". وكاليدونيا الجديدة خاضعة للحكم الفرنسي منذ عام 1853، وعانى معظم الكاناك في العهد الاستعماري، من سياسات صارمة من الفصل والتمييز، وهو ما دفعهم لتحقيق الاستقلال، في المقابل قاتل معظم أحفاد المستوطنين الأوروبيين للبقاء مع فرنسا.
وأجرى الفرنسيون بين عامي 1966 و1996، 193 تجربة نووية في أرخبيل بولينيزيا، الذي يضمّ كاليدونيا الجديدة وسواها من الجزر.
والبلاد مدرجة منذ 1986 على لائحة الأمم المتحدة للأراضي غير المستقلة التي يجب إزالة الاستعمار منها. وقد أرسلت المنظمة خبراء لمراقبة حسن سير الاستفتاء.
ولكاليدونيا الجديدة منطقة اقتصادية حصرية تمتد على مساحة تبلغ نحو 1.5 مليون كيلومتر مربع، فضلاً عن احتوائها على ثروات معدنية مهمة، خصوصاً النيكل والكوبالت، وهي الثروات التي جعلتها من الدول المنتجة الأولى في العالم. وهو ما يجعلها منطقة بالغة الأهمية، خصوصاً لفرنسا، في ظلّ زيادة الاهتمام بمنطقة جنوبي المحيط الهادئ، بعد التطورات المتلاحقة في الأشهر الأخيرة.
وتبرز اتفاقية "أوكوس" الأمنية (الموقّعة بين الولايات المتحدة وأستراليا وبريطانيا) في 15 سبتمبر الماضي، كمحطة أساسية في محاولة فرنسا التمسك بوجودها في الإقليم.
أجرى الفرنسيون بين عامي 1966 و1996، 193 تجربة نووية في أرخبيل بولينيزيا، الذي يضمّ كاليدونيا الجديدة
في ذلك التاريخ، نقضت كانبيرا اتفاقية غواصات مع فرنسا، موقّعة منذ عام 2016 بقيمة 40 مليار دولار، لمصلحة اتفاقية جديدة، مع الأميركيين والبريطانيين، تحصل بموجبها على غواصات تعمل بالدفع النووي. وأدت الأزمة في حينها، على شعور فرنسا بالإقصاء من المنطقة ومن إضعاف دورها في المعسكر الغربي.
بدورها، تشهد جزر سليمان، القريبة من كاليدونيا الجديدة، توترات متجددة، منذ أواخر الشهر الماضي، أفضت إلى تدخل أمني رمزي للأستراليين في منطقة معروفة بتمدّد صيني فيها.
مع العلم أن الخلافات بين كانبيرا وبكين آخذة في الاتساع في العامين الماضيين، خصوصاً بعد تفشي وباء كورونا الأخيرة، وبدء الحرب التجارية بينهما، مروراً باعتقال الصين لأشخاص أستراليين من أصول صينية بتهمة "التجسس"، وصولاً إلى اتفاقية "أوكوس".
صحيح أن الاستقلاليين خسروا معركتهم، لكن الأكيد أن الاستقلال بحدّ ذاته، وفقاً لاتفاقيات نوميا، لن يكون ناجزاً، لأن باريس ستبقى ممسكة بملفات السياسة الخارجية والدفاع، وصاحبة القرار الأول في الاقتصاد، حتى أن ماكرون كان واضحاً في كلمته قبل الاستفتاء، يوم الخميس الماضي، بقوله "أياً تكن نتيجة الاستفتاء ففي اليوم التالي ستكون هنا حياة معاً مع فرنسا، نظراً للواقع الجيوسياسي للمنطقة".
(العربي الجديد، فرانس برس)