بين الرفض الواسع في الكونغرس الأميركي، أو الاحتفال بـ"خطوة إنسانية متقدمة"، أو انتقاد "السياسة الفوضوية" التي لا تزال تنتهجها الإدارة الأميركية، تتنوع المواقف بحسب مصادرها من إعلان إدارة الرئيس جو بايدن أخيراً رفع بعض القيود المفروضة على كوبا، وتخفيف أخرى عن فنزويلا، علماً أن الخطوتين لا تنذران بأي تبدل حقيقي في الموقف الأميركي من هذين البلدين، منذ أن شدّد الرئيس السابق دونالد ترامب العقوبات عليهما خلال ولايته التي استمرت 4 أعوام، وانتهت في فبراير/ شباط 2021.
ولا يبدو بايدن مستعجلاً للعودة إلى سياسة الرئيس الأسبق باراك أوباما، في مدّ اليد إلى هافانا، أو حتى متحمساً للانخراط في حوار مع النظام الكوبي، لاستعادة فترة التقارب التاريخي التي أطلقها أوباما، بعدما ظلّت واشنطن لأشهر، منذ يوليو/ تموز الماضي، تمنّي النفس بتضعضع النظام الكوبي من الداخل، بعد تظاهرات عارمة ضدّه خرجت في البلاد، هي الكبرى منذ الثورة الكوبية في 1959.
أما في كاراكاس، فتشي التصريحات الأميركية المتعلقة بتخفيف بعض القيود بمحاولة تسهيل الحوار بين نظام نيكولاس مادورو والمعارضة، بعد سنوات من الحرج الأميركي مع إخفاق الأخير في تسلم السلطة.
تقضي الإجراءات أيضاً بإلغاء الحد الأقصى المفروض على التحويلات المالية إلى كوبا
وفيما تواجه الولايات المتحدة مدّاً يسارياً في حديقتها الخلفية، في جنوبي القارة، ترتبط الخطوتان من دون شكّ بالسياسة الأنسب التي تعمل إدارة بايدن على مراجعتها في ما يتعلق بكوبا وفنزويلا، المرشحتين على اللائحة الروسية إذا ما قرّرت موسكو نشر أصول عسكرية لها في القارة يوماً ما أو في زحمة التصعيد الغربي ضدّها، فيما أصبحت الصين الشريك التجاري الأول لدول نصف القارة الأميركية الجنوبي.
وتأتي هذه المراجعة من دون أن تخرج إدارة بايدن بعد من فلك سياسة العقوبات التي انتهجها ترامب، علماً أنه ليس معلوماً ما إذا كانت ستكون مغايرة، لو لم تشهد كوبا تظاهراتها الشعبية ضد النظام، والتي قابلتها هافانا بحملة قمع عنيفة.
4 تسهيلات أميركية حيال كوبا
وأعلنت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، الإثنين الماضي، رفع مجموعة من القيود المفروضة على كوبا، لا سيما في مجال الهجرة والتحويلات المالية والرحلات الجوية.
ووعدت الإدارة الديمقراطية بزيادة قدرة دبلوماسييها في هافانا على معالجة طلبات تأشيرات السفر إلى الولايات المتحدة، وهي خدمة لـ"لمّ الشمل" استأنفتها السلطات الأميركية على نطاق ضيّق في مطلع شهر مايو/ أيار الحالي، بعد أربع سنوات من إيقافها بسبب هجمات صوتية مزعومة تعرّض لها موظفون دبلوماسيون في هافانا (ما عرف بمتلازمة هافانا). ويسمح البرنامج بحصول 20 ألف كوبي سنوياً على تأشيرة هجرة إلى الولايات المتحدة.
وتقضي الإجراءات أيضاً بإلغاء الحد الأقصى المفروض على التحويلات المالية إلى كوبا، والبالغ حالياً ألف دولار كل ثلاثة أشهر، وبالتالي تلقي عدد كبير من العائلات في الجزيرة مساعدات من أقاربهم الذين استقروا في الولايات المتحدة، والسماح بإرسال أموال خارج إطار العائلة لدعم "رجال الأعمال الكوبيين المستقلين".
وبحسب بيان لوزارة الخارجية الأميركية، يتضمّن تخفيف العقوبات أيضاً زيادة عدد الرحلات الجوية بين الولايات المتحدة وكوبا، مع السماح بتسيير رحلات إلى مدن أخرى غير هافانا، كما ستسمح ببعض الرحلات لمجموعات (تعليمية)، وهي محظورة في الوقت الحاضر.
لكن بيان الوزارة شدّد على أن هذه التحويلات لا يمكن أن "تُثري" كيانات أو أشخاصاً ينتهكون حقوق الإنسان، وأن العقوبات المالية التي تستهدف شخصيات أو كيانات كوبية لا تزال سارية.
وأوضح مسؤول كبير في الإدارة الأميركية أن الإجراءات هي "قرارات عملية تهدف إلى الاستجابة للوضع الإنساني" في كوبا وتحسين الفرص الاقتصادية للكوبيين.
وفي هافانا، أقرّ وزير الخارجية الكوبي برونو رودريغيز بأن هذه "إجراءات إيجابية" لكنها "لا تعدّل بتاتاً الحصار (الحظر الأميركي المفروض منذ 1962)، ولا التدابير الرئيسية للطوق الاقتصادي الذي ضربه ترامب" على الجزيرة.
وتشهد كوبا التي تواجه أسوأ أزمة اقتصادية منذ 30 عاماً بسبب الوباء والعقوبات الأميركية موجة من الهجرة الجماعية، ويحاول العديد من الكوبيين اليائسين الذهاب إلى الولايات المتحدة عبر المرور بأميركا الوسطى أو المخاطرة بحياتهم سالكين طريق البحر.
وكانت كوبا قد شهدت تظاهرات عارمة غير مسبوقة، اجتاحت العاصمة ومدناً أخرى الصيف الماضي، احتجاجاً خصوصاً على الوضع المعيشي، لكن السلطات قابلتها بحملة قمع عنيفة.
وجاء الإعلان الأميركي الإثنين، بعد يوم واحد من إعلان كوبا سنّ قانون جنائي جديد يرمي إلى "حماية" النظام الاشتراكي من خلال معاقبة المشاركين في التظاهرات، وفي الأنشطة السياسية على الإنترنت والتمويل الخارجي لبعض الأنشطة، وذلك بعدما كان سجّل توقيف أكثر من 1300 شخص صدرت بحق كثر منهم عقوبات مشدّدة تصل إلى الحبس 30 عاماً، بعد تظاهرات يوليو.
وقوبل إعلان إدارة بايدن حول كوبا برفض داخلي أميركي، ليس فقط من صقور الجمهوريين، الذين يحظون بتأييد واسع في صفوف الأميركيين من أصول كوبية، والمستقرين خصوصاً في ولاية فلوريدا، بل من الديمقراطيين المطالبين بتشديد العقوبات الخانقة على هافانا.
قوبل إعلان إدارة بايدن حول كوبا برفض داخلي أميركي، جمهوري وديمقراطي
وحذّر رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الديمقراطي بوب مينينديز من أن الإعلان "قد يرسل إشارة خاطئة إلى الأشخاص الخاطئين في الوقت الخاطئ وللأسباب الخاطئة"، فيما اتهم السيناتور الجمهوري ماركو روبيو إدارة بايدن بأنها تضم "متعاطفين" مع النظام الشيوعي في كوبا، متخوفاً أيضاً من أن قرار الإدارة يشكل "الخطوات الأولى باتجاه العودة إلى سياسات أوباما الفاشلة حيال كوبا".
واعتبر السفير الكوبي السابق كارلوس ألزوغاراي، في تصريح لوكالة "فرانس برس"، أن هذه الإجراءات بالفعل تبشر بـ"كسر جليد" جديد بين البلدين، مستبعداً في الوقت ذاته أن يمضي بايدن في تدابيره مثل أوباما.
لكن عالم الاجتماع رافائيل هيرنانديز كان أكثر حذراً، معتبراً في حديث للوكالة أن الخطوة هي "رد فعل طارئ وجدته الولايات المتحدة لوقف أزمة الهجرة الحالية"، موضحاً أن "الهجرة غير المنضبطة مسألة تتعلق بالأمن القومي، والشيء الوحيد الذي يمكنهم فعله هو حثّ الحكومة الكوبية على التعاون".
بدوره، لا يرى الباحث أرتورو لوبيز ليفي من جامعة هولي نيمز في كاليفورنيا أن الإجراءات تمثل عودة إلى تغيير النهج الذي تمثله إدارة ترامب، بل إن بايدن رأى أن الجزيرة عادت إلى الهدوء بعد التظاهرات التاريخية فيها في يوليو الماضي.
وصدر الإعلان الأميركي حول كوبا نتيجة مراجعة للسياسة الأميركية حيال النظام الشيوعي باشرها بايدن منذ أشهر طويلة، وكانت منتظرة على صعيد واسع، علماً أن مسؤولاً كبيراً في إدارة بايدن كان أكد لشبكة "أن بي سي" الإخبارية في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي أن هذه المراجعة "مجمدة" حالياً بعد تظاهرات كوبا.
لا دعوات لقمّة الأميركيتين
ولا تبشر الإجراءات الجديدة بأي إمكانية لانفتاح أميركي على كوبا، ليس فقط بسبب تواضعها، وربطها في واشنطن بالرغبة بمساعدة الشعب الكوبي، بل بسبب مؤشرات سلبية كثيرة ترافقت معها، ومنها توجه الولايات المتحدة للإبقاء على تقييمها بأن كوبا هي من ضمن مجموعة من الدول (تضم أيضاً فنزويلا وإيران وسورية وكوريا الشمالية) التي "لا تتعاون بالكامل" مع الولايات المتحدة في الحرب ضد الإرهاب.
كما أن إدارة بايدن لا تعتزم دعوة كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا إلى قمة الأميركيتين، التي تستضيفها الولايات المتحدة للمرة الأولى، وهو ما استدعى تهديداً بالمقاطعة من دول أميركية عدة، على رأسها المكسيك.
ولم تدع أي من الدول الثلاث بعد إلى أي من الاجتماعات التحضيرية للقمة المرتقبة في يونيو/ حزيران المقبل، وقال السكرتير المساعد لوزير الخارجية الأميركي بريان نيكولس، في مقابلة تلفزيونية أخيراً، إن "الدول التي لا تحترم الديمقراطية لن تكون مدعوة".
في غضون ذلك أيضاً، أعلنت الولايات المتحدة الثلاثاء الماضي تخفيفاً محدوداً لبعض العقوبات على فنزويلا، مؤكدة أنها تريد بذلك تشجيع معاودة الحوار السياسي بين مادورو والمعارضة المدعومة من واشنطن. وقال مسؤول أميركي رفيع إن القرار "مرتبط باتفاق المعسكرين على معاودة المفاوضات" في مكسيكو لإيجاد مخرج للأزمة السياسية الفنزويلية "سيعلنان عنه قريباً"، مضيفاً أن القرار اتخذ "بطلب من الحكومة الفنزويلية الانتقالية" برئاسة غوايدو.
ويشمل القرار "تخفيف العقوبات" خصوصاً "استثناءً محدوداً" مُنح لمجموعة "شيفرون" النفطية الأميركية في إطار الحصار النفطي الذي فرضته واشنطن على كراكاس عام 2019. وأوضح المسؤول أن "شيفرون" ستتمكن من "التفاوض على الشروط المحتملة لنشاطاتها المستقبلية في فنزويلا" من دون أن تتمكن من إبرام أي اتفاق جديد مع الشركة الوطنية الفنزويلية للنفط، مشدداً أيضاً على أن "أياً من الإجراءات التي تخفف الضغط لن يؤدي إلى ارتفاع عائدات النظام".
(العربي الجديد، رويترز، فرانس برس)