بدأت الأنباء تتسرب من ردهات وكواليس أعمال اللجنة الدستورية المؤلفة من أعضاء مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة حول عدم قدرتها على التوصل إلى توافق على القاعدة الدستورية للانتخابات، ما دعم توقعات المراقبين للمشهد الليبي المشككة في قدرة المجلسين على الوصول إلى تفاهم على آلية الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والقوانين المنظمة لها.
وبالتزامن مع ما تداولته وسائل إعلام ليبية عن عزم أعضاء اللجنة الدستورية على تأجيل أعمالهم إلى ما بعد عيد الفطر، قال عضو اللجنة الممثلة لمجلس النواب، عبد الهادي الصغير، إن ممثلي المجلسين في اللجنة يواصلون مناقشة النقاط الخلافية في مشروع الدستور، مشيراً إلى اتفاقهم على عقد جلسة بعد عيد الفطر يوم 10 مايو/أيار المقبل، ما عزز من احتمالات فشل جلسات اللجنة الحالية.
وبدأت اللجنة أعمالها الثلاثاء الماضي في القاهرة برعاية أممية واحتضان مصري، على أن تنتهي يوم العشرين من إبريل/نيسان الحالي.
وترجع صعوبة التفاهم إلى ازدواجية جدول الأعمال. فمن ناحية، وصل ممثلو مجلس النواب في اللجنة إلى القاهرة تنفيذاً للتعديل الدستوري القاضي بضرورة إجراء تعديل على مشروع الدستور من أجل طرحه للاستفتاء عليه، ليكون دستوراً دائماً للبلاد، وقاعدة للانتخابات. ومن ناحية أخرى، يرى نظراؤهم في مجلس الدولة أن محور الاجتماع صياغة قاعدة دستورية مؤقتة للانتخابات، وترك أمر الدستور للبرلمان القادم، الأمر الذي يتماهى مع المبادرة الأممية التي قدمتها مستشارة الأمين العام للشأن الليبي، ستيفاني وليامز، ودعت إلى الاجتماعات بناءً عليها.
وتتكون اللجنة الدستورية من 24 عضواً، بالمناصفة بين المجلسين، لكن بعضهم لم يشارك في اجتماعات القاهرة، فقد أكد عضو اللجنة عن مجلس الدولة، موسى فرج لـ"العربي الجديد"، عدم حضوره لأسباب صحية، فيما نقل رئيس "حزب التغيير الليبي" جمعة القماطي، عن أعضاء آخرين بذات المجلس مغادرتهم الاجتماعات بسبب ما وصفوه بـ "تعنت المناظرين لهم من مجلس النواب وإصرارهم على مناقشة تعديل الدستور واستبعاد بحث القاعدة الانتخابية"، مؤكداً في ذات الوقت اتفاق اللجنة على عقد جلسة قادمة في العاشر من مايو/ أيار المقبل، بعد عيد الفطر.
وفي هذا الشأن، قال القماطي لـ"العربي الجديد": "لا نعوّل كثيراً على اجتماعات القاهرة، لأن الجانب الذي يمثل مجلس النواب غير جاد في السعي للوصول إلى قاعدة دستورية تقود لانتخابات بأسرع وقت، ويصر على أن يكون النقاش في إطار التعديل الدستوري الذي لن يقود لانتخابات سريعة".
وفي إشارة إلى تدخل مصري في أعمال الاجتماع، قال: "المؤسف أن مجلس الدولة تجاوب مع مبادرة وليامز ليكتشف عند الوصول أن الأجندة تغيرت بتأثير مكان الاجتماع والدولة المستضيفة التي تدعم وجهة نظر مجلس النواب". ونقل القماطي عن أعضاء باللجنة من مجلس الدولة تأكيدهم عدم احتواء أجندة الاجتماعات على أي شيء له علاقة بانتخابات قريبة.
ورغم إشراف البعثة الأممية على الاجتماع وترحيبها الكبير به، إلا أنها اكتفت بنشر صور الاجتماعات، دون الخوض في تفاصيلها، وغيرت خلال اليومين الأخيرين من تسمية محور الاجتماعات إلى "بحث المسار الدستوري"، بعد أن كانت تشير ضمن إدراجاتها السابقة، على صفحتها الرسمية على "فيسبوك"، إلى أن الاجتماعات تتمحور حول "تحديد قاعدة دستورية توافقية لإجراء الانتخابات".
ويعلّق القماطي على ذلك، قائلاً: "البعثة تحاول إظهار تمسكها بمبادرتها، وتريد أن تعطي انطباعاً إيجابياً على عملها، فهي لا تعترف أبداً بالفشل في أي شيء، وتعطي نوعاً من الأمل والتناول الإيجابي لأي مباحثات أو اجتماعات تكون وراءها أو تشرف عليها".
وبشأن سير الاجتماعات في القاهرة، أضاف: "أعتقد أن هناك تصدعاً وسط مجلس الدولة، فقد غادرت مجموعة من أعضائه الاجتماعات لأنهم لا يرون أي فائدة منها، ولم يحضر الاجتماع الأخير سوى 7 من لجنة مجلس الدولة من أصل 12 عضواً، ونحن لا نتوقع أي نتائج حقيقية ملموسة، وهذا المسار سيفشل لعدم جدية ورغبة مجلس النواب في التعاطي مع أي خيار غير خيار التعديل الدستوري والسلطة التنفيذية الجديدة، وبالتالي فمجلس النواب هو من سيعرقل ويُفشل هذا المسار، وإن تظاهر شكلياً بأنه مع الحوار والتوافق مع مجلس الدولة".
من جهة أخرى، يعتبر المحلل السياسي الليبي، العربي الورفلي، أن "كلا المجلسين يمثل جزءاً من المشكلة، لأنهما لا يسعيان للحل، بينما يجثمان على صدور الليبيين منذ سنين طويلة، ويبغيان الاستمرار في السلطة بعد أن أفسدوا الانتخابات وألغوها".
وقال الورفلي لـ"العربي الجديد": "نرى المجلسين الآن يعاودان نشاطهما من جديد، وتعقد اجتماعات في القاهرة من أجل إيجاد ما يسمونه القاعدة الدستورية التي لن يجدوها ولن يتفقوا عليها، لأن كل الأطراف تسعى إلى مصالحها وتدافع عنها، فيما يدفع الشعب الليبي المقهور ثمن ذلك".
وبحسب وجهة نظره، فقد ساهمت البعثة الأممية في الأزمة الدستورية الحالية "بتجاهلها كل القواعد الدستورية الموجودة التي تضمنها الإعلان الدستوري وتعديلاته، وكذلك تجاهلها لكل القوانين الأساسية المنظمة للعملية الانتخابية".
ويتوقع الورفلي أيضاً فشل اجتماعات اللجنة الدستورية الحالية في القاهرة، وقال: "لن تفضي هذه الاجتماعات إلى أي حل، فكل طرف يريد إزاحة الآخر، والأزمة مستمرة، والنتيجة استمرار الأجسام الحالية إلى ما لا نهاية، إذا لم يتدخل الجيش ويحسم الأمر"، في إشارة إلى قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر.
في المقابل، يتوقع القماطي استمرار المراوحة والمزيد من ترسيخ الانقسام والصراع وثقافة المغالبة، مع إصرار مجلس النواب على تمرير أجندته. وأضاف: "جوهر المشكلة أن مجلس النواب وأعضاءه يرفضون أي انتخابات سريعة، لأنهم يريدون المحافظة على مواقعهم والتطلع إلى المزيد عبر الحكومة الجديدة (...) سيفعلون أي شيء يمنع انتخابات برلمانية سريعة"، وهذا لا يعني بالضرورة عودة شبح الحرب وفقاً لرأيه، ولكن "استمرار الوضع كما هو، وتركيز الصراع على السلطة التنفيذية".
ووفق تقدير القماطي، فإن التغير الذي قد يطرأ مستقبلاً هو مع حلول يوم 21 يونيو/حزيران القادم (تاريخ نهاية ولاية السلطة التنفيذية الحالية)، حيث سيضعف موقف حكومة الوحدة الوطنية السياسي، ولكنها لن تختفي فجأة، وقد تندفع الأمور إلى تطورات أخطر، بحسب رأيه.
تأتي كل هذه المستجدات مع استمرار إصرار حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة على التمسك بالسلطة وعدم التسليم إلا بعد الانتخابات، وسط تشبث الحكومة المكلفة من مجلس النواب برئاسة فتحي باشاغا بدخول العاصمة وتسلّم زمام الأمور.
وبدا آخر مشاهد صراع الحكومتين في ما شهدته العاصمة طرابلس، ليل الجمعة وصباح السبت، من تحشيدات عسكرية يعتقد أنها موالية لحكومة الدبيبة، وسط ترجيح وسائل إعلام ليبية أن هذه القوات جاءت لمنع محاولة جديدة محتملة من جانب باشاغا للوصول إلى العاصمة، في ملمح أعاد إلى الأذهان شبح الحرب، وحل محل فكرة الانتخابات التي تضاءلت الثقة ببلوغها.