يستعد مجلس الأمن في نيويورك للتصويت على مشروع قرار حول وقف إطلاق النار في قطاع غزة وسط توقعات متزايدة باستخدام الولايات المتحدة "فيتو" ضده، على الرغم من تخفيف شديد لجزء من لغته. وإن حدث ذلك بالفعل فسيكون هذا الفيتو الأميركي الرابع ضد مشروع قرار حول غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023. ومن المتوقع أن يصوّت المجلس على المشروع هذا الأسبوع، لكن لم يتم تأكيد ذلك رسمياً حتى اللحظة. وحتى يوم أمس الأحد كان نص المشروع قد مر بأربع مسودات منذ توزيع أول مسودة للتفاوض (ما يعرف بالمسودة صفر بين الدبلوماسيين في نيويورك). وجاءت المبادرة لمشروع القرار من الدول العشر غير دائمة العضوية في مجلس الأمن بدورته الحالية وهي، الجزائر، وسويسرا، وسلوفينيا، واليابان، ومالطا، وكوريا الجنوبية، وموزمبيق، وغيانا، والإكوادور، وسيراليون. ووزعت المسودة لاحقاً على الدول دائمة العضوية، والتي تملك حق النقض "فيتو" (الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا والصين وفرنسا) للتفاوض.
الهدف من وراء المشروع الجديد
حول الهدف المبدئي من وراء المشروع، قال مصدر دبلوماسي غربي رفيع المستوى، لـ"العربي الجديد" في نيويورك: "لقد كانت الدول العشر غير دائمة العضوية متفقة من الناحية المبدئية أن هذا المشروع يجب أن يذهب أبعد من المشاريع السابقة، ويطالب بوقف فوري لإطلاق النار ويعكس ما يحدث على الأرض، وينص على أن الوضع أصبح يشكل تهديداً للأمن والسلم الدوليين، وهي لغة بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة (دون ذكر الفصل السابع بالاسم) وإلا ما الفائدة من مشروع يكرر لغة مشاريع سابقة أو لا يذهب أبعد منها؟".
مصدر دبلوماسي: وضعت الولايات المتحدة في مفاوضاتها الكثير من الخطوط الحمراء على مشروع القرار
وهذا ما أكده مصدر دبلوماسي آخر رفيع المستوى مطلع على مجريات المفاوضات، قائلاً، لـ"العربي الجديد": "وضعت الولايات المتحدة في مفاوضاتها الكثير من الخطوط الحمراء واعتراضات أبرزها حول اللغة المستخدمة في المسودة الأولى المتعلقة بالفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، والتي نصت على أن الوضع في غزة والتطورات الإقليمية أصبحت تشكل تهديداً على الأمن والسلم الدوليين... لكن تم حذفها في مسودات لاحقة وتخفيف اللغة لتكون أكثر "اعتدالاً" وأقل مباشرة لمحاولة استمالة الولايات المتحدة، في الوقت الذي أصرت فيه الدول العشر غير دائمة العضوية على ضرورة أن يستمر المشروع على الأقل بالمطالبة بوقف فوري غير مشروط لإطلاق النار وكذلك إطلاق سراح الرهائن غير المشروط".
المسودة الأولى (المسودة صفر)
في نسخة مسربة للمسودة الأولى، اطلعت عليها مراسلة "العربي الجديد" في نيويورك، نص المشروع في الفقرة التنفيذية الأولى (تعرف في الأمم المتحدة كذلك بالفقرة العاملة) على أن مجلس الأمن "يقرر أن الوضع في قطاع غزة والتصعيد الإقليمي يشكلان تهديداً للسلم والأمن الدوليين، ويطالب بوقف إطلاق النار الفوري وغير المشروط والدائم الذي تلتزم به جميع الأطراف". وأصبحت الفقرة الجديدة "يذكّر مجلس الأمن بالمسؤولية الأساسية المتمثلة في دعم السلام والأمن الدوليين ويطالب بوقف إطلاق النار الفوري وغير المشروط والدائم الذي يتعين على جميع الأطراف احترامه". وبهذا أفرغت الفقرة من أهم جزء فيها أي "الإقرار بوجود تهديد للأمن والسلم الدوليين" وتبعات ذلك المتعلقة باللجوء للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ما يعني أن عدم التزام الأطراف بالقرار، لو تم تبنيه، كان سيفتح الباب أمام إمكانيات مختلفة، بما فيها مثلاً فرض عقوبات على أطراف النزاع لعدم امتثالها لتدابيره واتخاذ خطوات أخرى. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هناك 13 بنداً (مادة) تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وقد يتطلب تنفيذ أي منها خطوات و/أو قرارات إضافية لإنفاذها. لكن الدول العشر تمسكت بالإبقاء على المطالبة بوقف فوري ودائم وغير مشروط لإطلاق النار.
ونصّت المسودة الأولى كذلك على إشارة مجلس الأمن "إلى الأوامر المؤقتة الصادرة عن محكمة العدل الدولية في قضية تطبيق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها في قطاع غزة (جنوب أفريقيا ضد إسرائيل) المؤرخة 26 يناير/كانون الثاني و28 مارس/آذار و24 مايو/أيار 2024". وهنا كذلك تم تعديل الفقرة، لاعتراضات أميركية كذلك بحسب المصادر الدبلوماسية آنفة الذكر، بحيث أصبحت الفقرة عامة ورخوة بدون ذكر غزة لتنص على "وإذ يؤكد (مجلس الأمن) أن احترام محكمة العدل الدولية ووظائفها، بما في ذلك ممارسة اختصاصها الاستشاري، وأمرها باتخاذ التدابير المؤقتة، أمر أساسي للقانون الدولي والعدالة والنظام الدولي القائم على سيادة القانون".
وشملت الاعتراضات الأميركية الفقرة التنفيذية السادسة المتعلقة بوكالة "أونروا" والتي نصت بعد تأكيد دور "أونروا" وأهميتها للاستجابة الإنسانية، أن مجلس الأمن "يرفض الإجراءات التي تقوض تنفيذ ولاية الوكالة، ويرحب بالتزام الأمين العام والوكالة بالتنفيذ الكامل لتوصيات المراجعة المستقلة للآليات والإجراءات لضمان التزام أونروا بمبدأ الحياد الإنساني. ويدعو جميع الأطراف إلى تمكين أونروا من تنفيذ ولايتها، كما اعتمدتها الجمعية العامة، في جميع مناطق العمليات، مع الاحترام الكامل للمبادئ الإنسانية المتمثلة في الإنسانية والحياد والنزاهة والاستقلال، وحماية مرافق الأمم المتحدة والمرافق الإنسانية، كل ذلك وفقاً للقانون الإنساني الدولي وميثاق الأمم المتحدة".
وعند مقارنة المسودة صفر بالمسودة الثالثة المسربة والتعديلات، يُلاحَظ شطب الجملة في الفقرة آنفة الذكر التي تنص على "رفض مجلس الأمن الإجراءات التي تقوض تنفيذ ولاية الوكالة". وهنا كذلك جاء الشطب لاعتراضات أميركية. وتعود أهمية الجملة المشطوبة، وإن كانت لا تسمي إسرائيل بالاسم، إلى إشارتها، وإن كانت غير مباشرة، للقانون الذي سنّه الكنيست الإسرائيلي مؤخراً والذي يوقف عمليات "أونروا" في الأراضي المحتلة بحلول نهاية شهر يناير المقبل، إن تم تنفيذه.
مفاوضات إضافية بشأن مشروع قرار غزة
كانت المفاوضات الأولية حول مشروع القرار بشأن غزة قد بدأت بين الدول العشر غير دائمة العضوية قبل قرابة الشهر، وبعد الاتفاق بينها من الناحية المبدئية وتوحيد صفوفها انتقلت للتفاوض على المسودة الأولى مع الدول دائمة العضوية. وبدأت المفاوضات المكثفة مع الدول دائمة العضوية بعد الانتخابات الأميركية، إدراكاً منها أن مجال التفاوض مع الجانب الأميركي قبل الانتخابات لن يؤدي إلا إلى طريق مسدود. وأعرب مصدر دبلوماسي غربي رفيع المستوى عن خيبة أمله من سريان المفاوضات مع الجانب الأميركي بعد الانتخابات، وقال: "كنا نعتقد أن الجانب الأميركي بعد الانتخابات سيكون أكثر مرونة لكننا لا نرى أي إشارة لذلك". وأضاف أن "الدول الأربع الأخرى دائمة العضوية كانت عموماً موافقة على المسودة الأولى وإن كانت للمملكة المتحدة بعض التحفظات، إلا أنها لم تكن بمستوى التحفظات الأميركية، وأخذناها بعين الاعتبار ولاحظنا مرونة في التفاوض من جانب بقية الدول ولم تضع تلك الدول خطوطاً حمراء مثل أميركا".
طلب الجانب الأميركي تعديلاً على فقرة تقر بالتهديد للأمن والسلم الدوليين وتشير للبند السابع
وعبّر أحد الدبلوماسيين المطلعين على مجرى المفاوضات، ولكن من دولة غير عضو في مجلس الأمن، عن دهشته مما أسماه "تعنّت إدارة (الرئيس الأميركي) جو بايدن مقارنة بالمرونة التي أبدتها إدارة (الرئيس الأسبق) باراك أوباما بعد فوز دونالد ترامب للمرة الأولى بالانتخابات". ويشار في هذا السياق إلى أن عدم استخدام الولايات المتحدة "فيتو" والامتناع عن التصويت أدى إلى تبني القرار 2334 (عام 2016)، المتعلق بعدم شرعية الاستيطان، قبل أسابيع معدودة من تقلد ترامب سدة الحكم في البيت الأبيض.
مسودة رابعة وإضافات أميركية
طالب الجانب الأميركي بتعديلات إضافية على التعديلات آنفة الذكر التي تم قبولها أو قبول قسم منها. ومن اللافت أن التعديلات الأميركية الجديدة (بحسب المسودة الرابعة) لم تكتف بتغيير أو شطب جمل بعينها وإضعاف صيغتها، بل أضافت فقرات كاملة. ولم تقبل الدول المتفاوضة أغلبها، لكن النظر إليها يلخص نوايا إدارة بايدن حتى وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة قبل مغادرة البيت الأبيض.
واحد من التعديلات الملفتة للانتباه جاء على الفقرة السادسة (التمهيدية)، والتي نصت في مسودة سابقة على الإشادة "بالجهود الجارية التي تبذلها الأمم المتحدة بقيادة أمينها العام والجهات الفاعلة الإقليمية والدولية من أجل خفض التصعيد وتأمين إطلاق سراح الرهائن ومعالجة الأزمة الإنسانية، وإذ يؤكد أهمية قيام جميع الأطراف بتسهيل تقديم المساعدات الإنسانية من جانب وكالات الأمم المتحدة والجهات الفاعلة الإنسانية الأخرى، وإذ يؤكد كذلك أن الإجراءات التي تعرقل عمليات هذه الجهات الفاعلة قد تتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة وتقوض جهود السلام والأمن الدوليين، وإذ يعرب عن انزعاجه العميق إزاء عدد العاملين في المجال الإنساني الذين قتلوا في غزة، وإذ يذكر بمطالبته بأن تمتثل جميع أطراف الصراع لالتزاماتها بموجب القانون الدولي، بما في ذلك القانون الإنساني الدولي، بما في ذلك ما يتعلق بالوصول الإنساني وسلامة وأمن العاملين في المجال الإنساني وحرية تنقلهم".
وطلب الجانب الأميركي شطب الجملة في الفقرة أعلاه التي يؤكد فيها المجلس "كذلك أن الإجراءات التي تعرقل عمليات هذه الجهات الفاعلة قد تتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة وتقوض جهود السلام والأمن الدوليين". واقترح الجانب الأميركي بالإضافة إلى شطب تلك الجملة إضافة إشارة "للقرار 2720 (2023)". ورفضت الدول التي تعمل على صياغة النص شطب الجملة لكنها أضافت الإشارة للقرار. أما الفقرة التمهيدية السابعة في المسودة، والتي تنص على "وإذ يؤكد (مجلس الأمن) التزامه الثابت برؤية حل الدولتين، مع قطاع غزة بصفته جزءاً من الدولة الفلسطينية، وحيث تعيش دولتان ديمقراطيتان، إسرائيل وفلسطين، جنباً إلى جنب في سلام داخل حدود آمنة ومعترف بها، بما يتفق مع القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، ويشدد في هذا الصدد على أهمية توحيد قطاع غزة مع الضفة الغربية تحت السلطة الفلسطينية". وهنا اقترح الجانب الأميركي شطب الإشارة الأولى لقطاع غزة "مع قطاع غزة بصفته جزءاً من الدولة الفلسطينية" في حين أبقى على الإشارة الثانية للقطاع في الفقرة التي ورد فيها "ويشدد في هذا الصدد على أهمية توحيد قطاع غزة مع الضفة الغربية تحت السلطة الفلسطينية". ولم يؤخذ بالتعديل الأميركي وبقيت الفقرة كما هي.
وطلب الجانب الأميركي تعديلاً جوهرياً إضافياً على الفقرة التنفيذية الأولى (العاملة) والتي كانت في المسودة الأولى تقر بالتهديد للأمن والسلم الدوليين وتشير للبند السابع، كما أوضحنا أعلاه، وشُطبت بسبب التهديد الأميركي باستخدام "فيتو" وعدلت لتصبح "يذكّر مجلس الأمن بالمسؤولية الأساسية المتمثلة في دعم السلام والأمن الدوليين ويطالب بوقف إطلاق النار الفوري وغير المشروط والدائم الذي يتعين على جميع الأطراف احترامه؛ ويكرر كذلك مطالبته بالإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الرهائن". لكن الجانب الأميركي عاد واقترح تعديلاً جديداً، وشطب الفقرة الأولى بالكامل تقريباً، وإضافة لغة تدين "حماس" وتحملها المسؤولية وتبديلها بالفقرة التالية "يذكّر مجلس الأمن بالمسؤولية الأساسية المتمثلة في دعم السلام والأمن الدوليين، ويدين حماس على أعمالها الإرهابية واحتجاز الرهائن في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وانتهاكها لقرارات المجلس، وتحريضها على الصراع، دون مراعاة للعواقب الكارثية لأفعالها على المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة وعلى المنطقة". واقترح الطرف الأميركي فقرات إضافية تنص "يطالب بوقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية يشمل إطلاق سراح جميع الرهائن، خطوةً أولى نحو التنفيذ الكامل وغير المشروط والفوري لجميع أحكام القرار 2735 (2024)". ولم يؤخذ بالاقتراحات الأميركية الإضافية هنا كذلك.
وفي ما يخص الفقرة السادسة (التنفيذية) حول "أونروا"، اقترح الجانب الأميركي إضافة فقرة جديدة بموجبها "يطلب من الأمين العام إنشاء آلية مستقلة لتقييم الادعاءات ذات المصداقية بشأن انتهاكات سياسات أونروا المتعلقة بمبدأ الحياد، ويؤكد على مسؤولية أونروا عن اتخاذ التدابير في الوقت المناسب لضمان المساءلة عن انتهاكات سياساتها". ويبدو أنه لم يتم القبول بهذا التعديل من الدول المتفاوضة. وتعود خطورة هذا التعديل إلى أنه لا يأخذ بعين الاعتبار التحقيقات التي قامت بها الأمم المتحدة داخلياً كما اللجنة المستقلة حول الادعاءات الإسرائيلية والتي لم تحصل من الجانب الإسرائيلي على ما يكفي من الأدلة، في الغالب، لتثبت صحتها أو عدمها. وبناء عليه قامت جميع الدول الغربية بإعادة تمويلها لـ"أونروا" باستثناء إدارة بايدن لانحيازها الأعمى لحكومة بنيامين نتنياهو.
تخفيف لغة المسودة
ووافقت الدول العشر غير دائمة العضوية، وإن كان بعضها فعل ذلك على مضض، على المطلب الأميركي و"تخفيف" لغة المسودة، وإن كان البعض يرى أنه تم إضعافها لدرجة كبيرة ونسف المبدأ الذي بادروا من أجله لصياغة المشروع: أي أن يرقى مجلس الأمن لمستوى المسؤولية ويصدر قراراً يعكس ما يحدث على أرض الواقع والتهديد للأمن والسلم الدوليين. وعزا عدد من الدبلوماسيين الخضوع لجزء من الضغوط الأميركية لرغبة تلك الدول بالضغط، على الأقل، من أجل وقف إطلاق النار الفوري وغير المشروط. لكن يبدو أن الجانب الأميركي، بحسب ترجيحات دبلوماسية مختلفة، سيستخدم "فيتو" على الرغم من إضعاف لغة القرار.
ولعل الموقف الأميركي هذا، خصوصاً بعد انتهاء الانتخابات، يُسقط أي حجة أو وهم إن كان موجوداً عند البعض حول مدى انخراط بايدن ودعمه لنتنياهو وحكومته وحرب الإبادة على الفلسطينيين في غزة ليس بالسلاح فحسب، بل بدبلوماسية يذهب بها إلى ما هو أبعد وأخطر من "حماية أو دعم دولة حليفة"، إلى تماهٍ كامل وتستر على جرائم ضد شعب أعزل.