استيقظت روسيا صباح السبت على واقع أنباء صادمة عن دخول عناصر شركة "فاغنر" العسكرية الخاصة التابعة لرجل الأعمال المقرب من الكرملين، يفغيني بريغوجين، إلى مدينة روستوف (جنوب غرب)، وتقدمها شمالاً، بعد توعده بـ"مسيرة العدالة" إلى موسكو.
وهذه ثالث صدمة تصيب الروس خلال أقل من عام ونصف عام بعد صدمتي بدء الحرب الروسية المفتوحة على أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط 2022، وإعلان التعبئة الجزئية لأفراد الاحتياط في سبتمبر/ أيلول الماضي، التي أخلّت بالعقد الاجتماعي القائم بين المجتمع الروسي والسلطة، وسط احتشاد طوابير من الذكور على المعابر الحدودية البرية لمغادرة روسيا حينها.
انفراجة سريعة
على عكس الصدمتين السابقتين، لم تدم أزمة تمرد بريغوجين طويلاً، إذ أعلن بحلول مساء السبت التوصل إلى اتفاق بوساطة الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، يعيد قائد "فاغنر" بموجبه مقاتليه إلى مواقع المرابطة ويغادر إلى بيلاروسيا بضمانات شخصية من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ورغم تجاوز ذروة الأزمة، إلا أنها تركت أسئلة كثيرة بلا أجوبة، ولعل أبرزها كيف نشأت خلية تمرد داخل وحدة توصف بأنها الأكثر كفاءة على الصعيد القتالي ضمن القوات الروسية، وإخفاق الأجهزة الاستخباراتية الروسية في رصد هذا التوجه قبل بلوغه مرحلته الأخيرة، وأسباب السماح لقوات "فاغنر" المتمردة بقطع مئات الكيلومترات دون أن يعترضها الجيش أو القوات الخاصة الروسية.
ويرجع رئيس النادي الأوراسي للتحليل في موسكو، نيكيتا ميندكوفيتش، تأني السلطات الروسية في مواجهة تمرد بريغوجين إلى سعيها لتجنب نشوب "حرب أهلية مصغرة" واحتواء الأزمة بطريقة سلمية.
ويقول ميندوكوفيتش في حديث لـ"العربي الجديد" إنه "رغم كل سلبيات بريغوجين وأطماعه المبالغ فيها، إلا أنه تمكن منذ عام 2014 من تشكيل فريق قوة ضاربة من المنفذين العسكريين من أصحاب الكفاءة الذين أظهروا أداءً جيداً في سوليدار وأرتيموفسك"، وهي التسمية الروسية لمدينة باخموت الأوكرانية التي استمرت المعارك من أجلها لأشهر طويلة.
وحول رؤيته لأسباب عزوف الجيش الروسي عن استهداف قوافل "فاغنر" في أثناء تقدمها شمالاً، يضيف: "من الواضح أن إجراء عملية عسكرية متكاملة الأركان ضد وحدة عسكرية كان سيؤدي إلى تداعيات سلبية للغاية، سواء من جهة الخسائر أو نشوب وضع غير سليم يعني فعلياً حرباً أهلية مصغرة".
ويعتبر المحلل السياسي ذاته أن "السلطات الروسية سعت لتجنب ذلك من طريق العزوف عن قطع الطريق أمام القوافل والإقدام على إجراء المفاوضات بمشاركة لوكاشينكو، ما ساهم في تسوية الأزمة سلمياً".
ويُرجع نشوب الأزمة الأخيرة إلى مبالغة السلطات العسكرية والاستخبارات في تحكمها في "فاغنر" دون أن تلاحظ أن تآمراً نما في هذه البيئة، مخلصاً إلى أن الدرس الواجب استخلاصه من التمرد هو ضرورة إيجاد حل جذري لمثل هذه التشكيلات العسكرية غير الرسمية من طريق دمجها في القوات المسلحة الروسية.
وساطة بيلاروسية حاسمة
أعلن الناطق الرسمي باسم الرئاسة الروسية، دميتري بيسكوف، مساء السبت، أنه ستوقَف القضية الجنائية بحق بريغوجين الذي سيغادر إلى بيلاروسيا.
وقال بيسكوف في تصريحات صحافية: "ستسألونني ماذا سيحدث لبريغوجين شخصياً. ستوقَف القضية الجنائية بحقه، وهو نفسه سيغادر إلى بيلاروسيا".
وأشار إلى أنه تسنى احتواء الموقف مع بريغوجين من دون مزيد من الخسائر ومن دون رفع مستوى التوتر.
وأكد أن بريغوجين سيتمكن من أن "يغادر إلى بيلاروسيا" تحت ضمان شخصي من بوتين، مضيفاً: "إذا كنتم تسألون عما هو الضمان أن بريغوجين سيتمكن من المغادرة إلى بيلاروسيا، فهو كلمة الرئيس الروسي".
وأوضح بيسكوف أن قسماً من مقاتلي "فاغنر" ممن يرغبون، سيوقّعون عقوداً مع وزارة الدفاع، شرط ألّا يكونوا قد شاركوا في الأعمال الأخيرة للشركة العسكرية الخاصة. أما باقي عناصر "فاغنر"، فلن يُلاحَقوا، نظراً لإنجازاتهم على الجبهة. وأكد الكرملين أنه احترم دوماً أعمالهم البطولية في منطقة "العملية العسكرية الخاصة"، في إشارة إلى الحرب التي تشنها موسكو على أوكرانيا.
في الأثناء، أجرى بوتين ولوكاشينكو اتصالاً هاتفياً بعد توصل هذا الأخير إلى اتفاق مع قائد شركة "فاغنر" العسكرية الخاصة.
وبحسب وكالة "بيلتا" البيلاروسية الرسمية، فإن "الرئيس البيلاروسي أطلع الرئيس الروسي بشكل مفصل على نتائج المفاوضات مع قيادة شركة فاغنر العسكرية الخاصة"، مشيرة إلى أن بوتين أعرب "عن دعمه وشكره لنظيره البيلاروسي على العمل المنجز".
كذلك أجرى بوتين اتصالات هاتفية بنظرائه الكازاخي، قاسم جومارت توكاييف، والأوزبكي، شوكت ميرزاييف، والتركي، رجب طيب أردوغان، ورئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، لمناقشة الوضع الراهن.
من جهته، أعلن لوكاشينكو أن مفاوضاته مع بريغوجين أدت إلى الاتفاق على وقف القوافل، مشيراً إلى أنه جرت مناقشة "خيار تسوية الوضع مع تقديم ضمانات أمنية لمقاتلي شركة فاغنر العسكرية الخاصة". وبدوره أكد بريغوجين على إثر المفاوضات وقف حركة القوافل وعودتها إلى مواقع المرابطة.
يذكر أن قوات "فاغنر" حاصرت صباح السبت مدينة روستوف على الدون الروسية الواقعة بالقرب من الحدود مع أوكرانيا، وبدأت بالتقدم شمالاً نحو المقاطعات المجاورة. ووصف بوتين أعمال بريغوجين بأنها "خيانة" و"تمرد مسلح".