اكتسب الرئيس السلفادوري نجيب أبو كيلة، خلال السنوات الأخيرة، مكانة متقدمة بين اليمين الأميركي اللاتيني، حتى أصبح "أيقونة" في معسكره، بسبب إجراءات متشددة لمكافحة الجريمة المنظمة.
إجراءات أبو كيلة وصلت إلى حدّ بناء "سجن الإرهاب" الأكبر في السلفادور، لاستيعاب 40 ألف سجين، لكنه بات اليوم يضمّ 68 ألفاً، في ظروف يرثى لها.
في داخل البلاد وخارجها، لم يعد الأمر يتعلق فقط بمكافحة الجريمة، بل بطموحات أبو كيلة السياسية في تجاهل الديمقراطية. يفرض الرئيس المثير للجدل حالة الطوارئ في بلاده لمدة عام، وبات يسيطر على النظام القضائي، ويعتقل الآلاف دون محاكمة، مع منح الشرطة والجيش صلاحيات غير محدودة.
يربط البعض من خصوم أبو كيلة بين سياساته تلك ورغبته بالترشح مرة أخرى للرئاسة في العام المقبل، ما يثير القلق على المستوى الإقليمي اللاتيني، إذ لا يسمح له الدستور بالترشح مرة أخرى.
وسياساته الداخلية لم تعد تروق للعديد من قادة أميركا اللاتينية، بما في ذلك البيرو، وتشيلي، والأرجنتين، والمكسيك. فعلى الرغم من الشعبية التي يحظى بها أبو كيلة داخلياً (بآلة دعائية كبيرة)، وفي صفوف كثيرين في أميركا اللاتينية، إلا أن تيارات حقوقية وسياسية، أقرب إلى يسار ويسار الوسط، تشعر بالقلق إزاء رغبة بعض الدول في القارة بتقليد أساليبه القاسية في التعامل مع مشاكل القتل والعصابات.
خشية عودة الديكتاتورية
ولا يخفي الرئيس التشيلي اليساري غابرييل بوريك رفضه لأسلوب حكم أبو كيلة. ففي لقاء مع "بي بي سي موندو" (بالإسبانية) في 21 يوليو/ تموز الماضي، انتقد الاستراتيجية الأمنية في السلفادور، معتبراً أنها تخرق الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. وشدد بوريك على أن "مواجهة الجريمة تتطلب فهم الأسباب"، رافضاً حالة الطوارئ المفروضة منذ عام في السلفادور.
وصل الأمر إلى حدّ ذهاب أبو كيلة إلى الردّ متأخراً، بعد نحو أسبوع، ومهاجمة رئيس تشيلي على موقع "إكس" (تويتر سابقاً)، ما فتح أيضاً باباً للتراشق بين مؤيديه ومعارضيه في أميركا اللاتينية.
اتهامات سياسيين ومنظمات حقوقية في أميركا اللاتينية لأبو كيلة بإعادة الديكتاتورية وانتهاك حقوق الإنسان إلى القارة، تدفع بالرجل إلى تبني خطاب شعبوي أوسع، كما يتهمه خصومه.
في مارس/ آذار الماضي، طلبت لجنة "الدول الأميركية" (الكاريبي واللاتينية) لحقوق الإنسان السلفادور بإعادة الحقوق والضمانات الدستورية للمواطنين، بعد مرور عام على تمديد متوالٍ لحالة الطوارئ (مددت 13 مرة منذ مارس/ آذار 2022)، بحجة مكافحة الجريمة المنظمة.
وعطّل أبو كيلة من خلال "الطوارئ"، الذي يمرّر بسهولة في المجلس التشريعي الذي يواليه، بعض الحقوق الأساسية للذين يجري اعتقالهم، ومنهم من ليست له علاقة بالعصابات والمخدرات، وفق الاتهامات الحقوقية التي تفيد بأن الكثيرين يُجبرون بالإكراه على الإدلاء باعترافات، دون إمكانية الوصول إلى محامين، وتمديد فترة الاحتجاز الأولي من 72 ساعة إلى 15 يوماً، بحسب لجنة الدول الأميركية لحقوق الإنسان.
وحذرت اللجنة أيضاً من عواقب التنصت غير القانوني على الاتصالات السلكية واللاسلكية في السلفادور. كذلك، تبدي منظمات حقوق الإنسان في أميركا اللاتينية مخاوفها من أن آلاف الأبرياء جرى توقيفهم تعسفياً، دون صلة لهم بعالم الجريمة. وذهب تحقيق لمنظمات حقوقية، بينها "كريستوسال" و"هيومن رايتس ووتش"، إلى إبداء مخاوف بشأن "مقابر سرية" مزعومة في سجون السلفادور.
انجذاب لنماذج أبو كيلة
القلق الحقوقي والسياسي في القارة اللاتينية تعززه حالة الانجذاب التي يبديها معسكر المحافظين واليمين في بعض دولها لنماذج أبو كيلة، ووزيره للأمن غوستافو فيلاتورو. والأخير يتهم المنظمات الحقوقية بأنها "منحرفة تدافع عن الشر، تدافع عن حقوق الإنسان لمجرمين يهاجمون المجتمعات والدول، هذا ما هي عليه".
في الفترة الأخيرة، ذهبت هندوراس إلى تطبيق حالة الطوارئ، بسبب احتدام حروب عصابات المخدرات. كما أن الأمر ليس أقل ميلاً نحو تشديد القبضة في غواتيمالا، فيما اعتبر اليمين المحافظ في البيرو أن خطوات أبو كيلة "تثير الإعجاب". وفي الإكوادور، أظهر غييرمو لاسو ميلاً لتبني أساليب أبو كيلة، بما في ذلك الإعلان المتدرج للطوارئ، مثل مقاطعة مانابي التي قُتل رئيس بلديتها أوغوستين انترياغو في أحداث عنف مرتبطة بحرب عصابات المخدرات.
المعضلة التي تسببت فيها ظاهرة الشعبوية التي يقودها أبو كيلة في أميركا اللاتينية أن شوارعها تشهد بالفعل ارتفاعاً في عمليات القتل، وبنفس الوقت تراجعاً في تفضيل الشارع للديمقراطية على الأمن. فبحسب تقرير لصحيفة "لا ناسيون" الأرجنتينية في الأول من أغسطس/ آب الحالي، بات العنف مرهقاً للمجتمعات اللاتينية، لدرجة أن الناس على استعداد لدعم الشعبوية الاستبدادية. وبالفعل يشير مسح إقليمي لمؤسسة "لاتينو باروميترو" في 18 دولة لاتينية إلى انخفاض دعم الناس للديمقراطية.
المسح يظهر أنه فقط 48 في المائة من ذوي الأصول الإسبانية يوافقون على فرضية أن "الديمقراطية أفضل من أي شكل آخر من أشكال الحكم"، بينما أجاب 63 بالمائة بهذه الطريقة في عام 2010. وفي هندوراس، وغواتيمالا، وباراغواي، يقول 70 في المائة إنهم لن يمانعوا وجود حكومة غير ديمقراطية إذا كانت فعالة في مواجهة الجريمة والعنف. بل إنه في المكسيك تصل هذه النسبة إلى 56 في المائة. المسح يظهر أيضاً أن شعبية أبو كيلة في السلفادور تبلغ 90 في المائة، أي أكثر من أي رئيس آخر في المنطقة. ويتمتع بدعم هائل على الرغم من انتقادات لانتهاكاته لحقوق الإنسان، ولمركزة السلطات بيده، ومحاولته الحالية لإعادة انتخابه على الرغم من تعارض ذلك مع الدستور.
معسكر معارضو التمدد الشعبوي في المجتمعات اللاتينية يرون أن ما يقوم به أبو كيلة (سجونه تضم نحو 2 في المائة من السكان) ومقلدوه ليس سوى مكافحة آثار انتشار الجريمة، وليس أسبابها، كالفقر المدقع، والمخدرات، وهو ما أشار إليه الرئيس التشيلي في معرض رفضه لتلك الإجراءات.
من هو أبو كيلة؟
نجيب أبو كيلة قطان (41 عاماً)، من مواليد 1981 في سان سلفادور، لأب فلسطيني من بيت لحم، وأم سلفادورية. دخل المنافسة السياسية الكبرى من بوابة رئاسة بلدية العاصمة سان سلفادور بين 2015 و2018، معتبراً نفسه أنه يقود معركة ضد الفساد، وفي مواجهة ثنائية تبادل السلطة منذ توقف الحرب الأهلية في عام 1992 بين جبهة "فارابوندو مارتي" اليسارية و"التحالف الوطني الجمهوري" المحافظ.
وصل إلى الرئاسة في فبراير/ شباط 2019 متغلباً على منافسين من اليسار والمحافظين. وأثارت مواقفه استهجاناً بين فلسطينيي أميركا اللاتينية، وخصوصا أنها جاءت متعارضة مع توجهات أبيه الراحل، الأقرب إلى اليسار وجبهة "فارابوندو"، التي أسسها الفلسطيني الآخر شفيق حنظل. بل يمينيته التي قادته إلى زيارة دولة الاحتلال، وما يسمى "متحف الهولوكوسكت" في القدس المحتلة، تعارضت مع بدايات الرجل اليسارية في 2011، والتي أوصلته إلى رئاسة بلدية كوستلان في 2012، قبل أن ينقلب على يساريته، ويطرد في 2017 من "فارابوندو مارتي" بتهم الفساد.