يقبع الرئيس التونسي قيس سعيّد، تحت ضغط قوي، داخلي وخارجي، يتزايد يومياً. وبدت المواقف الخارجية أكثر حدة، خصوصاً من طرف الولايات المتحدة، التي عبّرت بوضوح من خلال وزير خارجيتها أنتوني بلينكن، الخميس الماضي، عن أن دعم تونس سيكون مشروطاً بعودة المسار الديمقراطي، وهو ما يعني أن البلاد ستتوغل أكثر في أزمتها الاقتصادية إذا ما رفض صندوق النقد الدولي منحها قروضاً لتمويل الموازنة.
اتساع التباعد الداخلي عن قيس سعيّد
داخلياً، تتسع رقعة المعارضين، على الرغم من الخلافات في صفوفهم، ما دفع سعيّد، الخميس الماضي، إلى التعبير عن امتعاضه من التقاء فرقاء الأمس وحلفاء اليوم، ولكنه كالعادة فضّل الهروب إلى الأمام ورفع لاءاته الثلاث، لا صلح لا اعتراف لا حوار، إلا مع من اعتبرهم الوطنيين، الذين لا يعرفهم أحد إلى اليوم.
ورفع سعيّد لاءاته الثلاث، في الوقت الذي ينفرط العقد من حوله، حتى من المقربين والداعمين السابقين، بينما تتصاعد خلافات الشقوق بعد ما كشفته مديرة ديوانه السابقة، نادية عكاشة، في تسجيل صوتي منسوب إليها تمّ تسريبه ونشره.
لكن الرئيس التونسي تلقّى بالتأكيد جرعة أوكسجين من الأمين العام لاتحاد الشغل، نور الدين الطبوبي، الذي انتقد، أول من أمس الجمعة، خصوم الرئيس المجتمعين أخيراً تحت راية "جبهة الخلاص الوطني" بقيادة أحمد نجيب الشابي، مؤكداً أن "الشعب التونسي في ظلّ الوضع الاقتصادي والاجتماعي الصعب اليوم، لن يقبل لا بالشعارات الجوفاء ولا بعودة المنظومة القديمة التي تحاول التسويق لنفسها بثوب جديد"، في إشارة إلى حركة النهضة والأحزاب المتحالفة.
ستتوغل تونس أكثر في أزمتها الاقتصادية إذا ما رفض صندوق النقد الدولي منحها قروضاً لتمويل الموازنة
وأشار الطبوبي، في تصريح صحافي، إلى أن "جبهة الخلاص تلزم أصحابها"، وأن الاتحاد "ضد من يظهرون في كل مرة في نسخة جديدة وبألوان جديدة"، بحسب تعبيره.
ويعتبر المحلل السياسي قاسم الغربي، أن "خط اتحاد الشغل وخياراته غير مستغربين، لكن المستغرب هو حدة الرفض العنيف لجبهة الخلاص، ثم اللقاء الذي جمع الطبوبي برئيسة الحزب الدستوري الحرّ عبير موسي (أول من أمس الجمعة)، وهو ما يدل على أن الاتحاد استشعر الخطر وإمكانية عودة منظومة النهضة عبر جبهة الخلاص".
ويلفت الغربي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن "الاتحاد قد يكون انزعج من إمكانية فقدان المبادرة السياسية، ولكنه للأمانة فقدها، منذ أن فتك بها سعيّد عملياً بعد 25 يوليو/تموز (التاريخ الذي أطلق فيه سعيّد مسار إجراءاته "الاستثنائية" بحلّ الحكومة وتجميد عمل البرلمان، ثم حلّه)".
تطور الموقف الخارجي ضد إجراءات سعيّد
وعلى المستوى الخارجي، يبيّن الغربي أن "أنصار 25 يوليو كانوا مطمئنين إلى أن الموقف الغربي والأميركي لم يكن حاداً وقاطعاً، ودليل ذلك عدم توصيفهم ما وقع بالانقلاب وكان نقدهم دبلوماسياً. لكن هذا الموقف تطور بشكل عام بعد قرارات 22 سبتمبر/أيلول الماضي (حين أصدر سعيّد دفعة ثانية من الإجراءات الاستثنائية عزّزت صلاحياته التشريعية والتنفيذية)، ثم إعلان حلّ البرلمان ومحاكمة النواب وتحويل الجلسة البرلمانية في 30 مارس/آذار الماضي (لإلغاء إجراءات سعيّد) إلى القضاء، ليتحول الموقف الأميركي والخارجي إلى الرفض الواضح، ثم بعد ذلك وصولاً إلى ضرب هيئة الانتخابات، وهو ما يعد خطأ كبيراً اقترفه سعيّد، بل الخطيئة الكبرى التي جعلت الموقف الأميركي يتصاعد".
ويلفت الغربي إلى أن "سلسلة من اللقاءات عقدت بين عدد من السفراء ورئيس البرلمان المنحل ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي قبل 30 مارس، ثم أجريت بعد ذلك مجموعة لقاءات أخيراً مع القائمة بأعمال السفارة الأميركية في تونس، ناتاشا فرانشسكي، والسفيرة البريطانية هيلين ونترتن، والإيطالي لورانزو فانارا، بما يفيد بأن هناك اعترافاً متواصلاً بالغنوشي، وكأن شيئاً لم يكن، وكأن سعيّد لم يحل البرلمان ولم يحل ملفه إلى القضاء".
البحث عن ورقة لإعادة التوازن
وبرأي المحلل السياسي، فإن "الغرب لا يعارض 25 يوليو، ولكن كل الإجراءات التي تبعت ذلك مقلقة، كما لا يحبذ عودة حركة النهضة للتغول والسيطرة الكاملة على الحكم، على الرغم من أنها لا تحكم فعلياً"، مشيراً إلى أن المجتمع الدولي "يبحث عن قوة أخرى تعيد الديمقراطية وتؤسس لدولة ولنظام حكم قادر على أن ينفذ الإصلاحات".
وبرأي الغربي، فإن السياسي المعارض ورئيس حزب "أمل"، أحمد نجيب الشابي، "قد يكون هذه الورقة أو المرشح لإحداث هذا التوازن السياسي، فالشابي معارض حقيقي للنهضة في العمق، وهو يريد أن يستفيد من اللحظة، وهو بالنسبة للقوى الغربية بديل للطرفين، من دون إزاحة لا سعيّد ولا النهضة، لذلك فقد يكون رجل إدارة المرحلة الانتقالية".
ويرى المحلل السياسي أن "الموقف الأميركي صارم وشديد، وقد خفض الأميركيون دعمهم للجيش التونسي وأوقفوا المساعدات، في رسالة مباشرة إلى المؤسسة العسكرية في تونس".
وبخصوص إصرار سعيّد على الهروب إلى الأمام وعدم الاستماع إلى أحد، يعرب الغربي عن خشيته "من أن يدفع هذا العناد إلى أن ترفع القوة الصلبة يديها عن سعيّد، وهو ما قد يقود إلى سيناريو مخيف بالنسبة إلى تونس"، على حد قوله.
من جهته، يرى الأمين العام للحزب الجمهوري، عصام الشابي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "خطاب سعيّد دائماً متوتر، وهو يعمل على بثّ خطاب الانقسام والكراهية في صفوف التونسيين، عبر رفعه اللاءات الثلاث وإخراجها من سياقها التاريخي".
قاسم الغربي: هناك اعتراف دولي متواصل براشد الغنوشي وكأن شيئاً لم يكن
ويلفت إلى أنه جرى إخراج هذه اللاءات من سياق مقاومة وطنية عربية ضد العدو الإسرائيلي، فيما يجلس وزير الدفاع في حكومة الرئيس، عماد مميش، إلى جانب وزير الأمن في الكيان الصهيوني، بني غانتس، في قاعدة جوية أميركية في ألمانيا، لتنسيق الجهود للرد على الهجوم الروسي على أوكرانيا، وتتوسل حكومته الصناديق والهيئات لتعطف على تونس، بينما يرفع هو شعارات أقرب إلى الشعارات الطلّابية".
ويقول الأمين العام للحزب الجمهوري، إنه "جرى إخراج اللاءات الثلاث من سياقها التاريخي، وكأن الرئيس يرى في أبناء وطنه أعداءه الحقيقيين، وهو الرئيس الوحيد في العالم الذي لا يقبل الحوار، ويؤكد منذ أكثر من عام أنه ليس رجل حوار".
ويلفت الشابي إلى أن إدارة الدولة على هذا النحو "لا تترك أي مكان، لا للصلح ولا للاعتراف ولا للتفاوض، وهذا يقود إلى الحلول الإقصائية ويهدد الاستقرار ومؤسسات الدولة". ويعتبر السياسي التونسي أن الرئيس قيس سعيّد "لا يلتفت إلى المشاكل الحقيقية للتونسيين وهمومهم ووضعهم المعيشي، بل إن همّه الوحيد تجميع السلطات والحرب التي أعلنها من جانب واحد على خصومه، وهو ما انعكس بوضوح في عزله دولياً".
أما في مقابل ذلك، فيشدّد الشابي على وجوب أن تتحمل المعارضة مسؤوليتها، وأن تقطع مع التردد، وتذهب إلى تجميع الكلمة، من أجل إنقاذ البلاد والعودة إلى العيش المشترك والمسار الدستوري المؤسساتي والتوافق بعيداً عن المغالبة". ويلفت إلى "أننا في إطار تنسيقية الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية في نقاش مع جبهة الخلاص ومع مكوناتها بشكل منفرد، ولكن في الحزب الجمهوري نعتبر أن ساعة توحيد الصفوف قد حانت على الرغم من التأخير الكبير".
ويقول في هذا الصدد: "علينا التدارك وتجميع القوى، لأن في سلبية البعض دعماً للمسار الكارثي الذي تسير فيه البلاد، وهو نوع من التواطؤ مع الانقلاب". وفي ما خصّ "جبهة الخلاص الوطني"، يعتبر الشابي "أننا تجاوزنا مسألة مبدأ تكوينها نحو شروط نجاحها ومقبوليتها من الرأي العام"، متحدثاً عن "وجوب تقديم مشروع للإنقاذ والاتفاق على الإصلاح بعيداً عن حسابات التموقع".
بدوره، يعتبر مستشار رئيس حركة "النهضة"، رياض الشعيبي، أن "الإجراءات التي يتخذها رئيس الجمهورية تباعاً تزيد في عزلته الداخلية والخارجية، لأنها لا تتناغم والمسار الديمقراطي الذي انطلق منذ عام 2011".
رياض الشعيبي: دعوات اتحاد الشغل شبيهة بالصيحة في واد لا تجد من يستمع إليها
ويلفت الشعيبي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن "الجبهة السياسية الداخلية الرافضة تتوسع كل يوم، وكلما أعلن الرئيس عن إجراء جديد، زادت حدة المعارضة لهذه السياسات، وهو ما يؤثر على علاقاتنا الثنائية مع شركاء دوليين، وأيضاً على فرص التمويل الخارجي، باعتبار أن ما يحصل الآن لا يبعث على الثقة لدى صندوق النقد الدولي ولدى أغلب المؤسسات المالية الدولية".
ويؤكد الشعيبي، في هذا الخصوص، أنه يبدو أن "هناك حصاراً دولياً على خطوط التمويل للاقتصاد التونسي. وبعد تصريح وزير الخارجية الأميركي، يوم الخميس الماضي، فإن الموقف صار مؤكداً وشبه رسمي"، محذراً من أن ذلك "سيزيد في تعقيد الوضع الاجتماعي والاقتصادي في البلاد، وهو ما يهدد الاستقرار والسلم الاجتماعي الداخلي".
ويرى مستشار رئيس حركة "النهضة"، أن "رئيس الجمهورية سجن نفسه داخل تصور إقصائي وأحادي، ويرفض تماماً التعاطي مع شركاء الوطن، معتبراً أن الغالبية العظمى من التونسيين خونة وفاسدين". وبرأيه، فإن هذا السلوك السياسي "يتنافى ومنطق الأشياء، لأن المفروض أن يكون رئيس الجمهورية رئيساً لكل التونسيين، وأن يتعاطى بمسؤولية ورصانة مع كل ما يعبّر عنه الشعب، حتى لو في اختلاف مع رأيه".
وتعليقاً على موقف اتحاد الشغل، يقول الشعيبي إنه كان يأمل "في أن يبقى الاتحاد على ذات المسافة مع الخصوم السياسيين، وحتى إن اتخذ موقفاً، فينبغي أن يكون منتصراً للديمقراطية وللدستور، ولكن للأسف فإن موقف الاتحاد محكوم أيضاً بتوازناته الداخلية وبالعائلات الأيديولوجية والسياسية داخل هياكله".
ويأسف الشعيبي لأن "الحوار الذي يدعو إليه اتحاد الشغل لا يتوفر فيه أهم شرط وهو استعداد رئيس الجمهورية للتعاطي مع الحوار الوطني، وبالتالي فإن دعوات الاتحاد شبيهة بالصيحة في واد لا تجد من يستمع إليها ولا من يتعاطى معها، سواء أكان حواراً وطنياً بالشكل التقليدي كما حصل في 2013، أو من خلال هيئة الحكماء التي اقترحها الاتحاد، لأن الرئيس يصم آذانه عن الإصغاء لمثل هذه النداءات".
وأخيراً، يحذّر مستشار رئيس "النهضة"، من أن تونس "تواجه اليوم تحديات شبيهة بالتحديات التي كانت تواجهها في عهد زين العابدين بن علي، وربما أخطر، وهذا ما فرض على كل العائلات السياسية التقارب والتنسيق في ما بينها للبحث عن السبيل الأيسر للخروج من الأزمة الحالية".
ويرى أنه "في هذا الإطار، جاء تشكيل جبهة الخلاص الوطني التي تضم إسلاميين وعلمانيين وليبراليين ويساريين"، مضيفا أن الجبهة "تشبه في روحها جبهة 18 أكتوبر/تشرين الأول 2005 (هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحرّيات)، وبالتالي هي تحاول أن تدفع إلى عودة المسار الديمقراطي والدستوري من خلال فرض توازن سياسي جديد في البلاد، باستطاعته منح فرصة لتونس لاستعادة ديمقراطيتها ولإطلاق عملية تنموية من جديد، وبالتالي فإن هدف الجبهة الحقيقي هو استئناف الديمقراطية".