على الرغم من إصدار حكومة مصطفى الكاظمي العديد من أوامر الاعتقال والإحالة للتحقيق، بحق ضباط وأفراد أمن عراقيين بتهمة التقصير أو ارتكاب مخالفات، فضلاً عن إحالة مسؤولين حكوميين للتحقيق ومنع السفر بتهم الفساد، إلا أنها لم تُقدِم لغاية الآن على اعتقال أو محاسبة أي من عناصر المليشيات، على الرغم من تورطها بسلسلة جرائم مختلفة خلال الفترة الماضية، هددت أمن العاصمة ومدن عدة شمال وغرب وجنوبي البلاد، وأسفر بعضها عن سقوط ضحايا.
ويثير هذا الأمر انتقادات سياسية من أطراف مختلفة اعتبرت ذلك مؤشراً على ضعف حكومة الكاظمي، وهو ما يؤدي، في الوقت ذاته، إلى إعطاء ما يشبه الحصانة غير المعلنة للمليشيات من المحاسبة، تحت ذريعة تجنّب أزمة سياسية، أو أمنية، على غرار ما حصل في أزمة عملية البوعيثة جنوبي بغداد قبل ثلاثة أشهر، والتي تم خلالها اعتقال مجموعة من المنتمين لـ"كتائب حزب الله"، قبل إطلاق سراحهم بعد تهديدات أطلقتها هذه المليشيا، وطوقت على أثرها المنطقة الخضراء ومبنى جهاز مكافحة الإرهاب.
اعتبر الفتلاوي أن الحكومة أضعف من أن تواجه المليشيات
وحتى الآن لم تفصح حكومة الكاظمي عن نتائج التحقيق بمجزرة صلاح الدين، التي وقعت في 17 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، وراح ضحيتها 12 عراقياً، بينهم أربعة فتيان، واختطاف آخرين. وأقر رئيس "الحشد الشعبي" فالح الفياض بأنها جريمة قتل أبرياء خارج القانون، وتعهد بفتح تحقيق، في وقت تم سحب أفراد مليشيا "العصائب" المتورطة بالجريمة من البلدة المنكوبة، إثر اتهامات من مسؤولي الأمن وذوي الضحايا بالوقوف وراء الاعتداء.
وتتحدث مصادر سياسية في بغداد، لـ"العربي الجديد"، عن "سياسة تخدير حكومية" عبر لجان التحقيق التي تُشكل ولا تنتهي إلى أي نتائج، مثل لجان التحقيق بقتل الناشطين في البصرة، وقتل عائلة الرضوانية غربي بغداد، ولجان التحقيق الثلاث بصواريخ الكاتيوشا واستهداف أرتال التحالف الدولي، ولجنة التحقيق باغتيال الباحث هشام الهاشمي، وأخرى باستهداف المتظاهرين في بغداد، انتهاء بلجان تتبُع قضايا الفساد، ولجنة التحقيق في مجزرة الفرحاتية في محافظة صلاح الدين.
وحول ذلك، قال عضو التيار المدني علي الفتلاوي، لـ"العربي الجديد"، إن "الحكومة أضعف من أن تواجه المليشيات، على الرغم من امتلاكها عدداً كبيراً من الأدلة على تورط المليشيات بجرائم مروعة، لكنها تخشى مواجهة مفتوحة معها لأن قوى اللادولة أقوى منها". وبين أن المليشيات الولائية المرتبطة بإيران نجحت في ضبط إيقاع الحكومة تحت سقف معين، والدليل أنها لم تُقدم لغاية الآن أي عضو في أصغر مليشيا للقضاء، أو حتى توجه استدعاء له، وفق قوله. وتابع: "نأمل أن نكون على خطأ، لكن هذه الحقيقة. اليوم هناك ضباط تم إيقافهم عن العمل، أو نقلهم، كعقوبة لتقصيرهم أو شبه فساد. فذهبوا إلى كتائب حزب الله التي توسطت لهم وأعادتهم للعمل، ما يعني أن المشكلة في الدولة العراقية كبيرة وخطيرة".
قضية الفصائل المسلحة وعدم التعاطي معها وفقاً لسلطة القانون أساءت إلى السلطة القضائية
والأسبوع الماضي، ألقت قوة أمنية عراقية القبض على أحد أفراد مليشيا مسلحة، بعد شكاوى تلقتها الشرطة من أصحاب متاجر في حي الكرادة الراقي في بغداد، تتعلق بابتزاز. لكنها سرعان ما أطلقت سراحه بعد التأكد من انتسابه فعلاً إلى إحدى الفصائل المسلحة النافذة، واتصاله بزملاء له في المليشيا قدموا إلى مركز الشرطة لإخراجه، بحسب مسؤولين في الشرطة.
وقال النائب في البرلمان عن تحالف "القوى العراقية"، رعد الدهلكي، لـ"العربي الجديد"، إن على حكومة الكاظمي محاسبة الجميع وفقاً للقانون، وإذا ما أرادت موقفاً برلمانياً، فعليها أن تتعاون مع البرلمان بهذا الاتجاه، وستجد أرضية خصبة لتمرير قانون يدعم توجهاتها في هذا الإطار. وأضاف "على الحكومة أن تعي جيداً أنها المسؤولة عمّا يحدث من اغتيالات وخطف وأعمال إجرامية"، داعياً إلى "تطبيق سلطة القانون على الجميع من دون استثناء".
في المقابل، أقر ضابط في قيادة عمليات بغداد بأن المنظومة الأمنية بشكل عام ليس لها رغبة للاصطدام مع الفصائل المسلحة، فهناك تجارب انتهت بنقل أو معاقبة ضباط، أو إحالتهم للتقاعد، خلال العامين الماضيين، لذلك يعي الضابط جيداً أن الحكومة الموجودة في المنطقة الخضراء لن تحميه من الدولة العميقة، التي تعتبر المليشيات مكوناً رئيسياً فيها. ولفت الضابط، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه، لـ"العربي الجديد"، إلى أن الكثير من الجرائم المرتكبة أُغلقت بلا محاسبة، لأن المتورط بها كانوا أفراد المليشيات.
ويؤكد قانونيون أن قضية الفصائل المسلحة وعدم التعاطي معها وفقاً لسلطة القانون، أساءت بشكل كبير إلى السلطة القضائية في البلاد. وقال عضو نقابة المحامين العراقيين جاسم الساعدي، لـ"العربي الجديد"، إن "قيادات الفصائل والأحزاب المرتبطة بها، تمارس ضغوطاً مختلفة على الحكومة والسلطة القضائية، إذا تم القبض على أي من عناصرها متلبساً بجريمة معينة. ليتم بعد ذلك استثناؤه، والتعامل معه بخصوصية، ومن ثم إطلاق سراحه، الأمر الذي انعكس سلباً على مهنية وحيادية القضاء". وأشار الساعدي إلى أن "القانون واحد، والناس متساوون أمامه، بغض النظر عن مناصبهم وانتماءاتهم. أما إذا استمر تطبيق القانون بانتقائية، واستثناء بعض الجهات منه، فستكون تداعيات ذلك سلبية على الأمن وعلى سمعة القضاء العراقي". وأكد "أن على الحكومة أن تفرض سلطتها على عموم البلاد، وأن تدعم تطبيق القانون على الجميع من دون استثناء، مع تحصين مؤسسات الدولة القضائية وغيرها، من أي تهديد أو ضغط من قبل الفصائل المسلحة".