رغم فداحة العدوان الإسرائيلي المتواصل على الشعب الفلسطيني واستمراره، وبعد زخم شعبي صاحب هذا العدوان في أيامه الأولى، إلا أنه في الأيام الأخيرة، لوحظ خفوت التفاعل الجماهيري المصري غير الرسمي، لاسيما في الجامعات والنقابات والأحزاب، ما اعتبره متابعون "أمراً مثيراً للدهشة"، في ظل وجود حالة من التسامح الرسمي هذه المرة مع الفعاليات، وصلت إلى حدّ دعوة السلطة الجماهير للتظاهر في أكثر من مناسبة.
بدا للمتابعين أن السلطة "كبحت جماح التظاهر الداعم للقضية الفلسطينية في الشارع" خشية خروجها عن السيطرة، وجنوح الجماهير لربط القضايا العربية ببعضها البعض، سواء الاحتلال العسكري أو الحكم العسكري، إلا أن نقابيين تحدثوا لـ"العربي الجديد"، اعتبروا أنه "بفرض وجود ضغوط رسمية لكبح جماح التفاعل، فإن النقابات والأحزاب يمكنها التحرك بشكل أفضل خلال الأزمة، مع الحرج البالغ الذي يمكن أن تواجهه أي سياسات قمعية بحق ذلك التفاعل".
على مستوى الجامعات يبدو المشهد خافتاً جداً، فلا فعاليات مطلقاً لمناصرة القضية عقب هبة طارئة قادها طلاب متحمسون في بداية العدوان، وتبيّن أن السلطة شجعت هؤلاء على الانطلاق والتعبير عن غضبهم لتفريغ شحنة الغضب.
هتافات دعم المقاومة ممنوعة
فقد قالت الطالبة بكلية التجارة بجامعة القاهرة علا هاشم، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن أفراداً بزي مدني كانوا يوزعون الأعلام الفلسطينية وأوراقاً تتضمن هتافات محددة خاصة بالقضية الفلسطينية فقط، وإدانة العدوان، من دون هتاف دعم المقاومة، لاسيما أنه من عينة الهتافات التي حاول طلاب الخروج بها عن النص، كهتاف: "يا قسام يا حبيب دمر دمر تل أبيب".
وأضافت أنه جرى إسكات هؤلاء الطلاب، لافتة إلى أن الأمر "استغرق أسبوعاً على الأكثر، ثم ماتت الفعاليات بالسكتة". وتابعت: "بل وغير مسموح بالتجمع أو التظاهر لفلسطين مطلقاً إلا بإذن لا يحصل عليه طالبوه أبداً"، وهو ما عزته هاشم إلى أن الحكومة "كانت تريد إيصال رسالة ما لجهات ما وحققت فرصها وانتهى الأمر".
فعاليات النقابات المصرية
في نقابة الصحافيين، انعقدت أمس الأول الأربعاء، ساعة احتجاجية تحت شعارات "لا للتهجير.. لا للتوطين.. أوقفوا العدوان على غزة.. التهجير خط أحمر"، وذلك لـ"التصدي لمخطط التهجير المجرم للشعب الفلسطيني"، ورفض الفيتو الأميركي (على وقف إطلاق النار)، و"تورط الدول الغربية ومشاركتها، ودعمها لحرب الإبادة الصهيونية في حق الشعب الفلسطيني".
وشهدت الساعة الاحتجاجية فعاليات متزامنة بمقر النقابة، وفي مقرات الصحف، رفع خلالها المشاركون لافتات تدعو لوقف الحرب، وكسر الحصار عن الشعب الفلسطيني. كما حملوا صور مجرمي الحرب من الصهاينة، والقادة الغربيين عليها شعار مجرم حرب، مطالبين بإحالتهم للمحكمة الجنائية الدولية.
وانتشرت في مبنى نقابة الصحافيين بوسط القاهرة، لافتات دعم للفلسطينيين وكشف جرائم الاحتلال في أروقته، إلى جانب عرض مشاهد من العدوان على الشاشات داخل المبنى، وتعليق قوائم لشهداء فلسطين من الصحافيين في بهو النقابة.
ونظمت الأخيرة أكثر من فعالية استضافت خلالها فرقة فلسطينية وشخصيات فلسطينية ومعنية بالقضية للحديث عنها، كما أطلقت حملة لتوثيق جرائم الاحتلال، مع الاستجابة لطلبات مقدمة من صحافيين اقتطاع نسبة من دخولهم لصالح دعم غزة.
تكبيل صوت النقابات
"غير أن ذلك غير كاف"، بحسب صحافيين كتبوا على مجموعات للصحافيين على منصتَي "فيسبوك" و"واتساب" مطالبين مجلس النقابة بتفعيل دور أكبر، بالتعاون مع منظمات الصحافة الدولية، من أجل تحقيق مطالب ملحة وعاجلة ومؤثرة، مثل وجود الصحافيين على معبر رفح الحدودي مع القطاع، وتسهيل دخولهم إليه، والتواصل مع المنظمات الأممية لتجاوز مستوى التنديد إلى الفعل.
عضو بمجلس النقابة تحدث لـ"العربي الجديد"، متحفظاً على ذكر اسمه، أوضح أن المجلس "مكبّل لا بضغوط أمنية مباشرة، ولكن غير مباشرة، ممثلة في أعضاء بالمجلس مقربين من السلطة وموجودين في المجلس بدعمها".
وأضاف أن هؤلاء "يعرقلون أي قرارات يتقدم بها ثلاثة أو أربعة أعضاء محسوبين على تيار الاستقلال ولديهم الحماس للذهاب لأبعد مدى في دعم القضية".
وتابع: "أحيانا يتم، عنوة، تمرير طلبات مقدمة من صحافيين للمجلس، والذي يمررها بدوره إلى الجهات المعنية، لتدخل الثلاجة من دون رد بالرفض أو القبول". ومن هذه طلبات "السماح بدخول صحافيين مصريين وأجانب للقطاع لفضح جرائم الاحتلال"، معتبراً أن عدم الرد "يعني ضمنياً الرفض".
دور واضح للنقابات الكبرى في مصر
عضو المجلس الأعلى لنقابة المهندسين المصريين، المهندس محمد الواضح، رأى في حديث لـ"العربي الجديد"، أن النقابة "قامت بدور واضح وكاف لمناصرة القضية الفلسطينية ورفض العدوان على غزة، حيث فتحت حسابات بنكية لدعم صمود أهل غزة، وأطلقت قوافل مساعدات لدعم القطاع، ونظمت حملات تبرع بالدم لعلاج الجرحى وشاركت في تظاهرات لإدانة العدوان".
وتابع: "عقدنا اجتماعاً موسعاً بنقابة المهندسين، لاتحاد المهندسين العرب، شاركت فيها السفارة الفلسطينية، لإدانة المجازر الصهيونية في غزة، وطالبنا بوقف فوري لإطلاق النار ودخول المساعدات بكميات كافية لمواطني القطاع"، إلى جانب "حث دول العالم على إعادة إعمار غزة، والوقوف حائلاً دون تكرار مثل هذا العدوان الهمجي".
وأشار الواضح إلى "تنظيم اللجنة الثقافية بالنقابة العديد من الندوات لمناصرة القضية الفلسطينية، شاركت فيها تجمعات مصرية وعربية". وأشار إلى أن النقابة طالبت "بضرورة حشد الجهود لإنهاء العراقيل الصهيونية أمام فتح معبر رفح ودخول المساعدات"، معتبراً أن "هذا ما تستطيع القيام به نقابة المهندسين وأي نقابة مهنية لمناصرة القضية".
ورفض بالتالي القول "إن دور نقابة المهندسين في مناصرة القضية الفلسطينية قد خفت أو تراجع".
من جهته قال عضو مجلس نقابة الأطباء في مصر، الدكتور أحمد حسين، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "صوت النقابات في مصر، خصوصاً النقابات الكبرى (أطباء ومهندسون ومحامون وصحافيون) كان واضحاً في رفض العدوان على غزة".
وأضاف أن "نقابة الأطباء فتحت الباب أمام التبرع لإغاثة غزة، وقدمت قوائم بمئات الأطباء الذين أبدوا استعدادهم لدخول القطاع، فيما تلقى بعضهم دورات تدريبية في الهلال الأحمر". يأتي ذلك فضلاً عن "تظاهرات عديدة أمام مقر هذه النقابات للمطالبة بوقف العدوان والتضامن مع القطاع المحاصر".
حسين: قيود إسرائيل على المعابر منع ظهور جهد النقابات
وأشار إلى أن "العديد من النقابات المهنية في مصر، ومنها الأطباء، شاركت في تسيير قوافل مساعدات لغزة، ووصلت رموز منها إلى المعبر (رفح) بصحبة مئات الأطباء"، لافتاً إلى أن "القيود التي فرضتها إسرائيل على المعابر حالت دون ظهور جهد النقابات المصرية في إغاثة غزة".
وتوقّع حسين أن "تصدر النقابات المهنية المصرية موقفاً أقوى، عبر حشد جميع النقابات وراء مطلب بفتح معبر رفح والسماح بدخول دروع بشرية لغزة". لكنه تابع: "لا يبدو أن النقابات المصرية شأنها شأن جميع مؤسسات المجتمع المصري قادرة على دفع ثمن تبني مثل هذه الموقف القوي".
ورأى أن "تغير موقف العديد من دول العالم ودعوة الكثير منها إلى وقف العدوان على غزة، وتضامن شعوب العالم مع الفلسطينيين والمطالبة بفرض حل الدولتين وإنهاء الحصار على القطاع، أسهم في ملاحظة وجود حالة تراجع في زخم تضامن النقابات المصرية".
الانشغال بالانتخابات الرئاسية في مصر
القيادي في حزب "المحافظين"، مجدي حمدان، عزا في حديث لـ"العربي الجديد"، تراجع تفاعل الأحزاب السياسية مع الأحداث في غزة أخيراً، إلى "الانشغال بالانتخابات الرئاسية في مصر".
وأضاف أنه قبل ذلك "كان هناك اهتمام كبير بالقضية الفلسطينية وحرص على مناصرتها من عدد من تلك الأحزاب، والتي ساهمت في دعم قوافل الإغاثة وطالبت بضرورة فتح المعبر وبذل جهود مكثفة لوقف العدوان".
من جهة ثانية لا يعتبر حمدان أن دور الأحزاب في مناصرة القضية الفلسطينية ووقف العدوان على غزة كاف، "انطلاقاً من أنه لا توجد أحزاب في مصر بشكل تقليدي، ولا توجد سياسة بالمعنى المعروف، باستثناء الأدوار التي تقوم بها أحزاب المصالح".
حمدان: صمود المقاومة الفلسطينية خلق نوعاً من التراخي لدى القوى السياسية
ونفى ما يردده البعض من تأثير أي ضغوط أمنية على الأحزاب لمناصرة القضية الفلسطينية، ورفض العدوان باعتبار أن "موقف النظام المصري الرسمي يرفض هذا العدوان"، مشيراً إلى أن أمانة المرأة بحزب "المحافظين" نظمت ندوة عن اضطهاد المرأة في غزة نتيجة العدوان الإسرائيلي، وحاضر فيها المحامي الفلسطيني شعبان درير من دون أية مضايقات.
واعتبر حمدان أن "صمود المقاومة الفلسطينية وانتصاراتها، خلق نوعاً من التراخي في صفوف القوى السياسية، والتي بدا صوتها عالياً في الأيام الأولى للعدوان، خوفاً من نجاحه في ابتلاع غزة وتصفية القضية الفلسطينية".
وفي السياق، قال الناشط السياسي المصري الفلسطيني، رامي شعث، في حديث لـ"العربي الجديد" إن النظام يخشى من أي حراك للشعب المصري، وقد جرب بداية الحرب، استغلال تظاهرات لصالحه حيث "طلب من الناس التفويض، فلم يفوضه أحد". وتابع: "قالت الجماهير إنها نزلت من أجل دعم فلسطين، لأنها تعلم أنه متورط في حصار قطاع غزة".
وأضاف شعث أن "الخشية من حراك الشعب، مصدرها العلم بأن أي حراك سينتهي بالهجوم على النظام، والتعبير عن الغضب من التواطؤ مع الاحتلال، والدم الفلسطيني، والفقر، وتزوير الانتخابات، والقمع، والاعتقالات، واستمرار انحدار بلادنا إلى المجهول".
وقال إن النظام "مستمر في قمعه واستخدام آلته الأمنية ولذلك قلت المظاهرات، فقد اكتشف أنه لا يستطيع استخدامها، وأنه إذا سمح بتحريك مجموعة من الناس، فإنها ستتحول ضده".