دفع نجاح إجراء الانتخابات البلدية في عموم ليبيا إلى طرح تساؤلات حول العراقيل الحقيقية التي تقف أمام إجراء الانتخابات العامة، رئاسية وبرلمانية، وإمكانية أن تشكل الانتخابات البلدية أرضية يمكن البناء عليها لإنجاز تفاهمات يمكن أن تُحدث اختراقات في جدار الجمود السياسي المهيمن على المشهد في ليبيا منذ سنوات.
ووفقاً للأرقام والإحصاءات التي نشرتها المفوضية العليا للانتخابات، فإن نسبة المشاركة في الاقتراع، الذي جرى يوم السبت الماضي في 58 بلدية، بلغت 76% من مجمل المسجلين في المنظومة الانتخابية، وهم 186 ألفًا و55 ناخبًا، يتوزعون على 29 بلدية في المنطقة الغربية، و15 بلدية في المنطقة الشرقية، و14 بلدية في المنطقة الجنوبية. وأكدت المفوضية عدم تسجيل أي اختراقات في كل مراكز الاقتراع، مشيرة إلى مشاركة قرابة 24 ألف ضابط وضابط صف وفرد في تأمينها في كل البلديات.
وفيما ينتظر أن تعلن مفوضية الانتخابات عن المرحلة الثانية من الانتخابات البلدية والتي ستستهدف عددا آخر من البلديات، اعتبر رئيس مجلس النواب عقيلة صالح أن نجاح الانتخابات البلدية دليل على أن الظروف التي جرت فيها تؤكد توفر أرضية مناسبة لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية "التي لا يوجد مبرر لتأخيرها"، وفقا لما نشره المكتب الإعلامي لمجلس النواب.
من جانبه، اعتبر رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة أن مسار الانتخابات البلدية التي جرت بشكل سلسل وآمن "دليل آخر ضد من يحاول اختراع مراحل انتقالية جديدة شرطا لإجراء الانتخابات"، مؤكداً أن صناديق الاقتراع التي اختار عبرها الليبيون عمداء بلدياتهم، هي نفسها الصناديق التي يمكن من خلالها اختيار سلطات بلادهم التنفيذية والتشريعية الجديدة، متهما من وصفهم بـ"الممدِدون لأنفسهم بعدم صياغة قوانين انتخابية عادلة وقابلة للتطبيق، ومصادرة إرادة الشعب"، بحسب ما نشره المكتب الإعلامي للدبيبة.
أما محمد تكالة وخالد المشري، المتنازعان على شرعية رئاسة المجلس الأعلى للدولة، فقد ثمّنا نجاح الانتخابات البلدية، وأكدا أنها دليل على إمكانية إجراء الانتخابات الرئاسية والنيابية في البلاد.
وتعليقا على هذه التصريحات، أكد عضو حزب الإصلاح الديمقراطي عبد الحكيم المختار، في حديث مع "العربي الجديد"، أنها "تأتي في سياق محاولة كل منهم تبرئة ساحته من تهم العرقلة، لكن الحقيقة غير ذلك، فكلهم لا يرغبون بالانتخابات التي تقصيهم عن السلطة، والانتخابات البلدية كشفت زيفهم". وتساءل المختار قائلاً: "إذا كان الجميع متفقين على أن الظروف مهيأة للانتخابات الرئاسية والبرلمانية، فمَن المعرقل وما سبب العرقلة؟... ربما الجواب عند مفوضية الانتخابات التي نجحت في تنظيم الانتخابات البلدية، أما في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية (نهاية 2021)، فأعلنت عن تعرقلها وتوقفها بسبب ما سمته بالقوة القاهرة، وعليها أن تكشف الآن عن تلك القوة القاهرة ما هي ومن المسؤول عنها؟".
وفيما يؤكد المختار أن العرقلة الرئيسية "مصلحة كل هؤلاء القادة في البقاء، وأن تصريحاتهم هذه هي خطابات سياسية مستهلكة لا تخفى حقيقتها على المواطنين"، يلفت إلى جانب آخر كشف عنه نجاح الانتخابات البلدية، ويتعلق بـ"تغير الظروف نحو ضرورة التغيير، فالحقيقة أن هؤلاء القادة هم الذين سمحوا بإجراء الانتخابات البلدية، لا لاستحقاقها الوطني، بل محاولة منهم جميعا لترقيع ما يمكن ترقيعه من خلال البلديات لتلافي السخط الشعبي المتزايد إزاء انهيار الحالة المعيشية للمواطن.. تآكل شرعيات هذه البلديات سيطاول شرعية المؤسسات الأساسية حتى يصل إلى أزمة تحيط بكل القادة وترغمهم على القبول بالانتخابات".
وفي وقت يعبر فيه المختار عن تفاؤله بوعي المواطنين بأهمية الانتخابات من خلال الإقبال على المشاركة فيها، يلفت الناشط السياسي محمود المسعودي من جهته إلى أن عدد المشاركين في الانتخابات البلدية مؤشر إلى إحباط يعيشه المواطن حيال الاستحقاقات الانتخابية.
ويقارن المسعودي بين عدد المشاركين في الانتخابات البلدية (186 ألف ناخب)، وبين المسجلين في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية عام 2021 البالغ ثلاثة ملايين ناخب، مضيفا "هناك خلفيات وأسباب أخرى لا بد أنها دفعت البعض للمشاركة في انتخابات البلديات، فهناك من اضطرته الولاءات للمشاركة في دعم مرشح قبيلة ما أو جهة ما، وهناك المجموعات المسلحة التي دعمت شخصيات بعينها للتنفيذ داخل البلديات".
ويتساءل المسعودي في حديثه لـ"العربي الجديد"، عن الشفافية في انتخابات 15 بلدية في الشرق و14 بلدية في الجنوب في ظل سيطرة حفتر وقواته، "وخاصة أن مفوضية الانتخابات لم تكشف عن نسب المشاركة وحجمها في انتخابات هذه البلديات، وربما السؤال الرئيسي هو كيف يمارس هؤلاء المنتخبون في كل البلديات الإدارة المحلية، ولمن يتبعون لحكومة الشرق أم الغرب؟".
ويرى أن الانتخابات البلدية على صلة بخريطة مصالح المتصارعين في الساحة السياسية "وجاءت لإعادة هيكلة النفوذ في عدد من المناطق، فبالنظر إلى خريطة توزيع الـ58 بلدية نجد أنها تقع في مناطق مهمة بالنسبة لمن يرغب في التمدد داخل مناطق جديدة، ولهذا لم يكن من بين هذه البلديات مدن كبرى مثل طرابلس أو بنغازي التي يتمركز فيها النفوذ الأساسي لأطراف الصراع، ولهذا فإن الأمل بإجراء الانتخابات العامة لن يكون إلا بالحراك المجتمعي وضغطه، وأيضاً بتغيّر مصالح المتدخلين من الخارج الذين يقدمون الدعم لبقاء القادة من أجل مصالحهم".